هذه العبارة البديعة التي اخترتها لتكون عنواناً لحديثي في هذه الزاوية سمعتها لأول مرة في طفولتي، ثم تكرر سماعي لها في شبابي وكهولتي، وكان لها إيقاع آسر، ومبهج، بوصفها تعبيراً عن قيمة روحية وأخلاقية، وقانوناً للتعايش بين الأجناس المختلفة، فضلاً عن دورها في إشاعة الألفة والتسامح بين الأهل وأبناء الوطن الواحد.
لكن ما يؤسف له ويجرح الوجدان، ويؤرق المنام، أن المعنى الكبير الكامن وراء هذه العبارة، وهو التسامح، كان بدأ منذ وقت غير قريب يتلاشى، وتبتعد ظلاله عن حياتنا، ويحل محله كابوس ثقيل من الخصومات التي ارتقت إلى درجة الحقد، ومنها إلى مرحلة الاحتراب ونسيان كل قيمة روحية، أو أخلاقية تدعو إلى الألفة، والتسامح، والتعالي عن ردود أفعال المواقف الآنية، وما يحدث أحياناً، أو دائماً من خلافات داخل البيت الواحد، وبين أفراد العائلة الواحدة.
إن المتسامح هو الأكرم، هذا ما يشير إليه معنى العبارة السابقة، وموضوع هذه الإشارات، إلاَّ أن أبواب الخلافات، وفي هذه اللحظة القاتمة كثيرة ومفتوحة على الساحات، لا مدى لها من الخلافات، أو الاختلافات التي يمكن تداركها بالكلمة الطيبة، والتسامح الكريم، وبالمقابل يمكن أن تتصاعد، وتستشري وتقود إلى معارك لا تُبقي، ولا تذر، وبما أن لكل إنسان عقلاً قادراً على التوازن، وعلى إدراك المخاطر قبل أن تقع، فإن غياب هذا العقل أو فقدانه للتوازن المطلوب فالإنسان يتحول إلى قوة مدمرة تسوق نفسها، وغيرها إلى الهلاك، من دون مبرر، وبلا مقابل سوى إرضاء النزعة الذاتية الخالية من الإحساس بأهمية الحياة، وعدم التفريط فيها تحت ضغط عوامل لا تفرق بين الخير والشر، ولا بين البقاء والفناء، وهي حالة لا تصل إليها الحيوانات التي يعتقد الجميع أنها لا تملك عقلاً، ولا وازعاً من أخلاق أو ضمير، وإنما تسيرها الغريزة وحدها.
يا الله! كم تبدو المجتمعات البشرية المتسامحة على درجة عالية وراقية من الأمن والاستقرار والرخاء. وكيف تسير حياة الإنسان في هذه المجتمعات الفاضلة، والمتسامحة هادئة هانئة لا يكدِّر صفوها قلق، ولا خوف، ولا يعترض السالكين في طرقاتها حواجز، ومصدّات من أي نوع كان، كل شيء يجري بنظام وانتظام. وفي مقابل هذه الصورة الزاهية الواقعية التي تعيش الآن على الأرض، تقابلها الصورة الأسوأ والأدنى، صورة المجتمعات التي افتقدت كل المقومات الأخلاقية والروحية، وتحولت إلى ميادين للقتل والاحتراب لا مع الأعداء والمتربصين بها، وإنما مع بعضها بعضاً، استجابة للعنة لا يدري العقلاء حتى الآن مصدرها، هل هبطت من الملأ الأعلى أم من العالم السفلي، حيث المردة والشياطين، وأعداء كل معنى من معاني التسامح والنقاء. وما يبعث على الأمل أن نقرأ تلك الأبحاث العلمية التي تصدر عن باحثين عرب وأجانب متخصصين في دراسة أوضاع المجتمعات البشرية، ومنها مجتمعنا العربي.
وفي مقدمة ما تشير إليه هذه الأبحاث أن القاعدة الشعبية العربية التي تشكل 90% من سكان الوطن العربي لا تزال محافظة على تكوينها التسامحي، مؤمنة بعفوية مطلقة، والتزام طبيعي بمبدأ التعايش، والمشكلة -كما تشير تلك الأبحاث- تقع على عاتق بعض من لا يثقون بشعوبهم، لذلك فهم يسعون جادين إلى حشر مواطنيهم في صراعات وخلافات حول قضايا لا وجود لها في الواقع، أو أنها وجدت في عصرنا واندثرت، يضاف إلى هذا النوع من الناس بعض القوى المتحزبة من دون وعي برسالة الأحزاب، فيقتصر عملها على إثارة الخلافات والمنازعات بهدف الكسب الحزبي والاستقطاب الطائفي، أو المذهبي، لكي تصل إلى الحكم، وهنا تتجلى أبعاد المشكلات التي قادت الوطن العربي، أو بعض أقطاره، إلى المحنة التي تعانيها، وتدفع بأبنائها إلى الاحتراق في جحيم صراع دموي ما كان له أن يحدث، أو يسمع العالم عنه شيئاً.
*الخليج الإماراتية
[email protected]