لا أدري إذا كان الحوثيّون قد اكتشفوا أهمية "اللعب بالماء"، عقب قصفهم "بارجتين" سعوديتين، في مضيق باب المندب البحري أخيرا، أم إن الأمر لم يكن غير "محض مصادفة"، أملتها ظروف الصراع المحتدم في اليمن، غير أن المهم في هذا "اللعب" هو إعادة التركيز على "المليونير العربي الفقير" الذي لا يعرف قيمة ما يملك، مقابل فتات المعونات التي اعتاد على تسوّلها من الآخرين، ولا ريب أن "المندب" واحدٌ من تلك الثروات المجهولة.
والحال أن حكاية المليونير الفقير تتكرّر كثيرًا في الشارع العربي، ولا أعني بها الاكتشافات التي تظهر بين حينٍ وآخر، لشحّاذين امتهنوا التسوّل، ثم تبيّن، بعد موتهم، أنهم يملكون ثروات طائلة، فمثل هذه النماذج تحترف الفقر، طوعًا، وتدرك جيدًا مبلغ ثرواتها التي تأبى التنعّم بها في حياتها، بل المقصود المليونير السياسي العربي الذي يظهر أمام العالم، وعلى طاولات المفاوضات، متسوّلا معونات ومواقف، في حين تفيض جغرافيته بكنوز كفيلة بجعله يتصدّر الطاولة، ويفرض شروطه.
لم يتقن مثل هذا المليونير، في حياته، لا اللعب بالماء ولا النار، ولا التراب حتى، على الرغم من أنه معفّر به، من رأسه حتى أخمص قدميه، فهو من الذين امتثلوا لأغنيتهم "الحكيمة"، وفضّلوا أن "لا يلعبوا بالنار"، خشية احتراق أصابعهم. وبالطبع، سحبوا النار على كل شيء آخر يمكن أن يعود عليهم بوجع الرأس، على الرغم من أن هذا "اللعب" يتفوّق، في بعض الفترات، على سائر صنوف "الجدّ"، خصوصًا في الحروب المصيرية، أو حين تعيش الكرامة الوطنية والقومية اختبارًا عصيبًا، وما أفدح الاختبارات التي عاشتها الكرامة العربية، تحديدًا، طوال العقود الأخيرة.
لو أن العرب استعادوا اللحظة التشرينية اليتيمة عام 1973، التي أغلقوا فيها باب المندب؛ لمنع وصول المساعدات العسكرية إلى إسرائيل، في تلك الحرب العظيمة؛ لأدركوا أهمية ما يمتلكون، فعلًا، ففي تلك الحرب، حصرًا، لعب العرب بالماء، فأخضعوا العالم لشروطهم، كما لعبوا بالنار حين أوقفوا صادرات النفط إلى الغرب "الديمقراطي"، الذي لم تكن تستقيم ديمقراطيته إلا في مؤازرة إسرائيل على حساب الحقوق العربية، فكان أن تنادت دوله محمومةً؛ لإيجاد مخرج للأزمة. وفي المحصلة، لم تحترق الأصابع العربية، لا بالماء، ولا بالنار، بل احترقت أصابع أعدائهم بالاثنين معًا.
غير أن الدرس التشريني سرعان ما قفز عليه حكّام عرب يمتهنون الفقر والذل، ويتيحون لأعدائهم أن يلعبوا بمائهم ونارهم وترابهم كيف شاءوا، وليرتدّ الحريق ليس إلى الأصابع العربية فقط، بل إلى الجلود والكرامة الجمعيّة برمتها.
أغلب الظن أن هؤلاء الحكّام المليونيرات يعرفون مبلغ الثروات العربية، وفي استطاعتهم أن يعدّوا منها: مضيق باب المندب، ومضيق جبل طارق، وقناة السويس، والتي يكفي التلويح بإغلاق واحدٍ منها، أن يخلط أوراق العالم برمته؛ هذا عدا البترول وثرواتٍ أخرى، غير أن مثل هؤلاء، استبقوا أي محاولة للعب، بتضميد أياديهم وأفواههم، واكتفوا بأن يلعبوا بأصابع أقدامهم فقط، أمام مخاطر انقراض الوطن العربي برمّته.
وحدهم الحوثيون من أعادوا التركيز على إحدى الثروات العربية المهولة، على الرغم من اختلافي معهم، في استهداف ناقلتي نفط، أو بارجتين حربيتين سعوديتين، فقد كنت أتمنّى لو أنهم قصفوا بوارج إسرائيلية، لا عربية، على الرغم من الدور الغامض الذي تلعبه قوى التحالف العربي في اليمن، بيد أنه، وعلى قاعدة المثل "ربّ ضارة نافعة"، أرى أن من شأن هذه الحادثة أن تهزّ أركان النظام العالمي، نظرًا للأهمية الفادحة التي يلعبها مضيق باب المندب، عالميًّا، والذي يعبره أزيد من 21 ألف قطعة بحرية سنويًّا. ولعل هذا اللعب يبرهن لأسياد الذل العربي في قصورهم "الفقيرة" أن من يغرقْ بالماء هو من يعشْ على برّ الخوف، وأن من يحترقْ بالنار هو من لا "يلعبْ" بها.
* عن العربي الجديد