قاسم قائد
غالب قائد
عبده قائد
ثلاثة أشقاء ماتوا جميعا، ينتمون لجيل جدي، أي أنهم جيل ما قبل 80 سنة على الأقل عندما كانوا شبان وقتها.
أتخيل هؤلاء الثلاثة عندما كانوا شبان، ويسكنون القرية التي عاشوا فيها، وهي قرية صغيرة تقع في زاوية القرية الكبرى الي انتمي إليها.
كان عدد السكان حينها قليل جدا، لربما كانوا هم الوحيدون في ذاك المكان، وفي أقل الأحوال كان إلى جانبهم أسر بسيطة بعدد أصابع اليد إن لم يكن أقل.
كل واحد من هؤلاء أصبح لديه احفاد بما يشكلون قرية إضافية، ما عدا "غالب" الذي لم يكن له الحظ في الأولاد، رحمهم الله جميعا.
وهؤلاء الثلاثة هو تعبير عن جيل من السكان الأولين، والذين إذا احصيتهم لن يصلوا في مجملهم إلى بضعة أسر تناسل منها أسر جديدة بفعل الوراثة وتقادم الأيام.
ما اتخيله كطفل نشأ في تلك القرية، هو كيف عاش الناس حينها في ظل ذلك العدد البسيط من السكان، والمساحة الكبيرة من البلد، فقريتنا جميلة وزراعية ومليئة بالمياه، التي ربما بدأت تنضب في الأيام الأخيرة.
كيف كان هؤلاء السكان القليلون يعيشون في تلك القرية، ويتنقلون بين أزقتها وأشجارها وطرقاتها، أتخيل طفولتي القريبة كيف كانت جميلة وممتعة رغم الزيادة في عدد السكان، وأعود لأتخيل كيف عاش هؤلاء زمنهم الجميل، وهم يمرحون في ظلال تلك القرية التي ربما كانت تشبه غابة استوائية بكثرة مياهها وأشجارها وثمارها ودفئها، خاصة انها تقع في مكان تحتضنها الجبال من جهاتها الثلاثة.
كانت القرية كلها غابات من الأشجار المعمرة والمثمرة والزراعية، وكانت الأرض تروى عبر السواقي "الجداول"، ولا يوجد أي أثر للحياة المعاصرة، فحتى مياه الشرب كانت تُجلب بالأواني القديمة المصنوعة من الفخار، والمنازل عبارة عن احجار وضعت فوق بعضها لتقيهم حر الشمس وبرد المطر وهواء النهار، وهي خالية تماما من "دورة المياه" وعلى القاطنين في المنزل أن يخرجوا صباحا في وقت مبكر ، ومساء بعد المغرب لقضاء حاجتهم في الخارج والعودة.
لا يوجد أثر يؤكد أن ثمة إنسان سكن في هذه القرية (قريتنا) قبل ثلاثمائة عام مثلا، شيء وحيد فقط يثبت أن وجود إنسان عاش وتغلب على الحياة بهندسة بديعة، وهي السدود (البرك) التي تم شييدها منذ فترة غير معروفة التأريخ، من خلال اختيار المكان المناسب، وجرى تشييدها بالحجار الصلبة ومادة الإسمنت القديمة التي كانت تجهز من مواد محلية لديها القدرة على مقاومة الصدأ والمياه والبقاء لسنوات طويلة.
جرى اختيار المكان أولا، وبعد ذلك تم شق طريق الماء عبر الجداول في الشعاب والأودية، وبناء الروافع المساعدة لها من الجدران في بعض الأماكن، وبناء الأنفاق المائية أيضا في أماكن أخرى والتي تسمى "مجل" ويتم ذلك عبر شق أخدود وسط التراب كالقبر ثم بناء الحجار في جوانبه على التراب، ثم سقفه في الحجار، بحيث يجري الماء من تحت الأرض عبر طريقه الخاص، وصولا إلى فتحة أخرى يخرج منها، ويمتد ذلك لعشرات الأمتار.
تلك الجداول تنقل الماء من مكان لآخر ويستفيد منها كل المزارعين، ولا توجد قطعة أرض في القرية إلا ولها "بركة" تُسقى منها، وحتى "البصائر" التي بحوزة الناس تذكر بالإسم عن اي قطعة أنها تسقى من البركة الفلانية.
مثلت تلك الجداول أرقى وأعظم ما توصل له العقل الانساني في تأريخ هؤلاء، إذ أنها جاءت لتلبي حاجة ملحة في ري الأرض، ووفرت العدالة في توزيع المياه للجميع، وصار لتلك الطريقة من الري أحكامها وقواعدها المتعارف عليها بين الناس، وإلى جانب منظرها الفاتن وسط القرية كما وصفها الشاعر والجداول تُرى متلاوية مثل ثعبان" تحولت أيضا إلى علامة من علامات الحدود بين الأراضي الزراعية التي يملكها السكان، حيث تحدد قطعة الأرض الفلانية مثلا فوق "الساقية" أو "تحت الساقية".
عاش الناس حياة هادئة مليئة بالسكينة والهناء والود وبدون أي عامل يعكر صفو حياتهم وما يتصل بمعيشتهم، سوى بعض التسلط من المشائخ سابقا أو ربما من الدولة بعفل الضرائب الباهظة.
خلال الأربعين سنة الماضية تغيرت أجواء القرية بشكل كبير، ذهب الجيل السابق بخيره وبركته، وظهرت ملامح قرية مختلفة، وصلتها الكهرباء والهاتف والطريق والبناء الحديث، لكن فقدت ألقها وبساطتها، والأرض الزراعية تتقلص من عام لآخر بفعل الزيادة السكانية، وساهمت الحرب الأخيرة من العام 2014م في عودة الناس للبناء على الأرض في القرية بسبب وجود الحرب في المدن، وخلال الأربع سنوات الأخيرة ارتفعت نسبة المنازل الجديدة إلى نسبة كبيرة ربما تعادل ثلث نسبة المنازل التي كانت موجودة في السابق.
ليس هذا فحسب، بل إن أشجارا معمرة انتهت أيضا، بعد أن كانت تمثل أحد معالم الأرض وزينتها، وتلاشت ملامح تلك الجداول المعمرة بعد أن تم الاستعاضة بأنابيب الحديد لنقل المياه، فانقرضت الأشجار والطيور التي كانت تشرب وترتوي من تلك الجداول على امتدادها من المنبع إلى المصب، ورغم أن تلك الأنابيب أمنت وصول المياه كاملة، لكن كانت لها نتائج سلبية كارثية، لعل أبرزها حرمان الطيور والهوام والشجر من الماء، ومع ذلك انخفضت نسبة المياه بشكل كبير، وكما يقول المثل "كثرت الأحذاق فقلت الأرزاق".
يحصل هذا في ظل تراجع كبير لنسبة المحصول الزراعي الذي كانت تنتجه القرية قبل ثلاثين سنة مثلا، بل إن كثير من تلك المحاصيل اندثرت تماما، بسبب التوسع في زراعة القات، وقلة المياه، وارتفاع عدد السكان، والاعتماد الكلي للناس على شراء أغراضهم من الأسواق.
أصبحت القرية اليوم تمثل شكلا من أشكال المدينة بملامحها الحضرية، لكنها فقدت ألقها القروي الريفي الجميل، وكانت يوما ما تحصل على كل أغراضها المتعلقة بالأكل والشراب من تربتها ومن جهد أبناءها اليومي، واليوم بالكاد يحصل الناس فيها على موضع قدم للبقاء، فقد تغيرت كثيرا، ومثلها تغير الناس أيضا.