قد يستهجن البعض النبش في صفحات تاريخ علي صالح الذي حمل هم الحفاظ على السلطة ولكنه لم يمتلك فكرة بناء الدولة، لأنه من الضرورة بمكان إعادة قراءة أحداث التاريخ اليمني المعاصر حتى تقف الأجيال عنده للعبرة والتمعن في الأحداث التي كانت سبباً للكوارث التي أحدثها من كان قبلهم، وحتى لا تتكرر وتصاب الأجيال ثانية بها، كان علي صالح ذو شخصية جدلية أخذت حيزاً كبيراً من تاريخ اليمن المعاصر بأحداثه المتباينة لأنه كان يلعب على النقائض كلها والتي كانت عبارة عن خليط من صور الصراع والأخطاء التي أعقبت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر وقليلاً من إرث حكم الإمامة مع فارق الزمن الذي عاش فيه والشخوص الذين رافقوه، وبسبب طول مدته في الحكم التي تزامنت مع تقلبات الأحداث الدولية والإقليمية والمحلية من حوله، وما تطرقنا لأخطاء الرجل وأسلوبه في التعاطي مع الأحداث ومنهجية حكمه إلا خدمة للأجيال والاستفادة منها سلباً وإيجاباً وليس بغضاً أو حقداً على شخصه إذ كلاً منا يخطئ بقدر حجمه ويصيب بحجم قدرته.
عاش الرجل حياته الأولى في ظروف ريفية فقيرة شديدة القسوة والتعقيد، فتشكل بداخله إنسان كان عبارة عن مزيج من العنف والفقر والشعور بالنقص وحب الظهور والانتقام من كل شيء، أدرك بتجربته ومراسه كيف يقود مشايخه القاهرين، وأقرانه الذين عايشهم عقب ثورة 26 سبتمبر وأثناءها التي رامَ الشعب منها دولة للجميع، غير أن القوى الوطنية والشخصيات المخلصة لليمن عاشت بعدها مرحلة عصبية ومعاناة ذات أبعاد مختلفة، نتيجة لسطو القوى القبلية التقليدية والتي عادت بعد أن انتصر النظام الجمهوري على نظام الهاشمية "حكم الإمامة المتخلف"، وما زاد الأمر سوءً أنها أعادت معها بقايا تلك العصابات الحاقدة على الشعب اليمني برمته.
كانت البداية الأولى لانحراف مسار الثورة هي سيطرة تلك القوى على المجلس الوطني عام 1970م والذي كان يقوم بمهام مجلس الشعب، حيث قامت بسن القوانين وصياغة الدستور وفقاً لمصالحها وهواها، وتساوقت معها العناصر المسيطرة على قيادة الجيش التي بلغ فسادها مبلغه حتى أنها كانت تطالب بميزانية منفرده، عن ميزانية الحكومة العامة، وترفض التدخل في شؤون صرفها وردِيَّاتها بل بلغ بها أنها كانت إذا طُلب منها تنفيذ أي مهمة طلبت مقابل ذلك مالاً وذخيرة ووقود لتنفيذ المهمة وكأنها قطاع شعبي ليس له صلة بالدولة والجمهورية!!
عزز صالح بعد توليه ذلك النهج التدميري، ومكَّن المشايخ من كل أمر نتيجة للثقافة التي بنتها أحداث الثورة في انتهاب المال العام وإهدار مصادر الدخل القومي ترضيةً للشيخ زيد وكسباً لولاء الشيخ عمرو على خلاف ما انتهجه الرئيس الراحل ابراهيم الحمدي في حكمه، فمارس ذلك إما لتحاشي شر القبيلة ووقف اعتداءاتها على النظام الجمهوري أو كسبها لصفه كقوى موازية لقوى الجيش والدولة الافتراضية.
حَكَمَ صالح اليمن بعقلية شيخ القبيلة ونفسية العسكري الذي فاته الحظ من التعليم الذي ينور العقل ويهذب السلوك، وعليه حارب المتنورين وأقصى في حكمه كل متخصص حتى الإخلاص والوطنية كانتا شبهةً تضع صاحبها في دائرة الشك عاش أولئك البؤس كله في حياته، إلا من اغترف غرفةً وشرب من نهرة ومجرى مياهه، الأمر الذي فاقم من ضعف النظام الجمهوري وأخضع كادر الدولة للقوى التقليدية سالفة الذكر فأوصلت اليمن إلى كوابيسها الراهنة.
افتتح صالح مسيرة حياته بسيل من العنف كان أشقاها اغتيال الشهيد الحمدي الذي سعى لتصحيح مسار الثورة وإيقاف تلك القوى عند حدودها السياسية والاجتماعية والمهنية، وأصر على تنفيذ مبدأ من أعطى هذا الوطن أعطيناه ومن لم يعطه لا ينتظر منا العطاء، فسبقوه لإخماد صوته وإجهاض مشروعه فرحل والدموع تملاْ مآقي اليمنيين قهراً عليه وكمداً على اغتياله.
وفي مراحل حكمه المتوسطة كانت أحداث الحجرية وتصفية أقيالها بعد خروج عبدالله عبدالعالم متذمراً من صنعاء عقب مقتل الحمدي كما ذكر الفريق علي محسن أثناء صراع الساحات في ثورة 2011م ، مروراً بتصفية قيادات الحركة الناصرية على إثر محاولة انقلابهم ضده عام 1978م.
لم يقف صالح عند حدٍ معين في اللعب بالنار، حيث جعل حروب صعدة التي كانت ساحة لتصفياته السياسية والتخلص من أركان نظامه الذين باتوا عبئاً عليه وعائقاً لمشروعه في توريث الحكم، ووصولاً إلى جائحة الزمان الكبرى تحالفه مع فلول الإمامة لإسقاط الجمهورية وقتل الشعب اليمني وتدميره لجيشه وتفتيته لنسيجه الاجتماعي وهدم بُناه التحتية، فكان مقتله على أيديهم المحصلة النهائية لسيل أحداثه المتسارعة التي أعجزت المحللين السياسيين في تحليل ما كان يجري على الساحة اليمنية حينها إذ لم يستوعبوا أن رئيساً حّكَم كل تلك المدة ثم أنهى حياته بيده وبتلك الطريقة!
حاول صالح إبان حكمه استغلال المتناقضات بين المكونات السياسية والقبلية وحتى العرقية والمذهبية، عزف على كل الأوتار ما أمكنه إلى ذلك سبيلا، فعمل على تجميع كتلة الإمامة المختبئة في أحضان نظامه عند الحاجة وتفكيكها عند الضرورة، مثلت خلال حكمه قُطنته الناعمة التي كان يطهر بها جروحه السياسية، فتطمئنه أحياناً وتستغله في كل حين وحين، حتى أمست سمه الناقع الذي ابتلعه حينما أصغى إليها وهي تُحدث الشروخ في كل حوائط وجدران أقطاب حكمة التي كان يحتمي بها، عن طريق الوقيعة بينه وبينها وبين القوى الجمهورية الأخرى بهدف ضرب الجمهورية ببعضها وفتح باب عودة الإمامة بثوبها الفارسي الجديد.
كما حاول صالح تفكيك القوى الإمامية عقب الوحدة إلا أنه لم يُفلح، واستعصت عليه في حروب صعدة الست نتيجةً لتمكنها من مفاصل الدولة وتغلغلها فيها، حتى ضربت آخر مساميرها في قوائم نعشه بعد نكبة 21 سبتمبر وطرقتها عليها ببطيء حتى 4 ديسمبر 2017م حيث كانت النهاية المدوية نتاجاً لدواعي الانتقام من شعبه الذي ثار، وجشيه الذي حماه، ومعارضيه الذين قالوا له كفى، وحتى قيادات حزبه عندما شعروا بالخطر الداهم على الوطن ونظامه الجمهوري فتركوه وانفضوا من حوله إلا من أبى وركب مركبه الذي أغرقهم أجمعين.
عطفاً على ما سلف يجب أن يُقرأ التاريخ بإمعان شديد، ولعل ما ذكره محامي صالح الخاص محمد المسوري في أحد لقاءاته التلفزيونية أنهم ضُللوا وارتكبوا خطأً فادحاً في تحالفهم مع الحوثي بينما فر الكثير من مساعديه خارج الوطن وانكفاء آخرون على أنفسهم بداخله وباعه في اللحظة الأخيرة من تبقى معه إما رغبة في الحركة الحوثية أو رهبةً منها، الامر الذي يحتم على كل يمني إعادة قراءة ماضيه منعاً للوقوع في مثل تلك الكوارث والرزايا.