قالوا عني عَرُوس .. و سألبسُ الأبيضَ ذاتَ صيف.
ونسوا أنَّ الفرحَ في أرضِ المآسي محضُ ضيف.
أمي التي احدودبَ قلبُها كَدحاً و همَّاً و بلغَ منها البؤسُ مَبلغه ، استقامتْ رُوحها فتيَّةً وابتسامتها ممشوقةً بعد هذا النبأ.
جالتْ المنازلَ عصراً لتلقينِ صُويحِباتها الأمُيَّات وحي البُشرى المُنزَّل ، و بدأت بتفصيلِ المقاسات وادِّخار المُستلزمات.
أمي التي لاكتْ الصمتَ طويلاً ثم استفرغتهُ بُؤساً و كَمَداً ، صارتْ لسانها طليقةً مِدرارةً لا تُفرِّق بين قريبٍ و غريب، ولا تتورَّعُ عن توزيعِ الدعوات لكُلِّ وجهٍ تُصادفه وهي تتمتمُ "حِرْزَها" الجديد : " آمال خطبها ابن عمها .. مُغترب بالخارج اسم الله عليه " .
وأنا أنظرُ إليها من زاويةِ الخجلِ والدهشة أخذتُ أتساءل : هل تاقتْ حَنجرتها الخامدة للزغردة بعد مُرِّ السنين ؟!
في طريقي المُعتاد لمدرسةِ الحي حيثُ أعمل كانت الممرَّاتُ المُتفطِّرة تُعرِّي قُبحَ الحالِ الذي وصلنا إليه.
هذا الطريقُ الذي سلكتهُ بانتظامٍ على مدى ثلاثِ سنوات كوِردٍ صباحي أصابتهُ قذيفةٌ خلَّفتْ وراءها منازلاً مُتقرِّحة و قلوباً مكلومة.
حتى الطلابُ بدأتْ الحربُ الشعواء بالتسرُّبِ خِفْيةً لهيئاتهم ونِقاشاتهم.
والمعلِّماتُ لا يجدْنَ مُتنفَّساً للحديثِ إلا و أسرفْنَ في التذمُّرِ من أحوالِ البلد و أسعارِ السِلَع و تأخُّرِ الرواتب .
لقد استغرقتنا الحربُ حتى صميمِ الرُوح ، و توغَّلتْ في الدمِ والعُرُوق.
"وحدهم الذين اغتربوا هم الذين نجوا " هكذا يردِّدُ والدي على مسامعِ العائلة.
لكنَّ الذين اغتربوا لم يعودوا كما كانوا ، لقد ذرفوا أجزاءهم تِباعاً على محطَّاتِ الوصول.
بينما نحن نُربِّي أحزاننا لتموتَ في كنفِ الأرضِ التي أنجبتها ، وحدهم المغتربون من ذاقوا شِقاق الوطن و نفي الغربة.
خطيبي أحمد كان يحكي عن المُفارقاتِ بين الداخل والخارج بحُرقةٍ و كأنَّ روحهُ موعوكة .. يختتمُ حديثهُ بِسُعالٍ حاد خلَّفتهُ أعوادُ السجائرِ المُحترقة في جوفهِ.
" نحنُ عندهم خرقٌ بالية "
يقولها وهو يشيرُ للقاعِ بإبهامه :
" يطمعون في ما لدينا هُنا ..
يُشعِلونَ الحربَ بيننا بينما حياتهم هُناكَ في نعيم " .
يستعيدُ أنفاسهُ المسلوبة ، و يشهقُ نحو الفراغ .
لم يعد الصبي الشقي الذي عرفتهُ ذاتَ صِبا ، وجمعتني بهِ مُعتركاتُ الحي و أواصرُ الصداقةِ والنسب.
لقد هَرِم من مخلَّفاتِ الحرب .. وحدهم من يغتربون يُدركون كم تُعاديكَ الفُرَصُ والحظوظُ فقط لكونكَ يمني !
في طريقِ عودتي من المدرسة مررتُ على متجرٍ لتأجير أثوابِ الزفاف.
لم يكن للحربِ أن تشوِّه فرحتي المنتظرة .. سأجودُ بِكُلِّي لهذا الفرح .
تملَّيتُ الفساتين حولي باحثةً عن ثوبٍ قد انطبعتْ صورتهُ في مُخيِّلتي .
ثوبٌ منسدلٌ بأكمامٍ ضيَّقة حتى المعصم وذيلٍ طويل.
أردتُ ثوباً على مقاسِ فرحتي ، لأنَّ الفرحَ نادراً ما يُصادفنا ها هُنا.
مذ استُشهد أخي في ساحاتِ النضال ، واغتالَ المرضُ أختي الصغيرة دون أن تُسعفنا الإجراءاتُ الصارمة بالسفر، أصبحتْ تكاليفُ الفرحِ باهظةً على المغمورين أمثالنا.
وحدهُ أحمد كان فرحتي المُخبَّأة في صدرِ دعواتي بحرص .. وتلك الأمنية التي استلذُّ ببريقها في ليالي العُمرِ الليلاء.
اخترتُ ثوباً أنيقاً يُرضي خيالاتي ، و يُعاندُ جيبي.
وعدتُ للمنزلِ مُنتشيةً ليتلقَّاني والدي عند المَدخل بوجهٍ أصفرٍ باهت ..
" والدتُكِ يا آمال " كانت ملامحهُ غائرة و نبرتهُ مُنبعثة من قاعِ الرُعب.
دارَ العالمُ بي فجأةً ، انطفأتْ أحلامي ، وتبخَّرتْ خيالاتي.
" ما بها ؟؟! "
حاولَ الإمساكَ بي فدفعتهُ بيدي.
انطلقتُ أجوبُ المنزلَ باحثةً عنها .. لم أنتبه للجاراتِ المُتكوِّمات في الغُرَف ولا للأنَّاتِ المُنبعثة من الأركان .. كان صوتها فقط وهي تُدندنُ فرحاً بي " يا عروسة " يثقبُ طبلةَ أذني.
" المسكينة .. لم تتحمَّل الفرحة بعد حُزنِ السنين الماضية فأصابتها جلطة " وصلتْ الوشوشاتُ إلى مسمعي بعد عناء.
اقتربتُ من سريرها فوجدتها مُستلقية بسلام وعلى وجهها الواهن شَبحُ ابتسامة.
اجتاحتْ عالمي غمامةٌ سوداء .. تهاويتُ قربها بصمت وفقدتُ حِسِّي.
لوهلةٍ تَخطَّفني الحُلمُ فشاهدتُني في ليلةِ الزفاف .. كان هناك والدي وأحمد و الجيرانُ والمعارف.
كانت الموسيقى تغمرُ المنزلَ بصفاء ، والوليمة تمتدُّ حتى آخرِ المجلس.
كان الجميعُ ينظر إليَّ بفرح وكنتُ مُنتشية و ريَّانة .. لكنَّ ما إنْ وقعتْ عيني على المرآة حتى تملَّكني الذُعر.
لم يَكُن فُستانُ عُرسي كما تمنَّيتْ ..
لم يَكُن فُستانُ عُرسي أبيضاً !
*هذا المقال هو أحد المقالات المميزة من مسابقة ابداعية تنافسية في فيسبوك لأفضل النصوص التي تشخص الوضع في اليمن بفكرة مقترحة من الزميلة فكرية شحرة، وينشرها الموقع بوست بشكل حصري.