بعد عشرة أيام من وصولي للسودان، توقف عمل مكافح الفيروسات في الكمبيوتر والمصنع أمريكيا، رغم أنه لازال يتبقى عليه أكثر من عشرة أشهر حتى تنتهي مدة العام التي تم تحديدها عند الشراء.
تواصلتُ مع الشركة عبر بريدهم الإلكتروني بعد سلسلة الإشعارات التي كانت تصلني من البرنامج، للسؤال عن توقفه، رغم إن تحميله أول مرة لم يكن في السودان، بل خارجها، وجاء ردهم بهذه العبارة" أنت تقيم في دولة مشمولة بالعقوبات ضمن القوانين الأمريكية"، ثم أرسل لي مجددا اتفاقية الاستخدام التي وافقت عليها عند الشراء، وهي تلك الشروط الطويلة التي نضغط على الموافقة عليها دائما دون قراءة ما ورد فيها، بسبب طول نصوصها.
شركات تكنلوجية أمريكية تمارس الأمر عينه، عند انتعاش نظام الأندرويد للهواتف الجوالة، لم يكن يعمل في السودان إلا عبر برامج كسر الحظر، ثم تراجعت جوجل لاحقا وجعلته متاحا، لكنها أبقت على حزمة كبيرة من برامجها وتطبيقاتها لا تعمل في السودان، مثل مستعرض كروم.
أما تويتر فلايزال السودان إلى اليوم غير موجودة في قوائم البلدان التي يمكن توثيق الحساب فيها عبر الهاتف الجوال، وسبق لناشطين سودانيين قبل أسابيع اطلاقهم لحملة تدعو تويتر إلى تجاوز هذا الأمر، مثل فيسبوك.
على هذا المنوال يأتي بقية الشركات الأمريكية، التي لا تسمح بالتعامل مع السودان وفقا للحظر الأمريكي على البلد الممتد منذ سنوات، فإذا كان هناك على سبيل المثال شركة تصنيع أوروبية وتتكون من عدة شركاء أوروبيين وبينهم شريك أمريكي واحد فإن تلك الشركة لا تستطيع التعامل مع السودان، وفقا لقانون الحظر نفسه.
هذا الحظر أثر كثيرا على السودان، وأغرقه في متاعب اقتصادية كبيرة، أرهقت كاهله، وأثرت على مستوى الحياة الإقتصادية داخله، وولد هذا الأمر العديد من التداعيات في الشارع، والكثير من التحديات على الحكومة.
وبسبب أن التعامل الدولي اقتصاديا حول العالم بالدولار، فقد أثر هذا أيضا بشكل كبير على تداول السودان وشراء احتياجاته الخارجية من بقية دول العالم باستثناء أمريكا، أدى هذا لندرة العملة الصعبة (الدولار)، والذي تحتاجه الحكومة لشراء أبرز احتياجاتها وهو القمح لتوفير مادة الخبز للناس، وللإشارة هنا، أغلب إن لم يكن كل الأسر السودانية تعتمد على شراء الخبز من المخابز العامة بشكل يومي، ولا تعد الخبز في الداخل مثلما هو الحال في اليمن، وتقوم الدولة بتزويد تلك المخابز بكميات من الدقيق اليومي لتجهيزها وفقا للإحتياج القائم.
مادة القمح ظلت جزء من معاناة السودان التقليدية، ولم تكن وليدة اللحظة الراهنة، فعندما تولى عمر البشير الحكم، قال في أحد خطاباته وقتذاك بأن حركة الانقاذ التي تسلمت الحكم حينها بعد وصولها للسلطة خلصت السودانيين من طوابير الخبز، وهذا يشير إلى أن المشكلة نفسها قديمة جديدة، وإن كانت ترتبط بعوامل مختلفة.
وعودتها اليوم تمثل تحديا أساسيا، وهي إشكالية تنامت مؤخرا منذ أشهر، بعد ارتفاع أسعار الخبز، والمشكلة برمتها تعود لأسباب اقتصادية بحتة، وإلى تعامل الدولة مع هذا الملف الحساس.
وهذا الأمر هو ما أشار إليه البشير في خطابه اليوم، حينما تحدث عن وجود مؤامرة ولخصها بالقمح والدولار، وتعتمد الدولة على كميات القمح المستوردة من استراليا وكندا، وهذا يتطلب مبالغ طائلة من العملة الصعبة لشراء الاحتياجات اليومية من القمح والمخزون الاستراتيجي منه أيضا، وإذا كنت تاجرا في السودان، وتستورد إحتياجاتك من المواد من دول خارجية، فييتوجب عليك دفع قيمتها بالدولار، وفي داخل السودان هناك ندرة كبيرة للدولار، مما خلق هوة كبيرة بين عرضه والطلب عليه، فارتفع سعره في السوق السوداء بشكل كبير، وأصبح البون شاسعا بين سعره المحدد من الدولة وبين سعره في السوق السوداء، وبذلت الحكومة جهودا للحد من هذه الإشكالية، بما فيها تعيينات في أجهزة المخابرات والاقتصاد، ومع ذلك لم ينضبط الوضع كما يجب، وقفز الدولار خلال عام واحد من 20 جنيه للدولار الواحد إلى خمسة وسبعين.
دفع هذا الحكومة لاتخاذ مزيد من الاجراءات كفرض الضرائب على السلع الواردة، وعلى المبيعات داخل البلد، كما سعت لمنع هروب العملة الصعبة من الدولار قدر الإمكان، فعلى سبيل المثال شركة زين للاتصالات وهي واحدة من ثلاث شركات تعمل في مجال الهاتف النقال، وهي امتداد لشركة زين الكويتية، لا تستطيع إخراج أرباحها بالعملة الصعبة خارج السودان، بسبب الوضع الذي تعيشه البلد، إذ أنها تجمع مبالغ مالية طائلة، وبدلا من تشغيلها في السودان تعمل على اخراجها خارجه، وهنا تدخلت الحكومة لمنع مثل هذا الأمر، وهو إجراء تفعله العديد من الدول، مثل ماليزيا مثلا.
اضطرت شركة زين لاستثمار أرباحها في تجارة السمسم داخل السودان، ومن ثم تقوم بنقل كميات كبيرة منه وتبيعها خارج السودان لتستعيد أرباحها، وبات هذا الأمر أيضا محل نظر لدى الجهات الاقتصادية السودانية، إذ أنها باتت تطالب بوضع مبالغ مالية في بنوكها مقابل كل كمية من السمسم الذي يخرج خارج البلد، وذلك لمنع تهريب العملة الصعبة.
هذا التحدي الاقتصادي الناتج عن الحصار الأمريكي كان أحد أبرز العوامل التي أدت لخلق ظروف صعبة داخل البلد، ورغم أن أمريكا أعلنت رفع العقوبات لكن ذلك لم يدخل حيز التنفيذ، ولازال البنك الأمريكي يفرض القيود على السودان في التعامل الإقتصادي، بل إن السفارة الأمريكية داخل السودان كان لها دورا كبيرا في هذا الجانب، فحين كانت قيمة الدولار أمام العملة المحلية يساوي 30 جنيها أصرت السفارة الأمريكية على التعامل مع الدولار باعتباره يساوي أربعين جنيها، وليس السعر الرسمي المتداول.
حاول السودان التغلب على كثير من تلك الإجراءت الاقتصادية، فعلى سبيل المثال جرى التعاقد مع شركات كورية لتصنيع السيارات في السودان للتغلب على عملية الاستيراد، وتوفير سيارات بسعر أفضل، إضافة لتشغيل أيدي عاملة محلية.
وعندما اكتشف البترول في جنوب السودان قبل أن ينفصل، كان السودان قد بدأ بالتنفس، وحقق مصدر دخل قومي انعكس على البنية التحتية، وسادت حالة من الاستقرار الاقتصادي والمعيشي داخل مدن السودان، واستقرت سعر العملية المحلية كثيرا، وحافظت على سعرها أمام كثير من العملات الأجنبية.
لكن الانفصال الذي حدث لاحقا للجنوب، حرم السودان من الثروة النفطية التي يتركز أغلبها في الجنوب، وأعاد هذا مراكمة العبء الاقتصادي على الدولة الأم في الشمال، وللك بدت الخرطوم حريصة على استعادة الجنوب تصدير النفط، إذ أنه سيمر عبر أراضي السودان من دولة جنوب السودان، إلى ميناء بورت سودان على البحر الأحمر، بسبب عدم امتلاك جنوب السودان لميناء بحري، وستدفع جنوب السودان مبالغ مالية لا بأس بها مقابل كل برميل يمر على أراضي السودان، وهو ما يشكل أملا اقتصاديا كبيرة للحكومة السودانية في الخرطوم.
بالتأكيد هناك أسباب دفعت لهذا الوضع الإقتصادي بما فيها التساؤل عن السبب الذي قاد البلد لهذا الوضع، وفي حقيقة الأمر فإن السودان لم يسترح منذ حصل على استقلاله نهاية الخمسينات من القرن الماضي، فبجانب الحروب الداخلية الأهلية بين الشمال والجنوب، هناك الصراعات البينية الداخلية على الحكم، والنزاعات مع دول الجوار، على سبيل المثال النزاع مع تشاد، وتخلي كثير من الدول العربية عن واجبها تجاه السودان، وتركته يعيش تلك الصراعات لوحده، بل إن دولا عربية كالسعودية كانت تمد المتمردين في جنوب السودان بالسلاح نكاية بنظام الحكم في شمال السودان.
هذه الحروب استهلكت الكثير من الأموال طوال السنوات الماضية، واستحوذت على أكبر قدر من المال في سبيل شراء السلاح، ودعم المقاتلين، بحثا عن تحقيق انتصار للحكومة على الجماعات المتمردة التي تنامت بشكل كبير، وأصحبت تهدد الوجود الحقيقي للدولة.
ومع ذلك لاتزال هناك العديد من السلع الأساسية المدعومن من قبل الحكومة بشكل كبير، وإذا رفعت الحكومة دعمها عن تلك السلع فسترتفع أثمانها إلى أرقام قياسية، وتثقل كاهل المواطنين بشكل أكبر.
ومن تلك السلع الكهرباء، التي تعد رخيصة في قيمتها قياسا بدول أخرى، وكذلك الدواء، وهو الأرخص بالسودان، وعملت الحكومة السودانية على تجنيب الدواء أي ارتفاعات سعرية مقارنة بالمواد الغذائية والاستهلاكية، وظل سعر الدواء ثابتا، ولا يتغير إلا بموافقة حكومية، وكذلك البترول وبقية المشتقات النفطية التي تعد الأرخص، إذ تبلغ قيمة الليتر الواحد ستة جنيهات، بمعنى أن العبوة البترول سعة 20 لتر تبلغ قيمتها 120 جنيها، وهو ما يوزازي أقل من دولارين وفق سعر العملة المحلية حاليا.
يلخص أحد الزملاء السودانيين الوضع هذا بالقول "كل شيء متوفر لكن المواطن لا يستطيع الشراء"، بمعنى أن مثل هذه السلع متوفرة لكن الكثير من المواطنين لا يستطيع الشراء، بسبب الارتفاعات السعرية المتكررة، وتدني مصادر الدخل للفرد، وقلة الرواتب الحكومية، التي يصعب تصديقها أحيانا، فراتب الجندي مثلا أو المعلم يصل إلى ألفين جنيه تزيد أو تنقص، وهذه الرواتب كانت قبل سنتين مثلا تعد جيدة وإيجابية، ولكن الارتفاعات السعرية كما أسلفنا أدت لتدهور قيمتها.
بالطبع السلطة الحاكمة للسودان معنية بهذا الأمر، وتعد جزء من الوضع الحاصل، وما كان مقبولا في الأمس كعذر، يصبح اليوم غير مقبول، لكن السودان ليس بحاجة إلى مزيد من الغرق في واقعه الراهن اليوم، فأي نظام سياسي سيأتي سيصطدم بالتأكيد بهذه التحديات الموجودة، ويحتاج الوضع إلى تكاتف مختلف القوى السياسية للخروج من هذا الوضع.
صحيح أن السودان يمتلك العديد من الثروات الأخرى، كالثروة المائية، والثروة الحيوانية، وثروة الإنسان في المقام الأول، ولكن السودان في خصائصه يشبه بيئته العربية، والتي تهيمن فيها ملفات على حساب ملفات أخرى.
إن التحدي الإقتصادي الذي تواجهه السودان اليوم هو صنيعة عوامل عديدة، أكبرها العامل الخارجي بشكل رئيسي، ويستحق السودان حكومة وشعبا التقدير على صمودهم الكبير إزاء هذا التحدي، وعدم الاستسلام، وانخراطهم في البحث عن بدائل ممكنة تحفظ للشعب بقاءه طوال العقود الماضية، وسط تخلي الصديق والشقيق عنهم.
وكان بإمكان السودان أن يلجأ طوال العقود الثلاث الماضية للمداهنة والإرتهان كالأنظمة الأخرى للقوى الخارجية، لتحقيق المكاسب، لكن ذلك بالتأكيد كانت له العديد من العواقب، ومع ذلك ظل السودان محافظا على هويته العربية والتصاقه بمحيطه العربي، وقضاياه وهمومه.
كانت هذه جزء من انطباعات عامة عن الوضع في السودان عن قرب، وهي لا تبحث في أس المشكلة وجوهرها، ولا في بقية الجوانب المتصلة بها، كوضع المجتمع السوداني، وتركيبته الاجتماعية، والحياة داخل السودان بشكل عام، وبإذن الله سنفرد لهذه المحاور مساحة أخرى من الحديث لاحقا.