نظرية الثورات العربية
السبت, 29 ديسمبر, 2018 - 06:18 مساءً

إضافة إلى كون الثورة ظاهرة "مجتمعية "بما يشمله هذا المفهوم من حراك سياسي، اقتصادي ، اجتماعي ،وثقافي يستهدف إيجاد واقع جديد جميل بدلاً عن واقع رديء قائم كما هو فهم المثقف المتجرد من قراءة أبعادها وظروفها السياسية المحلية والإقليمية والدولية.
 
فهي أيضا فكرة رومانسية وحالمة وطوق نجاة لشعب أنهكه الواقع المستبد وأضاع من أمامه أفق المستقبل ورحابة العيش كما يفهما الوعي الجماهيري الجمعي العاطفي.
 
  لكن التحديات المفروضة بتعامل الأنظمة الحاكمة والمستبدة وطبيعة الصراع الدولي الكبير وأبعاده التوسعية المحملة بمشاريع العالم الجديد التي تعكف القوى الكبرى المُتسيدة للعالم منذ زمن على التخطيط له وبلورته من خلال البناء على آمال الشعوب وحراكها التائق للحياة والحرية، يحتم علينا إعادة النظر في مفهوم الثورة ليس بوصفها حراك مجتمعي كما تفهمها النخب ولا بوصفها فكرة رومانسية حالمة كما تراها الجماهير المحتكمة في تفاعلاتها ونشوتها الثورية للعاطفة.
 
بل كتهديد وجودي لكيان الدول الديمغرافي والجيوسياسي.
 
هذا المجهر الذي يجب أن توضع تحته فكرة الثورة وتشرّح من خلاله أبعادها وطموحتها والتحديات الماثلة أمامها ومآلاتها القريبة والبعيدة.
 
هذا ما بت أراه وأعتقده، وأستند في طرحي لهذا المنظور الخطير والصادم "والمهزوم "كما فد يفهمه البعض لعاملين إثنين الأول محلي وهو مرتبط ببنية الأنظمة العربية -بإعتبار الحديث عن الثورات العربية التي تدور رحاها الآن في المنطقة العربية سواء على هيئة حراك ثوري سلمي أو على هيئة نزاع مسلح داخلي واقليمي ودولي أو على هيئة استقرار سياسي هش - فهذه الأنظمة وخلال عقود من زمن بقائها في السلطة لم تزاوج بين مفهوم السلطة ،والنظام السياسي ،والدولة وتقضي على كيان الدولة المؤسسي المفترض وحسب ،بل ربطت أيضاً بقاءاها بالدولة ككيان مؤسسي أولاً وككيان وجودي تالياً.
 
وبالتالي فإن الثورة على مثل هذه الأنظمة السلطوية والمتسلطة تستلزم هدمها ،وهذا بطريقة مباشرة يؤدي الى تهديد وجود الدولة ككيان جيوسياسي ،ديمغرافي نظرا لحالة الانكشاف التي تُحال إليه بلدان الثورات والتي تجعلها مرتعا خصبا أمام نسج المشاريع الدولية التي لا تخدم مطلقا أهداف الشعوب الثائرة ولا تصب في مصلحتها، بل تصب في مصلحة القوى الدولية الطامحة في تنمية وجودها على حساب إنتفاء وتفتيت هذه الدول، وهذه نتيجة منطقية لحالة الاستبداد والتسلط التي حكمت هذه الشعوب وما عملته من مزاوجة بين بقاءها في السلطة ووجود الدولة.
 
العامل الثاني والذي لا يستطيع أحد نكرانه حتى وإن أرجع التفكير بخطره المحدق إلى نظرية المؤامرة.
 
ألا وهو العامل الخارجي بشقيه الإقليمي والدولي فمن غير الطبيعي حسب رأيي إغفال حالة الصراع الدولي القائمة الآن وتدخلاتها في بلدان الثورات العربية والتي أدت الى إعاقة حركة التغيير أحيانا وتغيير مسارها ورسم نتائجها بما يتواءم مع مشاريعها وطموحتها بالعالم الجديد أحيانا أخرى.
 
ولعل المتابع يدرك أن مشروع الشرق الأوسط الجديد مثلاً لم يعد مصطلح يلوكه الإعلام وحسب بل هو تهديد حقيقي يٌعتمل على الأرض وهناك قوى إقليمية تعتمد في كسب شرعيتها الدولية من خلال المساهمة في إنجاحه هذا كمثال.
 
أضف لمن يرفض التعامل مع التدخلات الخارجية وتأثيراتها باعتبارها أوهام زائفة وهوس بنظرية المؤامرة وهو أن الأنظمة العربية المستبدة هي نفسها من تستدعي التدخلات الخارجية وتفتح لها سيادة التربة الوطنية بكل مصارعها فقط من أجل المحافظة على بقائها في السلطة.
 
وبالتالي وباعتماد كل ما سبق تمهيد إجرائي مبني على واقعية الأحداث من خلال مراقبة تطوراتها وما انتهت إليه الثورات العربية، فإن التعامل والنظر الى الحراك الثوري السلمي الذي يعتمل في السودان العربي يحتم علينا التعامل معه من زاوية الخطر الذي يتهدد السودان ككيان عربي وليس كسلطة للبشير.
 
وبمفارقة بسيطة فإن ما ينتظر السودان إن استمر هذا الزخم الثوري ليس أقل خطراً مما انتهت إليه الثورة في اليمن أو سوريا أو ليبيا بل قد يكون أكبر وتأثيراته لن تتوقف على حدود الجغرافيا السودانية بل ستكون مصر الدولة وليس النظام أول وأكبر المتضررين نظراً للحدود الجغرافية والشراكة في أهم مورد يعتمد عليه بقاء مصر والسودان معاً وهو "النيل ".
 
وبالتالي فإن مصر الكيان الجغرافي والديمغرافي قد تؤكل من كتف السودان وهذا ما تدركه القوى الدولية الكبرى وإسرائيل بالذات التي لن تحتاج الى الدخول في حرب عسكرية مع مصر أبدا في حال استطاعت التحكم بنهر النيل من السودان.
 
لماذا أذهب بتجاه هذه النتيجة الكارثية التي يمكن أن تؤول إليه السودان ومصر؟
 
 لسبب بسيط وهو أن البشير الرئيس السوداني لا يختلف تماما في منهج حكمه للسودان عن "صالح "في اليمن أو "القذافي" في ليبيا ولا" الأسد الصغير" بسوريا فالبشير مثل سالفي الذكر عديمي الوطنية والمشروع اشتغل خلال فترة حكمه على المزاوجة بين بقائه في السلطة والبقاء الوجودي للسودان وهذه طبيعة المستبدين العرب من الحكام.
 
علاوة على أنه أي البشير قد يستدعي التدخلات الدولية بنفسه في مواجهة الثورة ويكون هو والسودان أول ضحايا الأطماع والمشاريع الخارجية.
 
ما أعنيه أن البشير لن يذهب من السلطة إلا بذهاب السودان معه مثلما تصرف سابقيه وما جنوه على أنفسهم وشعوبهم وبلدانهم .
 
وفوق كل هذا فإن تعقيدات المشكل السوداني باعتقادي أعقد بكثير من المشكل اليمني والسوري والليبي.
 
وبالتالي وكنتيجة لكل ما ذكر يجب علينا التعامل مع حراك السودان الثوري من زاوية ما قد يتهدد كيان السودان من وراء هذا الحراك أي من زاوية أسوأ الاحتمالات لا من المنظور الرومانسي الحالم ولا من زاوية المثقف المراقب للظاهرة بتجرد وبدون إدراك للأبعاد والمآلات.
 
لماذا هذا التشاؤم قد يقول أحدهم؟!
 
لأن هذا ببساطة ما فرضته علينا الأنظمة المستبدة التي ترى بقاءاها وتسلطها جنب الى جنب وبقاء البلاد.
 
طبعا هذا لا يعني أني ضد الثورة في السودان أبداً ولكن قدأكون مع إصلاح سياسي وإقتصادي بطريقة ما  يجب أن يرتضيها البشير والسودانيين حفاظا على السودان أولاً وأخيرًا.
 

التعليقات