كتب عبد الكريم الرازحي، قبل عشرة أعوام، عن السؤال اليمني الخالد. قال إن جدته كانت تلقي عليه أحد السؤالين في كل مرة يذهب إلى زيارتها: متى ستقف الحرب، وأحياناً: متى ستقوم الحرب [تقول متى شتقوم الحرب، تقول متى شتوقف الحرب].
أما جدي فأخبرني عن الأيام الأولى لحكم صالح قائلاً: كان الخوف يملأ الأرجاء، كأننا كنا نسير في ظلام دامس، لا ندري أي مصيبة تنتظرنا، ولا من أين ستأتي.
غادر صالح الحياة في ظروف مشابهة. أربعون عاماً سار فيها البلد، بقيادته، في ظلام دامس. كانت الحرب تقود إلى أخرى، وفي آخر الحروب قتل الرجل بطريقة تقليدية لطالما عايشها. تؤكد تقارير أممية هذه الصورة: يعيش اليمن واحدة من أكثر مآسي العالم سوءاً. إن ما يجعل المأساة اليمنية الراهنة فادحة السوء هو كونها الساقية التي صبت فيها حروب أربعين عام.
لقد استقرت المأساة اليمنية على هذه التعقيدات الأربعة:
1. التعقيد الحوثي:
يمثل الحوثيون أقليلة داخل الأقلية، وفي المجمل فهم يعكسون قطاعاً من الشعب يقدر بـ 3?. خلال 15 عاما، منذ الحرب الأولى، وقع الحوثيون اتفاقات يصعب حصرها، لم يلتزموا بأي منها. غالباً ما كانوا يكتبون نهاية للاتفاقات من خلال الحرب. إن الرحلة التي قطعوها من جبال صعدة البعيدة حتى سواحل مدينة عدن لم تكن باليسيرة. فقد استخدموا في تلك الرحلة/ الحرب عدداً من الاتفاقيات السياسية والقبلية تفوق عددياً عرباتهم الثقيلة. يضربون، وهم يقاتلون، صلحاً في كل مكان. قبل أن يقتلوا صالح بعام قال عن اتفاقه معهم إنه اتفاق "كتب في السماء".
دمر الحوثيون كل احتمالية ممكنة لأي فكرة عن الصلح والسلم والهدنة. فبعد أن وقعوا في ستوكهولم على وثيقة الخروج من الحديدة تركوا تلك الوثيقة في حالة ميعان وذهبوا لينجزوا بعض حروبهم العالقة في ثلاث محافظات: حجة، الضالع، البيضاء. الآن، وقد أنجزت وثيقة الحديدة هدفها العسكري، كما يفعل الحوثيون عادة، يرفضون الخوض في أي نقاش موضوعي حول اتفاق ستوكهولم. بعد أن نقض الحوثيون ألف صلح سيكون من الصعب القول إنهم لن ينقضوا الصلح رقم ألف وواحد. تلك السيرة الإرهابية التي استخدمت "الصلح" كأداة حرب قوضت كل معنى ممكن لفكرة الصلح. حتى عندما ينادي الحوثيون بالصلح، في لحظة صدق أو هزيمة، فإن خصومهم سيتساءلون عن طبيعة الكمين الجديد الذي نصبه الحوثيون.
حروب الحوثي هي حروب هجينة اختلط فيها العصابي بالديني. استدارت الحرب لجماعة الحوثي على شكل هبة إلهية، فقد منحتهم نصراً كانوا يصبون لما هو أقل منه بكثير. هذه الحقيقة تعقد المسألة اليمنية، إذ يبدو أي تنازل من قبلهم كما لو كان نكراناً لصنيع الإله. في كلمات عبد الحوثي، المتكررة، الكثير مما يدل على أن الرجل يرى إلى السياسة بوصفها فراراً من الزحف. العرض الذي يقدمه الحوثي لليمنيين الذين لم يستسلموا بعدُ لجماعته هو استسلامهم له. أما الحياة التي قرر الحوثي أنها تليق بجماعته فهي أن يربح كل شيء أو يخسر كل شيء. لا يرسل الحوثي أي إشارة تقول إنه جاهز للحياة في وسط اليمنيين. ذلك ما جعل واحدة من صحف جماعته تكتب عن لقائها به: ساعتان كأنهما الدهر. نقف أمام هذا التعقيد، كيمنيين، في حيرة من أمرنا.. على وجه الخصوص ونحن نرى إلى جانبه تعقيداً آخر:
2. السعودية/ الإمارات..
يناهز سكان اليمن الثلاثين مليون. أرادت الدولتان أن تهزا ذلك البلد قليلاً بغية التحكم بمصيره السياسي. لا يمكن هز بلد بذلك الحجم الكبير دون أن تنزلق تلك الهزة إلى كارثة. انتهت اللعبة اليمنية إلى قبضة إيران فأدركت الدولتان فداحة صنيعهما. منذ خمسة أعوام تخوض الدولتان حرباً مدمرة في اليمن هدفها "قطع اليد الإيرانية". لا تبدو الدولتان قادرتين على قطع تلك اليد. على أن قطع اليد الإيرانية في اليمن هو عملية تدميرية لا تتطلب سوى أمر واحد: المزيد من التدمير حتى إصابة الهدف.
المزاعم التي تتحدث عن استعادة الشرعية تشبه تلك التي تقوض الدولة الليبية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. تتصرف السعودية في الجزء الشمالي من اليمن، صحبة إيران، وتنفرد الإمارات في الجنوب. أسست الدولتان، السعودية والإمارات، حوالي 15 تنظيماً عسكرياً لا يتبع أي منها وزارة الدفاع، وتنشط القاعدة في المناطق التي تهيمن عليها الإمارات.
على الجانب الآخر تمنع إيران ظهور أي تنظيم مسلح خارج سيطرة الحوثي. وبالطبع: لا وجود للقاعدة. احتكر الحوثي السلطة والجريمة، وعملت الإمارات والسعودية على توزيع السلطة والجريمة أفقياً. هنا بلغت خسارة "الشرعية اليمنية" حدودها القصوى. لدى الإمارات طموحات استعمارية، وقد حصلت على أكثر من ألفي كيلو متر على المحيط، أحاطتها بتنظيمات مسلحة تبادلت معها المنفعة: سمحت لها بالتعبير عن نوازعها القبلية/ المناطقية مقابل أن تلقي غطاء شرعياً على المطامح الاستعمارية الإماراتية. قال مدير أمن عدن أن مهمته "الدفاع عن كرامة مشائخنا"، وذكر ثلاثة أسماء إماراتية. اختطفت السعودية الرئيس هادي، ووضعته داخل فقاعة شبيهة بالحجْر الصحي. أمام هذا التعقيد تصعد مشكلتنا اليمنية خطوة إلى الأعلى. خصوصاً ونحن نستنجد بالتعقيد الثالث..
3. النظام الحزبي
انهار اللقاء المشترك قبل سقوط صنعاء، أو بعد دخولها. سرعان ما شوهد الأمين العام للحزب الاشتراكي يسافر إلى جني? مع الوفد الحوثي، ضمن استراتجية أطلق عليها "الطريق الموضوعي الثالث". انحاز حزب الإصلاح إلى السعودية وسلك الناصري طريق الإمارات. ذهب المؤتمر الشعبي، حزب صالح، يقاتل مع الحوثي في مكان ويقاتله في آخر. سألت ياسين سعيد نعمان عن الكتلة التاريخية التي نظر لها قبل سقوط الجمهورية، ما إذا كانت دواعي قيامها الآن أكثر تطلباً، فقال إن بناءها في هذه اللحظة يبدو غاية في التعقيد. في جنوب اليمن عملت الإمارات على تصفية النظام الحزبي من خلال تشكيلاتها المسلحة.
في العاصمة صنعاء أنهى الحوثيون الوجود الفعلي لكل الإحزاب وخلقوا كيانات وهمية تحت مسمى أحزاب اللقاء المشترك. المعضلة التي حدثت مؤخراً في تعز، الصدام مع جماعة "أبو العباس" الجهادية، كشفت عن تفاهة النظام الحزبي ولا جدواه. تقول المادة الخامسة من الدستور اليمني: يقوم النظام السياسي للجمهورية على التعددية السياسية والحزبية. الحرب ليست الوسيلة الوحيدة لاستعادة النظام السياسي للجمهورية. قبل ذلك علينا استعادة النظام الحزب، وهي عملية معقدة للغاية في ضوء الحقيقة التي تقول إن الصراعات المشتعلة داخل ذلك النظام سلبته أهليته لاستعادة أي شكل للسياسة أو الجمهورية.
4. تمالأت مؤسسة الرئاسة مع حروب الحوثي، وكانت أخطر ضحاياه. يرفض هادي العودة إلى أي من أراضي بلده، ويخوض صراعاً متقطعاً مع رجاله الأقوياء. ثمة حرب قائمة يقف عبد الملك الحوثي قائداً لأحد طرفيها، وليس للطرف الثاني من قائد. لا يمثل الرئيس هادي إلهاماً لأحد، ولا يتحدث إلى مواطنيه. تكمن خطورة مؤسسة الرئاسة في كونها اختزلت "المشروعية السياسية" في شخص الرئيس. ذلك الاختزال النشط عمل على إخماد كل ظاهرة من شأنها أن تعبر عن المشروعية السياسية أو ترفدها. الرجل الذي اختطف المشروعية السياسية سمح له لنفسه بأن يصير مختطفاً لدى ضباط سعوديين من الدرجة الثالثة.
هكذا تعقدت المسألة اليمنية وتفاقمت.
* نقلا عن صحيفة الاستقلال