في إطار ردود الأفعال المتباينة التي أثارها فيلم "الغداء الأخير" الذي بثته قناة الجزيرة عن واقعة قتل الرئيس إبراهيم الحمدي وقع بين يدي مؤخرا مقال لسمير رشاد اليوسفي منشور في موقع "نيوز يمن" بتاريخ 30 أبريل 2019 تصدره عنوان لافت: "قطر تأكل لحم الحمدي في الغداء الأخير". وعندما انتهيت من قراءته تبين لي أن سمير، وليس قطر، هو من أكل لحم الحمدي ومعه لحم شهداء ثورة فبراير 2011 التي وصفها ب "الهوجاء". والحقيقة أنني لم أكن أتوقع هذا من سمير الذي وإن كنت لا أعرفه شخصيا فإنني أحتفظ له بصورة ذهنية إيجابية إلى حد ما أيام كان رئيس تحرير صحيفة الجمهورية في عهد علي صالح، بينما هو الآن يهدر موهبته التي افترضتها ويبيع قلمه وكأن أوجاع الحاجة قد بلغت المعدة. وأنا هنا لا أقرأ في النوايا وإنما أستدل على ما أقول من السطور التي كتبها سمير نفسه ووضع اسمه عليها.
الفيلم أعده وأخرجه الصحفي والباحث المجتهد والمدرب المقتدر جمال المليكي، وهو جهد يشكر عليه، ولا يجوز تبخيسه لمجرد أنه لم يأتِ على هوى زيدٍ أو عمرو. وإذا وجد من لديه تصويب موضوعي لجزئية أو معلومة أو ملاحظة فنية فلا عيب في إظهارها ما دامت الغاية أن يستفيد المتلقي. والحقيقة أننا نحتاج لمئات وربما آلاف الأفلام الوثائقية ونشد سلفا على يد كل من يبذل جهدا في سبيل ذلك. وفي هذا السياق نريد أن نقول كلمة إنصاف ضد كل كتابة تهدف إلى التعمية على فيلم "الغداء الأخير" والتقليل من أهمية القضية التي أثارها. ونحن عندما نفعل ذلك لا نتوخى إظهار الحقائق المغيبة فحسب وإنما من قبيل احترام عقل القارئ حتى لا يظل مفتونا بأسماء كان لها رواج أيام الهالك –ولا أقول المرحوم خشية أن أجرح مشاعر معظم اليمنيين-علي صالح وتريد الآن أن تستأنف دورها في تزيين سوءات الطغاة والقتلة واللصوص وتملق أصحاب الأعطيات حتى وإن كان هؤلاء من خارج الحدود الجغرافية والوطنية والإنسانية.
بدا "الغداء الأخير" لسمير عملا مكرورا لم يأتِ بجديد مع أنه بني على شهادات ووثائق، بينما خلا مقاله من أي ملاحظة موضوعية أو إضافة جوهرية. وعندما أراد أن يبرئ المملكة تذكر أيام ولايته على صحيفة الجمهورية وقال حرفيا: "نشرت صحيفة الجمهورية حوارا مع شقيق الحمدي كان لافتا فيه تأكيده لمعلومة مهمة مفادها أن الملك الراحل خالد بن عبد العزيز انزعج من تدبير عملية القتل وأظهر سخطه علنا في اجتماع لمجلس الوزراء السعودي، وهو ما تجاهله سبع الجزيرة المدهش". وهنا نسأل سمير: ما قيمة استشهادك هذا أمام ما فعله "سبع الجزيرة" عندما نقل إلينا شهادة زعيمك صوتا وصورة وهو يقول للناس كافة إن المملكة هي من قتل الحمدي؟ لماذا تجاهلتَ هذه الجزئية الخطيرة جدا؟ الجواب واضح: لأن ما يعنيك ليس النقد الموضوعي للفيلم وإظهار الحقيقة للمتلقي وإنما التزلف والملق للسعودية، وما الفيلم إلا مناسبة للتعمية على وضاعة النية ورخص المقصد.
ومن باب الإنصاف: لستَ وحدك في هذه المهانة فالرياض اليوم تكتظ بالطبقة السياسية التي أنتجها زعيمك على شاكلته وطبعها بطابعه. والآن قل لنا يا سمير: لماذا لزمتْ المملكة الصمت ولم تهتم بالرد على شهادة الزعيم؟ ولماذا كتم زعيمك هذه الشهادة لأكثر من ثلاثة عقود ظلت السعودية خلالها تتعامل معه كما لو كان ملحقها العسكري في اليمن.
يعتقد سمير أنه نجح في تقديم نفسه مدافعا جيدا عن السعودية ولم يخطر في باله أن المتزلف –حتى عندما يكون ذكيا-لا يمكن أن يكون صاحب أفكار متسقة ولا بد أن يقع في تناقضات تفضحه من حيث لا يتوقع. لقد قال حرفيا: "ولعلَّ تعامل الملك سلمان وولي عهده مع مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي وإحالة المتورطين فيها للقضاء يكشف لنا أن سعودية اليوم تختلف عن الأمس"!!! ومع ما ينطوي عليه هذا الكلام من سذاجة واستخفاف بعقل المتلقي الحصيف فإن سمير يقر –من حيث لم يكن يريد-بأن سعودية الأمس كانت سيئة، وهذا تناقض فاضح مع محاولته البائسة غسل يدها الملطخة بدم الحمدي.
يقول سمير إن علي صالح لم يكن موجودا في صنعاء يوم "الغداء الأخير" وإنه وصلها من تعز على متن مروحية بعد أن وقعت الواقعة. أما المصدر الذي استقى منه هذه المعلومة فهو علي حسن الشاطر. والسؤال: من هو هذا الشاطر وما هي حجيته في أمر كهذا؟ لقد وقع سمير في الخلط بين مكان علي صالح يوم مقتل الحمدي ومكانه يوم مقتل الغشمي، والمسرحية اقتضت ألاَّ يغادر تعز زمن الغشمي، وأن يتوجه منها إلى صنعاء يوم الذبح ليكون رئيسا للجمهورية العربية اليمنية، والبعد الإقليمي للمسرحية واضح في مذكرات الشيخ عبدا لله بن حسين الأحمر أما بعدها الأمريكي فيمكن تلمسه في كتاب بول فندلي "من يجرؤ على الكلام".
ولعلَّ محمد خميس ذهب ضحية دوره في هذه المسرحية وما رتبه ذلك الدور من معلومات ضاعفت من خطورته في عيون الرئيس القادم من الأقبية القذرة والدهاليز المظلمة ومغارات تهريب الممنوعات. وعلى اليمنيين اليوم أن يعيدوا النظر في حكاية الحقيبة الدبلوماسية الملغومة التي قيل إن المبعوث الرئاسي القادم من عدن هو من حملها لتقتله والغشمي فقط لا غير، خاصة وأن الأقوال التي تسربت من المستشفى العسكري وقتها أكدت أن الانفجار الضخم أتى على النصف الأسفل للرئيس أكثر مما أتى على نصفه الأعلى.
يقول سمير: إن فيلم "الغداء الأخير" "لم ينشر صور رمي الغشمي بالأحذية أثناء حمل جنازة الحمدي". والسؤال: ما جوهرية هذه الجزئية؟ إن موضوع الفيلم هو "الغداء الأخير" ترتيبا وتنفيذا وليس ما بعده. ولأن سمير منشغل جدا بتبرئة زعيمه وإلقاء كل شيء على الغشمي وحده وقع ذهنه في الشتات وعدم القدرة على التركيز، ومن مظاهر شتاته قوله "تجاهل الفيلم ذكر دور الشيخ الأحمر (الراعي السابق للإخوان المسلمين) لكونه مع المتنفذين الذين جمعهم عام 1975 حلف خمر كانوا المتضررين فعليا من بقاء الحمدي رئيسا بعد أن منعه من البقاء في العاصمة". واضح أن سمير أراد بهذا الكلام الفج أن يصيب عصفورين بحجر، فهو من ناحية يرضي السعودية بإظهار كراهيته للإخوان المسلمين، وهو من ناحية أخرى يبرئ زعيمه من جريمة القتل. والحقيقة المعروفة للقاصي والداني لها وجهان: الوجه الأول أن الشيخ عبد الله كان يعارض الحمدي من خمر ولم يكن موجودا في صنعاء منذ فترة طويلة نسبيا، وموضوع الفيلم هو عن قتلة الحمدي وليس عن معارضيه وكارهيه. والوجه الثاني أن الحمدي لم يقتل على يد أي من خصومه الذين ناصبوه العداء علنا وإنما قتل مغدورا على يد بعض من قربهم إليه ومنحهم كل ثقته وعلى رأس هؤلاء الغشمي و"تيس الضباط" وهنا تكمن فضائحية وتراجيدية عملية القتل التي تمثل لبَّ فيلم "الغداء الأخير"، لكن سمير المهموم بتبرئة زعيمه ذهب يخلط بين قتلة الحمدي وبين المستفيدين من قتله.
فالشيخ عبد الله كان مستفيدا دون شك، لكن لا يوجد حتى الآن ما يستدل به على شراكته، أما سكوته عن الجريمة وعدم إثارتها بشكل أو بآخر فهذا من مقتضيات التحالف الوثيق بين "شيخ الرئيس ورئيس الشيخ" برعاية محكمة من قبل "الشقيقة الكبرى". ومن ذا الذي لا يعلم أن تحالف الشيخ والرئيس كان برعاية سعودية سخية وكان من الناحية العملية تحالفا ثلاثي الأضلاع، شمل القبيلة وجيشها وإخوان اليمن، الذين طالما تغنوا بتحالفهم الاستراتيجي مع علي صالح!!! كيف لا وقد مكنهم من اقتطاع الجبهة الأيديولوجية للنظام وتدمير منظومة التعليم وإهدار الثقافة الوطنية لصالح مذهبية وهابية وافدة مشبعة بقيم التطرف والإرهاب، وقد سار هذا التحالف بدالة متصاعدة لم يبدأ عدها التنازلي إلا بعد نهب الجنوب وتدمير الوحدة اليمنية ماديا ومعنويا، حينها خرج علي صالح على الناس ليقول لهم "إن حزب الإصلاح لم يكن خلال عقدين ونيِّف إلا مجرد كرت في يده" وعليه الآن أن يقبل بمشروع التوريث أو ينتظر مصير الناصري والاشتراكي!! وعلى سمير أن يجيبنا: هل هذا منطق رئيس دولة لديه قليل من الإحساس بالمسئولية الوطنية أم هو منطق قاطع طريق؟
يقول سمير إنه أثناء الاحتفاء بالعيد التاسع عشر للوحدة كان في بيت علي صالح بتعز وهناك سمعه يشيد بالحمدي قائلا: "الحمدي كان قائدا فريدا من نوعه، وذكيا وخطيبا مفوها ومتواضعا لولا ثقته المفرطة بمن حوله وعدم اهتمامه بحماية نفسه خاصة بعد إقصائه للمشايخ والقوى المتنفذة". وعلى افتراض أن علي صالح قال هذا الكلام فعلا فسمير لم ينتبه لمقام القول زمانا ومكانا. فلو لم يكن الزمان هو العام 2009 – وما أدراك ما العام 2009 -والمكان هو بيت الرئيس لكنت سارعت إلى اتهام سمير بتقويل زعيمه ما لم يقله. ومع ذلك أقول: لو أن علي صالح كان رجل دولة يتمتع بالحد الأدنى من الثقافة السياسية الوطنية والحد الأدنى من الوعي القانوني لكانت أول مهمة له كرئيس للبلاد هي التحقيق في ملابسات مقتل الحمدي والغشمي وكشف الحقيقة للشعب، خاصة وهو يعلم علم اليقين أن معظم اليمنيين يعتقدون أنه إن لم يكن هو المتهم الأول في قتل الحمدي فإنه المتهم الثاني بعد الغشمي، وهناك من يعتقد أن الغشمي أكل الطعم وذهب ضحية مخطط أكبر منه. والخلاصة أن صالح لم يهتم لا بملف الحمدي ولا بملف الغشمي وإنما جاء من اليوم الأول (يوم 17 يوليو 1978) يقرع طبول الحرب نحو الجنوب للتغطية على الجريمتين أولاً، وثانياً ليثبت لأسياده في الرياض أنه لا يمكن أن يكون إبراهيم حمدي آخر. ورجل على هذه الشاكلة الشوهاء من الطبيعي جدا أن ينتهي على النحو الذي عرفناه. ونحن لا نقول هذا لمجرد الرغبة في القول وإنما ردا على سمير الذي لم يناقش فيلم "الغداء الأخير" نقاشا موضوعيا وإنما أقحم نفسه في الدفاع عن علي صالح بطريقة فجة ومستفزة لمشاعر اليمنيين الذين يعلمون علم اليقين أن علي صالح ظل لأكثر من ثلاثة عقود يدمر تاريخ الحمدي ويعتم عليه وينهج نهجا معاديا للنهج الوطني الذي سار عليه. وعلى افتراض أن صالح لم يشارك في ذبح الحمدي ماديا على ذلك النحو المشين فالثابت عليه أنه ذبح مشروعه الوطني من الوريد إلى الوريد حتى أوصلنا إلى حيث نحن اليوم.
يقول سمير إنه أثار مع علي صالح موضوع اتهام الناصريين له بقتل الحمدي وأن صالح ردّ عليه قائلا: "من الطبيعي أن يقول الناصريون هذا بسبب فشل محاولتهم في الانقلاب علي ومحاكمة وإعدام بعض المتورطين فيه". والملاحظ هنا أن سمير خلط بين السبب والنتيجة. إن حركة 11 أكتوبر 1978 الناصرية كانت نتيجة للانقلاب الدموي على المشروع الوطني للحمدي، وإعدام قياداتهم جاء في إطار التصفية الممنهجة والعنيفة لذلك المشروع إرضاء للسعودية. ومعروف للقاصي والداني أن حركة الناصريين لم تتسبب في نزيف قطرة دم واحدة. ولو لم يكن علي صالح متعطشا للدم كقاتل محترف لما أعدم واحدا وعشرين من خيرة رجال اليمن. وللعلم ظل صالح طوال فترة حكمه مذعورا من استحقاقات ذلك الدم الذي سفك خارج القانون.
وفي سياق الرغبة في الإساءة المجانية للناصريين ذهب سمير يستنتج أن عبد الله سلام الحكيمي كان مشاركا في التغطية على جريمة مقتل الحمدي وتناسى أن الرجل كان هو المكلف بقراءة بيان حركة اكتوبر 1978 ثأرا للحمدي واستعادة مشروعه الوطني كما قال للمليكي. وإمعانا في الإساءة لشخص الحكيمي قال سمير إنه "كان أحد الوشاة على الناصريين بعد فشل انقلابهم"، وكل من له علاقة من قريب أو بعيد بالناصريين يعلم أنهم لم يقولوا هذا الكلام عن عبد الله سلام الحكيمي وإنما عن عبده الجندي. وأخيرا وصل الخيال المريض بسمير ليقول عن الحكيمي إنه حاليا "مسئول ارتباط بين الحوثيين والمخابرات البريطانية" وللحكيمي أن يعلن الاحتفاظ بحقه في مقاضاة هذا الفهلوي المحسوب على مهنة الصحافة. ولست أرى سببا واحدا يستدعي الإساءة للحكيمي بهذه الطريقة سوى تملق السعودية بالنظر إلى أن الحكيمي يراها دولة معتدية على اليمن، ويعلن ذلك جهاراً نهاراً. والحقيقة أن خمس سنوات من الحرب كشفت لنا أن دعم الشرعية ليس هو ما تفكر به السعودية والإمارات العربية المتحدة في اليمن، فللدولتين أهداف عدوانية واضحة ضد اليمن أرضا وإنسانا.
وصف سمير ثورة فبراير 2011 بأنها "هوجاء". وهذا كلام لا يدل على الغباء وإنما على الانتهازية في ظل مؤشرات الدعم الكبير "للعفافيش" سعوديا وإماراتيا. والدعم هنا لا يتوقف عند أحمد وطارق وإنما يمتد إلى طابور كبير يتصدره مع آخرين "قالع العداد" الذي أصبح رئيسا لبرمان "الشرعية" ومن غير المستبعد أن يصبح صاحب حظوة كبيرة في اللجنة الخاصة تضاهي الحظوة التي كانت للشيخ عبد الله الأحمر.
ومهما يكن من أمر فإن وصف ثورة فبراير بأنها "هوجاء" ينطوي على الاستهانة بتضحيات آلاف اليمنيين الذين خرجوا للتظاهر السلمي في شوارع مدن اليمن وساحاتها العامة ورابطوا فيها لأكثر من عام رغم الدماء الغزيرة التي سفكتها أجهزة عفاش. ولأن الثوار نجحوا في خلع عفاش أصبحت الثورة "هوجاء"!!!. ولنا أن نسأل سمير: كيف تنظر إلى ما فعله عفاش المخلوع الذي تسميه شهيداً وزعيماً وقائد انتفاضة؟ لقد أراد أن يعلم خصومه السياسة – كما قال هو بغطرسته المعهودة – وذهب من أجل ذلك يسلم مقدرات البلاد العسكرية والمدنية للحوثي. وبغير دعم وتحالف علي صالح ما كان بمقدور هذا الأخير أن يتجاوز حرف سفيان. لكن الحوثي كان الأكثر ذكاء في فهمه لطبيعة علي صالح كشخصية مجبولة على الغدر بحلفائه ولهذا لم يهدأ له بال حتى أجهز عليه وأمن شرَّه. وقديما قال المتنبي: "ومَنْ يجعلِ الضرغامَ بازاً لصيدِهِ تصيدَهُ الضرغامُ فيما تصيدَ".
ولو أن علي صالح خرج منتصراً من شارع صخر لكانت مأساة اليمن أكبر بما لا يقاس مما هي عليه اليوم والذين يعتقدون عكس ذلك لا يفكرون بعقولهم وإنما بالمكبوتات المتراكمة عبر القرون من أيام الهادي إلى أيام أحمد يا جنَّاه. ومن باب الإنصاف علينا أن نعترف للحوثي بحسنة الإجهاز على علي صالح بالنظر إلى القبح الكبير والممتد الذي مثله عهد هذا الرجل.
لم أكن أبدا متجنيا على سمير عندما قلت إن مقاله عن "الغداء الأخير" ليس إلا مناسبة للتعمية على وضاعة النية ورخص المقصد. وهذا واضح جدا من خلال ما قاله عن قطر وكأنه صحفي سعودي متعصب جدا لمليكه. يقول سمير: "لو لم تكن قطر متورطة بقتل الزعيم صالح من خلال توفير الدعم اللوجستي لعملت عنه فيلما استقصائيا، فدمه لم يجف بعد ومرتبط بالحرب الدائرة منذ أكثر من أربع سنوات، ولا تزال ملابسات انتفاضته وقتله أكثر غموضا من اغتيال الحمدي، وكشفها أهم لحاضر ومستقبل اليمن"!! والحقيقة أن هذا ليس بحجاج وإنما هو إلى السخف أقرب إن لم يكن هو السخف نفسه.
أولاً: لم يكن الحوثي بحاجة إلى دعم لوجستي من قطر للإجهاز على علي صالح لأن مقدرات الدولة أصبحت كلها في يده، وقد أجهز على "الزعيم" برجال كانوا قبل سبتمبر 2014 حول "الزعيم" وبسلاح كان يوما ما سلاح "الزعيم". والشيء الوحيد الذي كان يحتاج إليه الحوثي هو ذريعة الإجهاز ليس إلا. وقد قدم صالح هذه الذريعة على طبق من ذهب من خلال خطاباته التحريضية الطافحة بأوهام الزعامة معتقدا أن الجماهير ستهب بالملايين لنجدته في شارع صخر وسط العاصمة صنعاء.
ثانياً: بمنطق "من المستفيد من قتل علي صالح قطر أم السعودية؟" فالقراءة السياسية الحصيفة تقول إن السعودية هي المستفيد لأنها بقتله ستكون قد أخفت ملفا كبيرا من القذارة المشتركة، وهذا يتسق تماما مع طبعها في التعامل مع كل عملائها وحتى مع مواطنيها حين يتمردون عليها أو يظنون أن لديهم القدرة على مساومتها وخاشقجي واحد من هؤلاء.
وحتى في المبادرة الخليجية يوجد ما يدل على أن السعودية بقيت متمسكة بعلي صالح وظلت توعده بدور آخر غير الدور الذي لعبه خلال ثلاثة وثلاثين عاما، وهو نفسه قبل بهذا الدور الجديد –مكرها لا بطل-تحت ضغط ثورة الشباب وثقة منه بأن السعودية لن تتخلى عن خادمها الأكبر في اليمن بالنظر إلى ما قدمه من خدمات "جليلة" قبل وأثناء رئاسته. وليس في المبادرة الخليجية ما يدل على أن السعودية أرادت لدور علي صالح أن ينتهي، وهي ربما لم تستقر على بديل بعينه بعد ولم تختبر أي بديل وليس لديها معرفة بالخدمات التي سيقدمها البديل أو سيكون قادرا على تقديمها.
ولو شئنا أن نبسط القول في علاقة صالح بالسعودية فلن ننسى أن هذا الرجل هو من باع الأراضي اليمنية في خيانة عظمى أطلق عليها مسمى "ترسيم الحدود" في يوليو من العام 2000. كما لن ننسى أنه كان الأكثر حظوة في كشف اللجنة الخاصة بمبلغ أربعين مليون ريال سعودي شهرياً، وأن المملكة هي من ساعده في البقاء على قيد الحياة بعد مذبحة جامع النهدين. وأكثر ما أزعج السعودية هو أن علي صالح حاول في لحظة من اللحظات أن يتنكر لأولياء نعمته. صحيح أنه أدرك لاحقا حجم خطأ حساباته وأرسل ابنه أحمد إلى محمد بن سلمان لتلطيف الأجواء. لكن ما لم يكن يعلمه صالح أن محمد بن سلمان يمثل جيلا جديدا في العائلة المالكة، ومن سمات هذا الجيل أنه عاري الوجه لا يقبل المساومة من أي خادم وإنما يملي وعلى الخادم أن ينفذ، ولهذا أخفق أحمد.
ثالثا: ليس من حق سمير ولا غيره أن يملي على قطر ما ذا تفعل وماذا لا تفعل، وإذا كان بحاجة إلى فيلم استقصائي عن زعيمه فهذا اهتمام عاطفي خاص به وبمقدوره أن يطلب ذلك من الشقيقة الكبرى وستكون مناسبة لفضح قطر وبيان شراكتها في قتل الزعيم، ونتمنى على كل من تدعمه السعودية أن يظهر ما لديه من وثائق تدل على علاقتها المضيئة باليمن وعلاقة قطر المظلمة.
أما أن الكشف عن ملابسات مقتل علي صالح أهم لحاضر ومستقبل اليمن من الكشف عن ملابسات مقتل الحمدي فهذا كلام يحتاج إلى تصحيح وأقترح من أجل ذلك الصيغة التالية: "ما لم ينبرِ أصحاب العقول النيرة لدراسة ظاهرة علي صالح دراسة موضوعية فإن هذا الظاهرة الكارثية ستظل مرشحة للتكرار".
يقول سمير في مقاله: "إن جريمة قتل الحمدي معروفة بتفاصيلها حتى للبهائم، وأن توقيت فيلم الغداء الأخير جاء لمناغشة السعودية ونكش أوجاع اليمنيين، وأن حقد إمارة قطر على المملكة انتقل من الطفح المصحوب بالحكاك إلى السعار الذي لا برء منه" ثم يضيف قائلا: "من الغباء توظيف أسباب ودوافع قتل الحمدي للإساءة لمن يحكم المملكة حاليا". وللقارئ اللبيب أن يلاحظ أن سمير أرهق ذهنه كثيراً لتجميل وجه السعودية وتقبيح وجه قطر ومع ذلك لم يوفق.
أولاً: إذا كانت جريمة قتل الحمدي معروفة بتفاصيلها حتى للبهائم فنحمد الله أننا لم نكن على بينة من الأمر لأننا لسنا بهائم. ثانياً: التقليل من قيمة الفيلم لم يأتِ من باب النقد الموضوعي وإنما من باب الحسد للنجاح الذي حققه جمال المليكي، وهنا أرفع قبعتي وانحني احتراما لهذا الشاب العصامي الذي يكافح بشرف ويصنع نجاحاته بشرف، وليس صحيحا أن كل من يعمل في قناة الجزيرة هو بالضرورة من الإخوان المسلمين. ولكن على افتراض أن جمال المليكي من الإخوان المسلمين فمن العيب كل العيب أن يسقط سمير موقفه من الإخوان على جمال المليكي. ذلك أن مثل هذا الاسقاط ينم عن غياب الثقافة المدنية واستحكام النزعات العصبوية المتخلفة.
إنني شخصيا ضد الإخوان كبنية أيديولوجية قائمة على تسييس الدين وتديين السياسة لكني لست ضد الإخوان كأفراد بينهم الكثير الكثير ممن يجبرون المرء على حبهم واحترامهم. ومشكلة سمير مع المليكي أن هذا الأخير أوجع السعودية كثيرا بفيلم "الغداء الأخير" فأسرع الأول إلى تسويق نفسه كمسكِّن ضد هذا النوع من الوجع. وهنا يلزم أن نعترف لسمير بالقدرة على انتهاز الفرص وعليه فقط أن يطور مهاراته في الكتابة حتى لا يظهر متهافتا جدا في عيون القراء.
ثالثاً: لماذا كل هذا الانزعاج من قطر؟ وكأنك يا سمير لا تعلم أن السعودية كيان قذر في تعامله مع كل جيرانه وهي أكثر قذارة في تعاملها مع اليمن واليمنيين. دع قطر تفضح السعودية كما تشاء. وأنت وأمثالك دافعوا عن السعودية واظهروا لنا ولو قبسا من نورها الذي تعتقدون أنه يبدد ولو بعض الظلام في اليمن.
أخيرا يقول سمير: " حتى لا تظل قطر تصطاد في الماء العكر داخل اليمن للإساءة لجيرانها ينبغي على السعودية المسارعة لإزالة كل ما يعكر صفو علاقتها مع الداخل اليمني، ولن يتأتى ذلك بغير توحيد صف اليمنيين على قيادة تضع نصب عينها مصلحة اليمن وتحريرها من الحوثة المتمردين لأن التشتت الحالي ستحصد ثماره الدول المعادية".
شخصيا شعرت بالغثيان وأنا أقرأ هذا الكلام الأخير لشخص يعتقد أن الصحافة الحكومية في اليمن أصبحت مختطفة فقط عندما سيطر عليها الحوثي، أما أيام الزعيم فلم تكن كذلك بدليل أن سمير كان رئيسا لتحرير صحيفة الجمهورية. يا سمير: لو لم تكن البلد كلها مختطفة لما كان بمقدور زعيمك أن يسلمها للحوثي هكذا بكل بساطة. وبقي فقط أن ألفت انتباهك إلى أنك أنت أيضا مختطف ومقالك طافح بهذا المعنى.
*نقلا عن صفحة الكاتب في فيسبوك