"إنه رأسي أنا، لا تبحث فيه عن أفكارك." جبران خليل جبران
لا زالت الأحداث في الشرق الأوسط تتصاعد فبالأمس أُصيبت ناقلتي نفط في خليج عُمان بهجوم أختفي فاعله، أعلنت عنه بريطانيا قبل الكل وفيما ساعدت إيران في إجلاء طاقم إحدى الناقلتين قالت واشنطن أن قارباً إيرانياً نزع لغماً لم ينفجر عن إحدى الناقلتين، فيما جدد الانقلابيون الحوثيون اليوم استهدافهم للمطار المدني في مدينة أبها السعودية لتسجيل حضورهم كلاعب أساسي في المنطقة، وتذهب التفسيرات نحو أنهم يبحثون عن تخفيف الضغط عن إيران، بينما الشرعية اليمنية بقيادة هادي تكاد تكون غائبة عن المشهد، فلا انتصارات على الأرض والجبهات نائمة فيما بيانات التنديد غير المهمة تعمل بانتظام لدى الشرعية وبعض أحزابها.
لا تُنسينا الأحداث في خليج عُمان وجنوب السعودية الحدث الأهم في نهاية هذا الشهر، حيث أعلنت الأمم المتحدة عن انها ستشارك في مؤتمر "ورشة الازدهار من أجل السلام" بالعاصمة البحرينية المنامة، المرتقب أواخر الشهر الجاري، وهي ورشة سيحضرها من يقبلون بصفقة القرن التي وضعها ترامب لتصفية القضية الفلسطينية .. فمهما كان التصعيد في خليج عُمان إلا أن تصعيداً أخر سيكون في ضفاف الخليج العربي وتحديداً في المنامة، وسيفعلها ترامب صاحب الصفقة وسيترك العرب وأمانيهم في حرب أمريكية مع إيران ليضغط عليهم لقبول صفقة القرن لتظل الحرب الأمريكية الإيرانية المنتظرة مجرد حبر على ورق سيكتبها شاب أمريكي مطلع على بعض ملفاتها ليعرفها الناس بعد عقود.
إن هذا الغياب المخزي من قبل الشرعية ليس في صالحها ولا يصب في مصالح الشعب اليمني الذي يعاني من ويلات الحروب منذ مايزيد عن أربع سنوات، لا حضور خارجي ولا حضور عسكري على الأرض فهل حان الموت السريري للشرعية؟
قبل القبول بهذه الفرضية التي يتحدث عنها البعض دعونا نحاول كما يحاول ويبدأ التائهون على الدوام، عندما نظن أن مجموع الطرق المتصلة تنتهي بطريقين إثنان لا ثالث لهما فدوماً هناك طريق ثالث ومخرج طواريء لا يستطيع أحد تجاوزه لا في واقع ولا في خيال، لا في سرد أو أدب أو أديان، ومنها تبدأ هذه المحاولة التي لن تصل إلى مسامع شرعيتنا التي يسيطر عليها الأوغاد والانتهازيون من كل لون.
لابد من حضور على مستويين إما على مستوى العمليات العسكرية الميدانية أو الحضور عبر الخارجية، وأحد الحضورين يكفي لإحياء الأخر، بحكم أني أسعى للسلام ولم تعد الحروب تروقني ولا تغريني سأتحدث عن الحضور عبر الخارجية.
الشرعية في وضعها الحالي بحاجة إلى عملية إنقاذ سريعة، كان التحالف السياسي الكبير مبشراً، لكن المشكلة أن الأحزاب اليمنية وصلت إلى نهاية الطريق مع أيديولوجيتها المنقرضة، وماتت مع النظام الذي أسقطته، ولابد من حدوث معجزة يمنية تنتشل شبانها وشاباتها من وهم الأحزاب جميعها بلا استثناء.
هذه الشرعية في وضع لا تُحسد عليه باتت اليوم بحاجة إلى لجنة علاقات خارجية تسند إلى "مجموعة محترفة وبنت سوق" وليست محصورة بمخلفات الداخل، ولديها حضور دولي، وأفرادها يُختارون بعناية من محبي اليمن الذين لم تهزمهم الظروف ولا استطاعت الهجرة أن تُبعدهم عن الوطن الأم ولا التشرد أثناهم عن حب اليمن، أفراد اللجنة لهم حضور في الدول ذات التأثير الدولي في كل مستوياته، وليكن حضورهم في أوروبا وأميركا والصين وآسيا وأفريقيا، علينا التسليم أن الجيل الجديد من هؤلاء المخلصين يفكرون بطرق مختلفة كلياً عن تفكير المحبطين في صفوف الشرعية المترنحة، ويستطيعون إنقاذ البلد ولو كانت في فم الشيطان ذاته وليست بيد إيران والتحالف.
تحتاج هذه اللجنة إلى تفويض مطلق من الشرعية ولا سلطة لجلال هادي عليها، ولها الحق في إعادة تشكيل فريق وزارة الخارجية واستبعاد الفاسدين عن صفوفها، وعليها بناء فريق مفاوضات محترف لخوض المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة، وعلى أن يكون لديها تفويض من الحكومة ومجلس النواب والأحزاب، ومنها تشكل قيادة جديدة لوزارة الخارجية وتكلف بوضع مهام الخارجية وإعادة تشكيل الخارطة الديبلوماسية اليمنية على مستوى كل السفارات اليمنية في العالم.
سيكون من مهام لجنة العلاقات الخارجية العمل على فصل الخارجية اليمنية عن قرار الأخرين، مستقلة كلياً عن التحالف الذي عمل على تصفية القضية اليمنية وحمل اليمن أخطائه على المستوى الدولي.
ستعتمد الخارجية بحلتها الجديدة وفقاً لمقررات لجنة العلاقات الخارجية على الجاليات اليمنية في الخارج و ستستعيد الثقة بها، ولن تعود الثقة حتى يزول العبث في السفارات وإعادة المتسلقين وعيال الوساطات إلى الداخل، وترشيد الإنفاق وتقليص أعداد الموظفين إلى أقصى حد، حينها سيصدق الناس أن هناك تغييراً وهناك من يريد إستعادة الدولة، وستتكفل الجاليات بالصرف على السفارات وأنشطتها للتعريف بالقضية اليمنية ولن يكون هناك احتياج لدعم التحالف مالياً لهذه السفارات وستكون مستقلة وتحشد الدعم العالمي السياسي والإنساني لليمن.
إن الشرعية التي لا تسيطر على الداخل، يجب أن تتحرر في الخارج عبر الخطوات السابقة، بدلاً من فقدانها لعصى الديبلوماسية كما هو الحال عليه الآن، أتحدث هنا على اعتبار أن الشرعية ليست هادي وحده بل مجموعة الأحزاب ومؤسسة الرئاسة ومجلس النواب، ولذا لابد من إعادة توزيع الأدوار، فلا أحد يغامر بوضع كل البيض في سلة واحدة، غداً التحالف يتفق مع إيران ويتفق مع الحوثي فماذا ستفعلون أنتم وقد أظهرتم كل العداء وليس بيدكم شيء لا في الداخل ولا في الخارج؟
أحب أن أوضح هنا أنني لست مهتماً ما إذا كانت استقالة وزير الخارجية خالد اليماني شائعة أم معلومة، أنا لا اتهم الرجل ولا أشفع له ولا أُدينه ولا أُزكيه، ما يهمني هو فتح باب النقاش في ملف من أهم الملفات المهملة في بلدي الذي انهكته الحروب، وقد فتح الباب على مصراعيه خلال الأيام السابقة.
وزارة الخارجية قائمة على بناء ملفات علاقات البلد، والإشراف على العلاقات الخارجية المختلفة مع دول العالم، وتعمل على دراسة وتحليل الأوضاع السياسية المختلفة بسياسة الدول الأخرى ومدى تأثيراتها الآنية والمستقبلية على سياسة الدولة، وكذلك تقوم بتمثيل الجمهورية في المؤتمرات والاجتماعات والندوات الإقليمية والدولية. وهناك الكثير من المهام تستطيعون العودة إليها في اللائحة التنظيمية لوزارة الخارجية، وكل هذه المهام لا تعني بحال من الاحوال أن مهام هذه الوزارة بالإمكان أن تكون مجالاً مفتوحاً للتصنع والبطولات والابتكار الفردي والتهريج والاستعراض الفارغ، وفي حالة الحرب وسقوط الدولة بفعل الانقلاب يتحتم على هذه الوزارة القيام بمهامها المذكورة في اللائحة بالإضافة إلى التعريف بالقضية اليمنية وخلق تعاطف دولي مع الشعب اليمني ودعوة العالم إلى المساهمة في إيقاف الحرب وإحلال السلام في اليمن.
في الحالة اليمنية شديدة التعقيد ظلت الخارجية منذ الانقلاب في 2014، مجرد وزارة شكلية يبرز دورها ويخفت مع سلسلة المفاوضات والتي بدأت في جنيف (1) وانتهاء بمشاورات ستوكهولم المتعثرة. يأتي ضعف الخارجية من ضعف الشرعية التي ارتضت أن تكون مجردة من السيادة وصمتت عن انتهاكات التحالف للسيادة اليمنية في المناطق المحررة كعدن والمخا وباب المندب وأجزاء من الحديدة، أو تلك التي لم تسقط بفعل الانقلاب كالمهرة وسقطرى وحضرموت.
فما الفائدة من وجود وزارة خارجية لشرعية منزوعة السيادة أو جزء منها، مع الغياب الكامل لمشروع نضال وطني جامع لاستعادة الدولة وتحرير كل أراضيها من المليشيات أياً كان ممولها الخارجي أو لتلك القوات المسيطرة على الأرض والتي لا تنتمي لمؤسسة الجيش الوطني؟
تحتاج الشرعية ممثلة بقيادتها وأحزابها وحكومتها وبرلمانها إلى تحديد ما إذا كانت اليمن مازالت دولة مستقلة حتى لو كانت تحت البند السابع أم أنها قد سلمت بسياسة الأمر الواقع؛ شمال يتم تجهيزه دولياً للرضوخ لعصابات الهاشمية السياسية، وجنوب واقع معظمه تحت وصاية عصابات الفصل العنصري.
ولذا لابد من إعادة صياغة العلاقة مع التحالف، وهي أولى أعمال السيادة المنوطة بلجنة العلاقات الخارجية وبوزارة الخارجية المنبثقة عنها.
بنظرة سريعة للوضع في اليمن نجد أن الحرب قد توقفت في الجبهات منذ أمد، وتنوعت الحروب بين تحالف يريد أن يكون وكيلاً للاستعمار في سواحل ومضيق وجزر اليمن، وبين شرعية تحلم باليمن الاتحادي كوهم وأضاعت كل الفرص التي أُتيحت لها منذ بداية الحرب، وبين حوثي متخلف عقلياً يحارب لأجل إيران متناسياً أنه ومذهبه وسلالته لن يقبلوا به حتى حارس لحوزة من حوزات قم المقدسة عند الأمة الفارسية. وبين حالمين بالجنوب العربي البريطاني الهندي الروسي، ومن أراد التعرف على هذا الطرف فلينظر في وجوه المهرجين الذين يتصدرون المشهد في الجنوب.
كل هذه الحروب والمشكلات تدعونا للذهاب جميعاً نحو السلام، ولا شيء أخر غير السلام، إذا أرادت الشرعية الخروج من المأزق وإحراج جميع الأطراف وذلك بالبدء بتحرير السياسة الخارجية للجمهورية اليمنية، وليجد هذا الأمر قبولاً لابد من رفع شعار السلام في كل المحافل الدولية، فصوت السلام هو من يصغي إليه العالم، وهذا هو الذي يحقق لجماعة الهاشمية السياسية الحضور الدولي عكس الشرعية وخارجيتها وسفاراتها.
لإحداث التغيير في الخارجية لابد من التسليم بمجمل الملاحظات التي لا تخفي عن الجميع، وبدون القبول بتشخيص الوضع لن يكون هناك تغيير، وكما أن عدم القبول بالنقد الموضوعي لا يعني إلا أن هناك من يصر على السقوط دون القبول بالتغيير المنشود.
ساسرد هنا بعض الملاحظات حول الخارجية وهناك ملاحظات أهم يعرفها العاملين في السلك الدبلوماسي سيصل إليها من يريد التعاون على تغيير هذا الوضع:
من الملاحظ أن الخارجية اليمنية التابعة لهادي لا يوجد لديها برنامج وطني موحد للتعريف بالقضية اليمنية، ولا تسعى للعمل لأجل إحلال السلام في اليمن فمازالت تتبع التحالف والتحالف يشن حربه في اليمن ضد الانقلاب ولا يتورع عن قصف المدنيين في ظل صمت الخارجية اليمنية وهذا الصمت خطأ محسوب على الشرعية.
لقد خضعت الخارجية اليمنية على مستوى الوزارة والسفارات للمحاصصة والمناطقية الجهوية والمحسوبية "والأقربون أولى بالمعروف: القرب بكافة أنواعه" في تعيينات السفراء وموظفي الخارجية وهذا ساهم في شل حركة الخارجية، وإن نشطت بعض السفارات ونامت بعضها فهذا يعود إلى شخصية السفير وقدرته على جلب الدعم الخاص والتحرك.
سفارات هادي تتعامل بمنطق الجباية مع المواطنين في الخارج ويعتبرون ذلك من الانجازات الوطنية العظمي.
العمل الدبلوماسي في الفيسبوك وتويتر وصحافة نت والمواقع الهابطة صار سمة عصر هادي بينما الواقع يقول غير ذلك.
عند تعيينات وزراء الخارجية تغيب الأحزاب بل وتتسابق في التهنئة للوزير أياً كان لأجل تعيينات أبناء قادة الأحزاب وأقاربهم والحصول على تسهيلات المرحلة، و الملاحظ هو غياب المبادرة الحزبية إما هروباً من تحمل المسؤولية أو عزوفاً حتى لا يقال أنها تريد أن تحكم وتسيطر، وكأنها أحزاب متخصصة في "زراعة البقل لا أكثر!".
الطامعون بالمنصب ينتظرون هادي أن يتذكرهم هذه الأثناء ويرسلون الرسائل والوعود للمقربين من هادي لعل وعسى، ولا يدركون أبدا "أن المتغطي بالاصلع عريان".
الخارجية بحاجة إلى أن تنجز برنامجا للسلام في أقل من سنة بتكثيف جهودها خارجياً للخروج بالبلد من أسوأ أزمة عرفتها في تاريخها المعاصر.
على الشرعية أن تعترف أنها فشلت في فرض حضورها على الأمم المتحدة، وأن غريفيث قد عبث بها وبلجنتها في ستوكهولم، وأنه يقيم علاقته بالشرعية على أساس تبعيتها للرياض وأبوظبي والمجتمع الدولي وليست الدولة اليمنية والتي من الضروري للحصول على موافقتها في كل ما يتعلق بالمفاوضات، بعكس تعامله مع الحوثيين وتدليله لهم.
هادي دوما يختار أناس فيهم ضعف؛ سفراء ووزراء ووكلاء .. والمتغطي بالأصلع عريان.
* المقال خاص بالموقع بوست