لأوَّل مرة في تاريخ الحروب والانقلابات يُقتل الرئيس وينجو حارسه، وأمين سره، ورُجله الأول، الذي تولى في عهده أهم الملفات وأخطرها، في حين قتل الحوثيون من هو دونه، وهنا أول علامة استفهام؛ إذ لم يكن طارق بالنسبة لصالح مجرد قائدًا لحرسه الخاص، والمرافق الذي يلازمه كظله فحسب، بل كان أهم شخصية في الجيل الثاني من آل عفاش الذين ظهروا خلال العقد الأخير من حكم صالح، وهو العقد الذي شهدت فيه الأسرة قمة صعودها، ومنتهى سقوطها.
يُعدُّ طارق عفاش الصندوق الأسود لصالح؛ من خلال الملفات التي تولاها خلال العقد الأخير من حكمه، وأهمها الحرب مع الحوثيين،وملف الإرهاب بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتشكيله لجهاز الأمن القومي بالشراكة مع شقيقة عمار،فإن كان عمار رئيس الجهاز، فطارق الممسك بعصبه، والمتحكم بكل خلاياه، وآخرها ملف الحرب على الجنوب، بالشراكة مع الحوثيين، إذ كانت القوات الغازية تتكون من قوتين مختلفتين،ويسير قرارها برأسين مختلفين،فكل قوة تختلف عن الآخرى، في ألقابها، وتشكيلها وولائها، وطريقة قتالها، وحتى في أسلوب تعاملها مع الناس، وهذا التباين والاختلاف بين تشكيلات القوات الغازية رأه الجميع في عدن بوضوح (حوثة وحرس) و(مشرف وقائد) و(جندي ومجاهد) كل قوة تختلف عن الآخرى.
كان طارق هو القائد الفعلي لما تبقى من قوات صالح، وكان صالح حينها لازال يملك نفوذًا على أغلب وحدات الحرس الجمهوري، والأمن المركزي قبل أن تقلم أظافره المخابرات الإيرانية من داخل صنعاء لحساب الجماعة الموالية لها.
تعوَّد صالح في كل صراعاته مع خصومه أن يكون هو السلطة، وخصمه المعارضة، لذا حسم كل حروبه العسكرية، ومعاركه السياسية بسرعة، لكن هذه المرة بدأ الأمر مختلفًا؛ فلا صالح هو السلطة، ولا إيران الناصريين، أو حوشي،أو البيض ورفاقه. فأخطأ في كل حساباته هذه المرة، وهذا ما أظهرته طريقة مقتله، ومشهد التمثيل بجثته.
كان طارق أحب الناس إلى صالح، وأقربهم إليه، إذ كان يؤثره على أبنائه؛ ربما أن صالحًا رأى في طارق همته في شبابه، وجلده في الإصرار على الوصول، بالإضافة إلى ملازمته له ملازمة المريد للشيخ، فأخذ عن الحاوي بعضًا من طرقه وأساليبه التي اكتسبها خلال أكثر من ثلاثة عقود في الحكم، والدليل على ذلك خروج كل أفراد أسرة صالح الذين تولَّوا مناصبًا قيادة أبان حكمه، ولم يبق معه سوى طارق ،وبعض من أبنائه الصغار الذين لم يكن لهم دورًا حقيقًا في الحياة السياسية والعسكرية.
مع بداية توتر العلاقة بين الحوثيين وحليفهم صالح، وقبل مهاجمتهم لمنازل آل عفاش،كان الحوثيون يتهمون طارقًا صراحة، ويحملونه مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع من توتر، وكانت جميع وسائل الإعلام تصوره رأس حربه صالح، والقائد الميدان لقواته، التي تبخَّرت بمجرد إن عرض الحوثيون مشهد جثة الزعيم يعبث بها مجموعة من الصبية، ليعلنوا للعالم طي صفحته إلى الأبد.
لم يُعد أحدً من المراقبين يعوِّل على أي دور لطارق في موازين المعادلة التي حسمها الحوثيون لصالحهم في زمن قياسي،بقدر ما كانوا يتساءلون ماهو مصير طارق ؟ إذ رجَّحت كثير من المصادر حينها مقتله، وتابع الجميع ذلك المشهد الذي تناقلته بعض القنوات العالمية الذي يُظهر جثة رجل ملفوفًا بحلق السناسل،قيل حينها إنها جثة طارق، وكانت المعطيات والقرائن تتأرجح بين مقتله، أو أسره؛ سيحتفظ به الحوثيون بعض الوقت قبل تصفيته؛ ليفرقوا ما في جعبته من أسرار.
طغى هروب طارق، وخروجه من صنعاء على مقتل صالح نفسه! وتحوَّل الناس من سؤال كيف قتل صالح؟ إلى كيف هرب طارق؟ وبأي طريقة خرج من الدائرة الضيقة التي أحكم الحوثيون قبضتهم عليها بشدة؟ سؤال تناسلت منه عشرات الأسئلة:
كيف خرج؟ ومن أخرجه؟ وماهو ثمن صفقة خروجه؟ وغيرها من الأسئلة التي كانت تبدو الغازًا محيرة، لم تُفك طلاسمها إلا حين اختار أن يكون مكان لجوئه نفس المدينة التي لا تزال آثار أقدام قواته مرسومة على جبين رمالها، وآثار ما خلفته من دمار على واجهات مبانيها.
ليزداد الأمر وضوحًا بإعلان طارق من قلب عدن إنه لايعترف بالشرعية التي جاءت التحالف لاستعادتها.
طارق إذن لا يعترف إلا بمشروع صالح (الوحدة أو الموت) تحرسه قوى تدِّعي أنها لا تؤمن إلا بمشروع (الانفصال أو الموت) مستظلًا تحت أعلام الجنوب التي يسخر منها كلما أوى إلى ظلها، ليجتمع لأوَّل مرَّة مشروع الوحدة والانفصال تحت سقف واحد، ولا يجوز لك هنا أن تسأل كيف اجتمع سيفان في غمد؟
ضاعفت تعقيدات المشهد السياسي من صعوبة مهمة طارق التي خرج من صنعاء لتنفيذها كما ينبغي، فجعلته كسفيه القوم الذي أفشى سرهم، فانكشفت أهدافه، وبانت خيوطه، كخيوط الشمس في رابعة النهار،بعد أن أتَّضح جليًا للداخل والخارج إن طارقًا يُمثِّل المصب الذي تلتقي فيه روافد المياة الأسنة شمالًا وجنوبًا.
* نقلا عن صفحة الكاتب من الفيسبوك