بعد يومين من وصول لجنة عسكرية سعودية إلى عدن استمر قادة المجلس الانتقالي في الحديث إلى وسائل الإعلام قائلين إنه ما من لجنة قد وصلت إلى المدينة. في البيان الذي أصدره المجلس، ذلك الذي نظر إليه بحسبانه البيان الانقلابي رقم واحد، طلبوا ممن أسموهم "الأشقاء الشماليين" الحصول على موافقة أمنية إذا كانوا يرغبون في العمل في أرض الجنوب. تبدو الدالة الأمنية لدى القادة الجدد غامضة لدرجة إنها تبصر "العامل الشمالي"، ولا تعلم بوجود جنرالات من دولة أخرى. ستنجح تلك اللجنة، كما هو متوقع، في إعادة معسكرات الرئيس هادي ومؤسساته. بيد أن أولئك القادة الذين لن يعرفوا قط أن هنالك لجنة عسكرية سعودية سيواصلون رفض الانسحاب، وسيقولون إن الجنوب قد اتخذ قراره.
عقب سقوط عدن أصدرت السعودية بياناً تلاه المالكي، المتحدث باسم التحالف، هددت من خلاله قوات المجلس الانتقالي بمواجهتها عسكرياً إذا ما تلكأت في الانسحاب. ولكي لا تحدث مثل تلك المواجهة فقد سافر بن زايد إلى السعودية وطلب من الملك أن يترك الأمر له. قال لهم، كما علمنا، إن تلك القوات المنتصرة طوع بنانه وأنه ما من حاجة لضربها بالنار، فهي ليست بالجيش المظفر ولا المشكلة المركّبة.
لنتذكر ما قاله مسؤول إماراتي لمجموعة من الصحفيين في أبوظبي عن المشهد العسكري في جنوب اليمن. بحسب الرجل، الذي طلب منهم عدم الإفصاح عن اسمه، فإن دولته تملك تسعين ألف مقاتل في جنوب اليمن. بالطبع ربطت الإمارات ذلك الجيش مالياً وإدارياً بها. وفيما لو تلكأت عن دفع رواتب ذلك المجتمع المسلح فسيتحول أفراده إلى قطّاع طرق ورجال عصابات. ثمة انطباع دولي عن الإمارات، أبو ظبي في الأساس، يقول إن مزاجها السياسي سريع التقلب وأنها تبدّل حلفاءها وأعداءها باستمرار، تاركة خلفها متتالية من المشاكل العويصة. وفيما لو قررت الخروج من الغابة اليمنية كلياً، وليس شكلياً، فستترك فراغات قاتلة.
في مقدمة تلك الفراغات ذلك الجيش "الجنوبي" غير المحترف الذي يقوده هواة من أئمة المساجد وصغار الضباط. أي ذلك الذي لا يخضع لسلطة مركزية، ولا يملك من مصدر تمويل خارج التحويلات الإماراتية. استخدم وزير الداخلية اليمني أحمد الميسري جملة "عمال الصرفة اليومية" في وصف ذلك الجيش، وهي مقاربة مأساوية ودقيقة في آن.
كررت الإمارات القول إنها دخلت الحرب اليمنية دفاعاً عن الأمن القومي السعودي. وفي مؤتمر صحفي أقرب إلى الفانطازيا قال وزير خارجية الإمارات إن بلاده ستخوض الحرب دفاعاً عن جِدّ العرب. بعد خمسة أعوام من حرب شاملة تخلت الإمارات عن ذلك الجد، وعن الأمن القومي السعودي في آن. ليس اعتيادياً ولا مألوفاً أن يقرر مقاتلٌ الخروج من الحرب تاركاً حليفه غارقاً فيها. حروب التحالفات يصنعها هاجس جماعي ومقاربة موحدة، وكذلك تكون عاقبتها. فهي تنتهي عندما يقرر التحالف إن الخطر قد زال، أو انخفض إلى درجة يمكنه التعايش معها، أو باستسلام الخصم.
حين قررت الإمارات الانسحاب من اليمن، أو إعادة الانتشار، كانت الأخبار على وسائل الإعلام الدولية تتحدث عن سيطرة الطائرات الحوثية المسيرة على الأجواء السعودية، وهو التحدي الذي لم يكن ماثلاً قبل أعوام. وفيما يخص مسألة الأمن القومي السعودي فإن هذا التطور يعد تحدياً غير مسبوق. بيد أن الإمارات تضرب بكل ذلك عرض الحائط وتقرر النأي، بدرجة ما، عن حليفها. ذلك هو دأب النشاط الخارجي الإماراتي، فلم يستغرق الوقت سوى بضعة أشهر بين انسحابها الكامل من الحرب السورية وقرارها بإعادة العلاقات مع النظام السوري الذي خسرتْ الحرب ضده. تلك هي طبيعة إستراتيجية الانفعالات، وذلك ما تفعله الأنظمة التي تقاتل برجال من غير مواطنيها وبأسلحة منخفضة القيمة، وحين لا تخضع معاركها لنظرية مركزية.
وجدت الإمارات نفسها في ورطة، فأمام ضغوط داخلية وخارجية رأت أنه من المناسب الانسحاب من الحرب اليمنية. إلا أنها رأت أن تنسحب، فقط، من الجزء غير الجيد من تلك الحرب. كان انسحابها من الشمال بنسبة 100%، وهو ما لم يحدث جنوباً. فقد اقترح الحليف السعودي أن يحل محلها في مدن الجنوب، فالخروج من الحرب اليمنية يعني مغادرتها كلها أو البقاء فيها حتى الأخير. وبالفعل باشرت السعودية في إرسال أفواج عسكرية إلى عدن لتضع المدينة الإستراتيجية في قبضتها وفقاً لتصورها عن طبيعة المعركة ومآلاتها. وقبل أن يكتمل الوجود السعودي في عدن وقعت حادثة مريبة قتِل فيها أشهر القادة العسكريين الموالين للإمارات، وقادت تلك الحادثة وفق سياقات تخلو من المنطق إلى حرب شاملة انتهت باستيلاء الجيش الذي أسسته الإمارات على العاصمة.
بهذا تكون الإمارات قد انسحبت كليا من "عاصفة الحزم"، بوصفها حرباً شنها بعض العرب على الحوثيين، وهيمنت على جنوب اليمن بأقل التكاليف. ما كان للإمارات أن تحقق هذا النجاح دون أن تثير غضب السعوديين: أن تنسحب من مواجهة الحوثيين وفي الوقت نفسه تهيمن على موانئ اليمن الجنوبية. غير أن ذلك حدث، وهو نجاح إماراتي لافت كادت أن تذهب به الرياح حين قررت السعودية استخدام القوة لطرد الانقلاب الجديد في عدن.
الصورة النهائية للترتيب الجديد الذي يعد له السعوديون في عدن تعتمد بدرجة رئيسة على مدى إحساس السعودية بالخسارة أو الخطر. في نهاية المطاف بمقدورها أن تضع الإمارات أمام اختيارات صعبة: إما صداقة السعودية أو ميناء عدن. إذا ما راوغت الإمارات أكثر، فلم يطلب بن زايد من ميليشياته الانسحاب بل حسن الخلق، فسوف تتشكل أرض صراع جديدة. في تلك الأرض الجنوبية ستعجز الإمارات عن الإيفاء بوعودها للانفصاليين في مساعدتهم من أجل السيطرة على كل الجزء الجنوبي من البلد. فالمحافظات الكبرى مثل شبوة، حضرموت، والمهرة تقع في مجال السعودية الحيوي، وهي ثغرة حاسمة.
آنذاك ستبدو "دولة الجنوب الفيدرالية"، كما وصفها البيان رقم واحد، أشبه برقعة أرض صغيرة تمتد من كريتر إلى يافع، غارقة في الصراعات والثأر. فالمدينة الصغيرة سيتجاوز عدد المسلحين فيها عدد المواطنين عمّا قريب، كما أن عدد أبطالها الذين يوقعون بياناتهم بكلمة "الرئيس" تجاوزوا الخمسة، وفيها سلسلة يصعب حصرها من التنظيمات الفوضوية والشعبوية التي تحمل مسمى "الحراك الجنوبي". وأخطر من كل ذلك فالتدبير الإماراتي في المدينة أدى إلى تأسيس جيش يقوده هواة وسلفيون، وطلب من كبار الضباط والقادة الخضوع لهم.
انتهى سقوط صنعاء الأول بانتصار تحالف غير مستقر وبتقاسم متوتر للسلطة. وكان على ذلك السقوط الأول أن يفضي إلى سقوط ثانٍ، وآل المشهد لصالح الحوثيين بعد أن استطاعوا تمزيق جسد صالح بالرصاص والحديد. إذا لم ينجح السعوديون في إعادة ضبط عدن إلى الوضعية السابقة فإن المدينة ستسلك الطريق الذي سلكته صنعاء. وفي النهاية ستعمل جهة واحدة على احتكار سلطة القهر، وفي سبيل ذلك لا بد من تمزيق الكثير من الأجساد بالرصاص والحديد.
* نقلا عن صحيفة الاستقلال
ستنشغل الإمارات بأسمنت الموانئ، تاركة خلفها الحروب الصغيرة تأخذ مجراها. إلا أن يمناً جنوبياً كبيراً كما يحلم به الانتقالي لن يرى النور قط ما لم تسمح له السعودية بالمرور. أما احتمال أن تفعل السعودية ذلك، بالنظر إلى السياقات الراهنة، فيبدو أقل احتمالاً.