التاريخ وصناعة البطل العنيف
الخميس, 12 سبتمبر, 2019 - 03:18 مساءً

في المراحل الدراسية الأساسية، كنتُ كما رفاقي، أبحث عن شخصية البطل الذي يمكن أن يَشغل مساحة القدوة في حياتي. لم تكن رحلة البحث بالأمر الهيّن، خاصة وأن الأبطال الذين يقدِّمهم المجتمع لنا، سواءٌ في المدرسة، أو المجالس العامة، أو البيئة الدينية، هم شخصيات تاريخية جرى تشكيل صُوَرها وَفْق قناعاتِ المجتمع الذي نعيش فيه، أو عمليَّةٍ انتقائية يجري من خلالها استجلاب شخصيات محدَّدة من الماضي، لتتناسب مع نظرية البطل التي يقدِّمها المجتمع، بقصد أو بدون قصد. فتتشكَّل على إثر ذلك جموع الأجيال القادمة، ويصبح الحاضر والمستقبل حالتَيْن من التاريخ المُعاد.
 
صيغة بناء ذهنية النشء هذه، تبدو حيادية من حيث المبدأ؛ إذ إن المجتمع السَّويّ يقدِّم النماذج السَّويّة، والعكس صحيح. لكن، هناك مشكلة مَفصِليّة تتعلق بطبيعة تَكوُّن التاريخ لدينا، ومواضيعه الرئيسية، سواءٌ مكتوبًا كان التاريخ أو مقروءًا، إذ يقدِّم التاريخ نصوصه على شكل خط زمني عمودي، نقاطه الرئيسية هي سلسلة الحروب والنزاعات التي شهدَتها مختلف المجتمعات. هذه الحروب تبدو كمَعامل إنتاج للأبطال المنتصرين في هذه الوقائع. وبينما تتدحرج عجلة التاريخ نحو الأزمنة الحديثة، اختفت الأحداث، وبقي أبطالها مادة قابلة للعبور، وتحوَّلت معها مادة التاريخ إلى مخزون معرفي وفكري، تستلهم منه سلوك المجتمعات.
 
تُهمل السرديّة التاريخيّة، وهذه إشكاليَّتها، أيْ مهمَّة التدوين الأفقي لحوادث الماضي. ففي حين تُدوِّن كلَّ الوقائع التي لها علاقة بالحروب والصراعات، تُغْفل الحديث بِمحطات السِّلم الاجتماعي في حياة الشعوب، المكتوب تاريخها. وإنْ ذكرَتْها، تمرُّ بها على عجل؛ باعتبارها استثناءً في سرديَّتها، وتُعمِّق -ولو بشكل ضمني- فكرةَ أصل الحرب والصراع في صيرورة التاريخ.
 
هذا الأمر يجعل دائمًا شخصيّة البطل، هي شخصيّة المحارب العظيم، الفارس المنتصر، المقاتل الشرس، الذي يعيش صراعًا دائمًا بلا توقُّف. شخصيّة توجد تحت ظلال السيوف، أو في جِوار فُوَّهات المدافع. تقدِّم دمَها من أجل هُويّة المجتمع: دينيّة جغرافيّة، أو اجتماعيّة، أو عِرقيّة. وتتَّسم هذه الشخصية بعدم الموت. وحتى عندما تفارق الحياة، يجري إحياء ذِكراها من جديد في محطات زمنية، وفي سياقات مجتمعية مختلفة. فهي حيّة بطبعها وَفْق تقدير الشعوب المتبعة. واللافت للنظر، أن مهمّة إحياء هذه الشخصيات تتجاوز البعد الوظيفي القائم على استجلاب هذه الشخصيات عند الحاجة، فتصبح هي محور الحياة لدى المجتمعات الحاضنة للبطل. وفي حال زوال ظروف الإحياء الكامل لها، تسعى المجتمعات جاهدة لخلق ميدان حرب، كي ترى شخصية البطل ماثلة أمامها.
 
تتعقد هذه المشكلة أكثر، حين تُضاف إلى شخصية البطل هالة من القداسة، تقوم بدور الحصن المنيع، لردع كلِّ محاولة تتناول هذه الشخصية بطريقة علمية أو نقدية، أو تسعى لاكتشاف مساحة الحقيقة من الوهم. فتتكدَّس الأوهام داخل حصون القداسة، حتى تصبح عصيّة على التفكيك. وتصبح فكرة الدفاع عن شخصية البطل الساكن في ذهنية المجتمعات، هي أكثر الأشياء قداسة. وتُستخدم صفات البطل المتخيّلة، في معارك الدفاع عن هذه الشخصيّات. إنه نوع من الإحيائية التاريخية الشاملة لهذه الفكرة من خلال قداسة شخصية البطل، وإعادة إنتاج صفاته الحربية.
 
إن معضلة “شخصية البطل العنيف”، هي تخيُّل مجتمعي محض. الخروج منها يستلزم خطوة أساسية، تتعلق بمعالجة موضوعية للتعاطي مع التاريخ، والنظر إليه من شتى جوانبه. أيضًا يستلزم القيام بمعالجة الظرفية التاريخية، التي نشأت فيها هذه الحوادث والوقائع. هذه الخطوات ستساهم بشكل فاعل في فهم محيط البطل، قبل دراسة صفاته ومناقبه. هذه الخطوات ستُفضي أيضًا إلى اكتشاف أبطال اللاعنف الموجودين في مسار التاريخ، والذين سيقود اكتشافهم في ذاكرتنا الجماعية، إلى إنتاج واقع أكثر تصالحًا مع مقتضيات الزمن الذي نعيش فيه. مع مُتَوالية العنف التي نعيشها اليوم، وحالة الصراعات التي ساهم في تشكُّلها التاريخ ومتخيَّلات رموزه، يبقى السؤال حول قدرتنا على جلب أبطال تاريخ من مجالات الحياة المختلفة، بدلًا من جلبهم من حلبات الحرب والموت. والسؤال الأهم: “هل يمكن أن نوقف عجلة الصراع عند منحنى الزمن الذي نعيش فيه، ونصبح نحن أبطالَ سِلْم لنا ولأجيالنا وزماننا؟”.
 
 
 

التعليقات