لطالما احتفظت اليمن بتميزها دولة مستضيفة للاجئين، وتحديداً القادمين من دول القرن الأفريقي، إذ لم تميز الأنظمة السياسية اليمنية المتعاقبة، على خفّتها، بين اللاجئين، ولم توظفها ورقة ابتزاز، كما تفعل بعض الأنظمة حاليا، وبالتالي شكلت القوانين اليمنية والطبيعة المضيافة لليمنيين عوامل مساعدة على انصهار اللاجئين في المجتمع اليمني، وهو ما أسهم في جذب مزيد من اللاجئين للاستقرار في اليمن، أو اعتبار البلد منطقة عبور إلى وجهة أخرى، مع وقوعهم، في أحيان كثيرة، ضحية للعصابات العابرة للحدود؛ وحتى مع اندلاع الحرب في اليمن، استمر تدفق المهاجرين من القرن الأفريقي، وإن تضاءلت أعدادهم، في حين أدّى اتساع رقعة الحرب في اليمن، واستطالة أمدها، إلى هجرة يمنيين كثيرين، إلا أن عوائق كثيرة كانت في انتظارهم، فعلى الرغم من فداحة الحرب في بلادهم، فإن اليمنيين في الخارج يعاملون في درجة أدنى من أن يكونوا لاجئين، وهم أقل أيضاً من أن يكونوا رعايا محترمين، وهو ما فرض على يمنيين كثيرين التكيف مع قهر الواقع الجديد أو المجازفة بحياتهم.
الانهيار الكارثي لليمن دولة ومجتمعا، وتحوله من جغرافيا حاضنة لقوميات وافدة إلى بلد طارد، كان محصلة للسياسة التي اتبعتها أطراف الصراع اليمنية والإقليمية في إدارة اليمن، إذ شكلت الحرب الاقتصادية الممنهجة أخطر أوجهها، وذلك لنتائجها المأساوية على حياة اليمنيين ومستقبلهم، حيث عطّلت أطراف الصراع مصدر الدخل الرئيسي لغالبية اليمنيين، بسبب زجّها الاقتصاد في صراعها مع خصومها، وهو ما أدّى إلى حرمان معظم اليمنيين من الأمان الاقتصادي، وتحوّلهم إلى متسولين، حيث تضاعفت أعداد المواطنين الذين يعتمدون على المعونات الإنسانية في المدن الحضرية أكثر من الأرياف، فيما أسهم تخليق أطراف الصراع دورات عنف مستمرة في المناطق التي كانت آمنة نسبياً إلى تفخيخ بيئة الاستقرار المحلية، ما أدى إلى هجرة رؤوس الأموال الوطنية إلى خارج اليمن، الأمر الذي فاقم من معاناة اليمنيين أكثر من سنوات الحرب الأولى، إذ انعدمت فرص العمل أمام اليمنيين، إلا أن الأقسى من واقع العوز الذي يرزح تحته معظم اليمنيين هو استدامة هذا الواقع، ما يعني أن كلفة الحرب سوف تمتد آثارها إلى المستقبل، حيث جاء أخيرا في تقرير التنمية المستدامة في اليمن، التابع للأمم المتحدة، أن الحرب في اليمن قضت على جيلين من التنمية، إذ تراجعت البنية المؤسسية والتحيتة حتى سبعينات القرن المنصرم. وحذّر التقرير من أن استمرار الحرب إلى عام آخر يعني تحول اليمن إلى أفقر دولة؛ وفي حين تمثل هذه الظروف القاهرة عوامل ضغط على غالبية اليمنيين، فإن شريحة الشباب هي الأكثر معاناة، إذ أصبحوا فئةً مُعَطلة، وبالتالي عرضةً للاستغلال السياسي، حيث انحصرت خيارات الحياة أمامهم بين الالتحاق بالجبهات مقاتلين مع أطراف الصراع، أو توجيه عنفهم ضد المجتمع، وبالتالي تحول حلم الهجرة من اليمن لشبابٍ كثيرين ليكون الفرصة الوحيدة للنجاة من واقع مظلم ومستقبل مجهول.
على امتداد سنوات الحرب الطاحنة في اليمن، تدفق اليمنيون الهاربون من الموت والجوع في جغرافيات عديدة، إذ تمايزت تفضيلاتهم من بلد إلى آخر، وذلك وفقا للقرب الجغرافي، والأهم هو مدى تكيفهم مع القوانين المحلية والمجتمعات المضيفة، ومع تفاوتٍ نسبي بين معاناة اليمنيين في الدول المضيفة، فإن معظم الدول الغربية قيّدت قوانين اللجوء إلى أراضيها، في حين لم تتعاط جميع الدول مع اليمنيين باعتبارهم لاجئين يشهد بلدهم حرباً مدمّرة، كغيرهم من اللاجئين من بلدان الحروب الأخرى، إذ كيّف التوصيف القانوني اليمنيين في الخارج وافدين، وليسوا حتى رعايا تقوم الدول المضيفة برعايتهم والتعامل معهم بموجب ذلك، وبالتالي خضع اليمنيون في الخارج، بموجب هذا التوصيف القانوني، لقوانين مجحفة، فرضت عليهم دفع التزامات معيشتهم بوصفهم وافدين، حيث تتحمّل السلطة الشرعية اليمنية المسؤولية السياسية والأخلاقية عن معاناة اليمنيين في الخارج قبل الداخل، وذلك بحرمانهم من حقهم الطبيعي بوصفهم لاجئين، بما يقتضيه ذلك من تسهيل متطلبات الحياة اليومية أمامهم، ففي محاولةٍ منها لارضاء حلفائها الإقليميين المتدخلين في اليمن لصالحها من أي التزاماتٍ حيال مسؤوليتهم المباشرة عن تبعات حربهم على اليمنيين، سوّقت السلطة الشرعية، ومن ورائها السعودية، قائدة التحالف العربي في اليمن، توصيفا سياسيا للحرب في اليمن، بأنها صراع محلي ناجم عن انقلاب جماعة الحوثي على السلطة الشرعية، متجاهلةً تداعيات السياق الإقليمي على اليمنيين، وذلك بانخراط السعودية والإمارات، وقبلهما إيران، الحليف الإقليمي لجماعة الحوثي، في هذه الحرب، وما ترتب على ذلك من تدمير شامل لمقومات الحياة في اليمن، ومن ثم اضطرار يمنيين كثيرين للهجرة لدوافع إنسانية مُلحة.
كانت للتوصيف السياسي لطبيعة الحرب في اليمن انعكاساته الكارثية على حياة اليمنيين في الخارج، إذ فاقم من معاناتهم اليومية، بما في ذلك مضاعفة إجراءات الدول المضيفة لاستقبال اليمنيين، باعتبارهم مواطني دولة مصدرة للإرهاب والعنف، ففيما استمر المجتمع الدولي في تجاهل تداعيات الحرب على اليمنيين، فقد منح ذلك، كما يبدو، الدول التي شرعنت الحرب في اليمن، واستفادت منها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، صك براءة من مسؤوليتها في استدامة الحرب في اليمن، وبالتالي التنكيل باليمنيين؛ فمن جهةٍ، استمرّت السياسة السعودية في التضييق على المقيمين اليمنيين في أراضيها، من خلال قوانين سعودة الوظائف، وهو ما أدى إلى عودة مئات آلاف اليمنيين، وبالتالي مضاعفة الأزمة الإنسانية لعموم اليمنيين في بلدهم. وفي سلوكها هذا، تجاهلت العربية السعودية دورها قائدة للتحالف العربي المتدخل في اليمن.
واتسمت السياسة الإماراتية بالتمييز حيال اليمنيين، بحصر الوافدين من مناطق جغرافية محدّدة، وانتماءات سياسية موالية لها وفق قوانين مشدّدة. ولا تختلف كثيراً انحيازات دول عربية أخرى تجاه اليمنيين، ففي حين تعد مصر، المشاركة في التحالف العربي، وجهة يمنيين كثيرين، وتحديداً النخب السياسية اليمنية والطبقة المتوسطة، حيث تقدّر إحصائيات عددهم بنحو مليون ونصف المليون يمني، فإن واقع حياة اليمنيين البسطاء في مصر مأساوي، فيما استفادت مصر، كدول عربية أخرى، من تداعيات الحرب في اليمن، وبشكل خاص نزوح معظم رؤس الأموال اليمنية إليها.
إلى ذلك، في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، غرق البطل الأولمبي اليمني، لاعب الكونغ فو، هلال الحاج، قبالة شواطئ مليلة الإسبانية، في أثناء محاولته الهجرة غير الشرعية، لينضم إلى مارثون الموت في المتوسط. ولا يزال عشرات اليمنيين مخفيين في السجون الليبية. وإذ تلخص مأساة الحاج النهايات المفجعة لمواطني بلدان الحروب، فإنها تفضح الخيار الذي تركه العالم للشعوب المنكوبة، إذ لا تختلف سردية حياة اليمني البسيط، في واقعها الجوهري أينما كانت وجهته، فلا حياة كريمة لليمنيين في وطنهم، أو في جغرافيات أخرى، فالعالم الذي لا يرى اليمن إلا وفق جيوب الأغنياء والمتسلطين المتدخلين في اليمن لا يهمه كثيراً تجريد اليمني من صفة الضحية، ومن ثم استحقاقه معاملة إنسانية، ولا يهمه أيضاً انعدام خيارات الحياة أمام اليمنيين، ولا الكلفة الإنسانية المُرعبة المترتبة على هذا البؤس.
*نقلا عن العربي الجديد