في الوقت الذي أنقطعت فيه معاشات حوالي 1.2 مليون موظف مسجل رسمياً في اليمن، لم يستلم أغلبهم رواتبهم الشهرية منذ أكثر من ثلاث سنوات، شهد اليمن ارتفاع جنوني في أسعار المشتقات النفطية والمواد الغذائية والأدوية والخدمات الأساسية، وكل شيء تقريباً تضاعفت أسعاره بنُسب تزيد عن المائة في المائة. يعزوا الخبراء الاقتصاديين هذا الارتفاع المبالغ في الأسعار، إلى العشوائية التي تحصل في قطاع الجمارك والضرائب، والتي يتم فيها تحصيل الأموال بطريقة أقل ما يمكن وصفها بأنها تشبه إلى حد كبير طُرق العصابات في جمع الأموال، كل طرف يفرض الضريبة التي تحلو له، ولا يعترف بجمارك وضرائب الطرف الآخر، حتى أن أغلب البضائع والمنتجات المستوردة يتم إلزام المستوردين لها بدفع ضريبة دخول وجمارك مرات عديدة من قبل أكثر من جهة، وفقاً لما ذكره الكثير من التجار ورجال الأعمال اليمنيين.
في ظل هذا الوضع المتأزم والواقع المرير الذي سيطر عليه أمراء الحرب، يتسأل الكثيرين عن الطريقة التي استطاعت بها الكثير من الأُسر اليمنية الصمود لأكثر من أربع سنوات، بدون دخل شهري منتظم يؤمن لها احتياجاتها الأساسية، أو لأكون أكثر دقة، احتياجاتها الضرورية التي تضمن لها البقاء على قيد الحياة، في ظل انقطاع شبه تام لرواتب الموظفين الحكوميين. ويتسأل آخرون عن الوسيلة التي استطاعت بها أطراف الحرب في اليمن تجنيد الكثير من اليمنيين، الأطفال منهم والشباب وحتى كبار السن، للقتال لصالحها في جبهات القتال المختلفة، والسبب الذي جعل الكثير من الأسر اليمنية توافق على إرسال أبنائها للقتال، بل حتى في بعض الأحيان، إجبارهم على ترك دراستهم والذهاب إلى المعارك.
لوهلة، يبدو أن لا رابط بين هذين السؤالين، لكن في حقيقة الأمر إجابة هذين السؤالين مرتبطة، إلى حد كبير، ببعضها البعض: استطاعت هذه الأُسر الصمود، إلى حد ما، بسبب أنها اضطرت لإرسال أبنائها للقتال في جبهات مشتعلة في شتى أنحاء البلاد وحتى خارجها، تحصد هذه الجبهات يومياً الآلاف من اليمنيين بين قتيل وجريح، وللأسف عدداً كبير منهم، هم من الأطفال، وهو ذاتُ السبب التي استطاعت من خلاله هذه الأطراف تجنيد الآلاف من اليمنيين، مُستغلة حاجتهم الملحة للقمة للعيش، حتى وصل الأمر بأحد القيادات المحسوبة على أحد أطراف الحرب الدائرة اليوم في اليمن أن يقول صراحةً، في مداخلة له على إحدى القنوات التلفزيونية، "أن الجائعين من الشعب اليمني ليسوا منهم، وأنهم لو كانوا يشاركون معهم في القتال في الجبهات ما كانوا أصبحوا جائعين"!
زادت في الآونة الأخيرة ظاهرة تشييد المقابر، بشكل ملحوظ جداً، فلا يكاد يخلوا حي أو قرية في اليمن من مقبرة تم إنشائها حديثاً في سنوات الحرب الأربع الأخيرة، حتى أن بعض القرى خصوصاً في محافظات وسط اليمن، كذمار مثلا،ً أصبح عدد القبور من ضحايا هذه الحرب مساوي لعدد الأحياء في هذه القرى التي فقدت أكثر من نصف شبابها في هذه المعارك التي لا تكاد تنتهي، والتي يتم في أغلبها التضحية بعشرات الشباب من أجل تحقيق نصر إعلامي وهمي، يتم فيه تصوير بعض اللقطات التي يريدون من خلالها إيهام العالم أنهم فعلاً حققوا انتصارات عسكرية كبيرة وإستراتيجية.
برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أصدر تقرير في أواخر شهر أبريل/نيسان 2019، ذكر فيه بأن حرب اليمن تسببت في تراجع التنمية البشرية في البلاد بمقدار عشرين عاما، وتسببت في مقتل ربع مليون شخص جراء العنف وغياب الرعاية الصحية وشح الغذاء. وتوقع التقرير أنه إذا انتهى الصراع عام 2019 فسيبلغ إجمالي الخسائر الاقتصادية حوالي 88.8 مليار دولار، وإذا انتهى عام 2022 فسيكون معدل التراجع في مكاسب التنمية قرابة 26 عاما، وأما إذا استمر الصراع حتى العام 2030 فسيعيش 71 بالمائة من السكان في فقر مدقع، بينما سيعاني 84 بالمائة منهم من سوء التغذية الحاد، وسيبلغ إجمالي الخسائر الاقتصادية نحو 657 مليار دولار. وخلص التقرير الأممي إلى أنه على المدى البعيد ستكون لهذا الصراع آثار سلبية واسعة النطاق، تجعله من بين أكثر النزاعات تدميرا منذ نهاية الحرب الباردة.
بالرغم من محاولات عدة، تقوم بها أطراف الحرب في اليمن، لجر الشباب إلى مستنقعها، مُستغلة الظروف الصعبة والأوضاع المأساوية التي يعيشها أغلبهم، إلا أن كل هذه المحاولات لم تستطع التغلب على الطموح والأمل الموجود في نفوس هؤلاء الشباب. فاطمة، طالبة يمنية أنهت السنة الماضية دراسة الثانوية بتفوق، حصلت على درجة 99.7 بالمائة، مكنتها هذه الدرجة العالية من الحصول على منحة دراسية لدراسة الطب في مصر، وهي بالمناسبة منحة لا تتناسب مع الإنجاز الكبير الذي حققته فاطمة، لكن مع ذالك رضيت بالأمر الواقع وبعد ظهور اسمها في كشف من تم قبولهم في برنامج منح التبادل الثقافي بين اليمن ومصر، ذهبت بالفعل إلى القاهرة محملة بأحلام المستقبل الذي رسمته في مُخيلتها بأن تصبح فيه طبيبة تُداوي جروحاً وأمراض أصيب بها الكثير ممن حولها، وفقدوا حياتهم بسببها، وتخفف معاناة أطفال ولدوا في ظل هذه الحرب ولم يعرفوا من هذه الحياة إلا المعاناة والألم. ذهبت مُحملة بكل ذالك، لتُفاجئ بأن اسمُها تم استبداله باسم آخر، وأنها لم تَعُد من ضمن أصحاب المنح لهذا العام!. تم بيع منحتها الدراسية من قبل السفارة اليمنية في مصر.
تخيلوا معي كمية الإحباط التي ستشعر به فاطمة، ومقدار الأم التي ستعانيه. فجأة انهارت كل أمالها، وتهاوى حُلمها بمستقبل تصبح فيه طبيبة، هذا الحُلم الذي ظل يداعب مخيلتها من ساعة سماعها خبر حصولها على المنحة، وعادت إلى مخيلتها مشاهد الحرب والقتل التي ظنت أنها تجاوزتها. لم تكن فاطمة الوحيدة، فبحسب وثيقة مسربة من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أكدت هذه الوثيقة أنه تم استبدال أسماء خمسة طلاب من أوائل الجمهورية الحاصلين على منح دراسية في مصر للعام 2019 بآخرين لم يكونوا من ضمن القائمة التي أرسلتها الوزارة، وأبدى وزير التعليم العالي والبحث العلمي، في هذه الوثيقة الموجهة للمستشار الثقافي في السفارة اليمنية في مصر، استغرابه عن استبدال هؤلاء الطلاب الخمسة بالرغم من تواجدهم في مصر منذ فترة لغرض تسجيلهم في الجامعات المصرية وفق المنح الدراسية التي أُعطيت لهم.
قصة فاطمة ليست هي الوحيدة ،فكلنا تابعنا بألم، قصة هلال الحاج، البطل اليمني الدولي في رياضة الكونغ فو، الذي حقق انتصارات كثيرة في عدة بطولات دولية، كان أبرزها بطولة غرب آسيا في طهران، عام 2015، التي حصل فيها على ميدالية ذهبية، والبطولة العربية في الجزائر، عام 2016، الذي حقق فيها أيضا ميدالية ذهبية، ودورة ألعاب التضامن الإسلامي في أذربيجان، عام 2017، التي حصل فيها على ميدالية برونزية، وكانت دورة الألعاب الآسيوية في إندونيسيا 2018، آخر بطولة شارك فيها. بسبب الإهمال المتعمد الذي لاقه هلال، من قبل الجهات المسئولة في اليمن، وبسبب الحرب والأوضاع المعيشية والاقتصادية الصعبة، وبعد أن فقد الأمل في تحقيق أي شيء يذكر في اليمن، قرر بعد أخر مشاركة له أن يذهب إلى أوروبا، عله يحقق فيها حلمه في أن يصبح بطل العالم في الكونغ فو، الذي لطالما تمنى تحقيقه.
توفي هلال في مياه الأطلسي، أثناء عبوره، بطريقة غير شرعية، نحو اسبانيا، في رحلة لجوء لم تكتمل!. لم يستطع هلال تحقيق حلمه بالفوز بالميدالية الذهبية لأفضل لاعب كونغ فو، التي كانت يتمنى أن يُهديها لبلده اليمن، ولم يستطع تحقق كلما تمناه، لكنه على الأقل لم يستسلم للأوضاع الصعبة وحقق بطولات عدة، كثيرين غيره لم يستطيعوا تحقيقها، وهم يعيشون في وضع أحسن منه بكثير، والأهم من هذا كُله، أنه ظل محافظ على حُلمه، ومات وهو في طريقه إلى تحقيقه. هذه باختصار، حكاية جيل بأكمله من الشباب اليمني، الذين حاولوا بِشق الأنفُس أن يشقوا لهم طريق آخر، بعيداً عن الحرب والموت، لتصطدم محاولاتهم هذه بجدار الفساد وتُجار الحروب الذين حولوا أحلامهم إلى كوابيس دامية، واغتالوا طموح وإرادة شباب موهوبين، نَجوا بأعجوبة شديدة من هذه الحرب ومُخلفاتها، لتصطادهم مخالب الفساد، وتُجهز على ما لم تستطع الحرب الإجهاز عليه. ليبقى السؤال المطروح دائماً، متى يتوقف هذا الفساد الصارخ الذي يحصل في أروقة الحكومة الشرعية وسفارتها المتعددة، ومتى ينتهي هذا العبث، الذي أجبر الشباب اليمني على الذهاب إلى الموت، إما في المعارك قتلً أو على شواطئ أوروبا غَرَقاً. وقبل هذا وذالك، متى تنتهي هذه الحرب التي كانت السبب الرئيسي في كل ما حدث.
* نقلا عن الجزيرة نت