اكتست صنعاء بالأخضر، يريد الحوثيون التأكيد مجدداً على الحقيقة الجديدة للمدينة: صنعاء مدينة هاشمية. تشكل هذه الواقعية الخضراء جزءاً من صورة أكبر، وأكثر مهابة. عندما تصارعت القوى السياسية في العاصمة اليمنية جاء الحوثي من خارج ذلك الحقل ووضع حداً لخيالاتها المحدودة، ثم طلى كل شيء، بما في ذلك الأحزاب والدستور، بالأخضر. سرعان ما انتقلت اليمن من حقبة السلام الدستوري إلى حقبة جديدة من السلام، يمكن أن نطلق عليها "باكس إيرانا". وقعت الجزيرة العربية برمتها في تلك الحقبة، في قبضة معادلاتها الحاسمة.
قبل وقت ليس بالبعيد اعترف مسؤولون سعوديون أمام نظرائهم اليمنيين بخطأ حساباتهم. قالوا، كما بلغني من مصادر عليمة، إن نظام الملك الراحل عبد الله استجاب لفكرة طرحتها الإمارات تذهب إلى القول إنه من الأفضل ترك الحوثيين يتجهون إلى صنعاء، وهناك يتورطون في صراعات مميتة مع حزب الإصلاح، عن أن يبقوا بالقرب من الحدود السعودية ويهددوا تلك الخاصرة الرخوة. استسلمت السعودية لذلك الإغراء، ومعها استجابت الإمارات لدوافعها الانتقامية، ثم تورطت الدولتان في حرب قذرة لن تفلتا منها في القريب. فلم تكن الدولتان هما المربيتين الوحيدتين لذلك البهيموث. ثم كان أن اختار البهيموث أن يمنح نفسه لمن يتحكم في "السوفت وير" الخاص به، لا لمن زوده بالآلات.
ها هي الإمارات تسحب معداتها الصلبة من جنوب اليمن تاركة خلفها تشكيلات متواصلة من المتعاقدين المحليين. الخروج من "الذنب" لا يحدث بتلك الطريقة. نحن أمام مشهد خراب واسع لا يمكن نسيانه بمجرد مشاهدة سرب من الدبابات ذاهبة إلى الميناء. لا هكذا يكون النصر ولا تلك صورة كلاسيكية للهزيمة. تدرك الإمارات أكثر من غيرها أنها خسرت معاركها العسكرية والسياسية في كل الشرق الأدنى، باستثناء نصر محدود في مصر التي سيطر عليها "الضباط الأحرار" مجدداً وأخضعوها لحساباتهم الداخلية المستقلة عن ترتيبات جزيرة العرب.
قبل أيام قال قائد الحرس الثوري الإيراني إن أميركا لم تعد القوة الأولى في العالم، وهذا يبدو صحيحاً بدرجة ما. فالقوة بحسبانها القدرة على تنفيذ غزو ناجح أصبحت أسيرة لفكرة المقاومة بوصفها عملية صبورة تكسب ببطء. إن تدمير الجيوش الوطنية وسحقها عسكرياً لم يعد مرادفاً لتحوّل البلد إلى مُستعمَرة. كانت التجربة الأميركية في العراق مثالاً حيوياً على تبدل مفهومي القوة والقدرة، وهو درس كبير لم تستخلص منه الإمارات شيئاً. يدرك الإيرانيون هذه المعادلات جيداً. تمارس إيران استعماراً "بارادونيّاً" من خلال تحويل المواطن المحلي إلى مستعمر لبلده، ولا يكلفها ذلك الاستثمار الشيء الكثير. تتمكن، بعد تأنّ، من الحصول على الفئة التي أطلق عليها الشاعر اليمني البردوني صفة "المستعمر السرّي". تعيد هندسة خيال وملامح تلك الفئة وترفعها إلى مصاف المُستعمِر، وتزودها بلغة تكفي للحديث عن الاستقلال والوطن الحر. نجحت حروب إيران بميزانية "خيط جزمة"، وفشلت حروب السعودية المدعومة بأرامكو، أغلى شركة على مر التاريخ.
تبدو المعركة الإيرانية في اليمن أكثر إثارة، فقد حصلت على بلد كبير يطل على البحار، وتشرف جباله على مركز الأراضي السنية في العالم. يتوغل الفقر في ذلك البلد، وتجد إيران في فقراء البلد نسيجاً جيداً لصناعة مستعمر سري. إن الفقراء هم، على مر التاريخ، أفضل ما حصل عليه نظام الحاكم الإمامي. لاحظت شيلاغ وير في كتابها "النظام القبلي، السياسة والقانون في جبال اليمن، 2007" كيف كان الإمام الحاكم يحول الفقراء إلى جيش رخيص يستخدمه في إخضاع الأغنياء الذين يتلكأون في تقديم المال والطاعة. أبدا سعيد قاسم، القائد في الحرس الثوري الإيراني، إعجابه بما يقوم به "شيعة الشوارع" في اليمن، وكيف تمكن أولئك الذين لا يملكون وسامة رجال حزب الله من تحقيق نصر في أصعب المعارك وسيطروا على المضيق. حصلت إيران من أفقر بلدان العالم الثالث، البلد الذي حصل مؤخراً على الترتيب قبل الأخير في مقاييس الرفاه، على جيش من شيعة الشوارع، وحولتهم إلى مستعمر محلّي. لقاء حصول بارونات ذلك الجيش الرخيص على شحنات نفطية مجانية واصلوا خوض المعارك غير آبهين بالخسارة البشرية.
يمكن النظر إلى شمال اليمن بوصفه سجناً كبيراً. يحكم الحوثيون سيطرتهم على ذلك السجن، ويخوضون حروبهم بالسجناء. ثمة سجناء طوعيون، وهم يخوضون الحروب بحماس منقطع النظير كما لو كانوا بالفعل شيعة شوارع مخلصين. بالنسبة للحوثيين فإن السجين الطوعي والسجين القهري سيّان، على كليهما أن يخوضا الحرب حتى النهاية ليبقى الملك. الاعترافات التي يدلي بها الأسرى الحوثيون مذهلة، فهم يسوقون على نحو متشابه ومستقل الاعتراف نفسه: طلبوا منا اقتحام تلك المنقطة بعد أن أكدوا لنا أنه ما من أحد هناك. إن شيعة الشوارع رخيصون، وهم مقاتلون جيدون بالنسبة لملك لا يهمه أن يبقى الكثير منهم عند ختام المعارك.
توصلت الإمارات، ربما، إلى هذا الاستنتاج بعد تجربة مُرّة. فهي تتحدث عن تسعين ألف مقاتل في أراضي الجنوب يأتمرون بأمرها، ويعملون كمستعمر محلي. تريد الإمارات البحرَ من جنوب اليمن، وهذا ليس اكتشافاً جديداً. بمقدورها الحصول على البحر من خلال صناعة نسخة سنية من شيعة الشوارع، وهذا ما لم تتنبه له إلا مؤخراً. فبعد أن دفعت شيعة الشوارع خاصتها إلى ترديد شعارات وأناشيد الانفصال عن البلد الأم، ها هي تكتشف حركة جديدة على رقعة اللعب. طبقاً لهذه الحركة الملائمة فعلى نسختها من شيعة الشوارع أن تكف عن ترديد شعارات الانفصال وأن تتظاهر باحترامها للبلد الأم. يستجيب شيعة الشوارع الجنوبية لتكتيكات المستعمر الخارجي، ويذهبون في تلك التكتيكات إلى حدودها الفنتازية الأبعد. بل ينتقلون، بين يوم وليلة، من الحديث عن الحرب دفاعاً عن الانفصال إلى القتال دفاعاً عن الدولة الواحدة.
البردّوني الذي حدثنا في سبعينات القرن الماضي عن المستعمر السري، كان قد قال لنا في لحظة كرب "ما أرخص الإنسان في بلدي". ولعقود من الزمن اعتقدنا أن اليمني الرخيص هو اليمني المظلوم، إلى أن كشفت لنا الحرب شيئاً آخر. فاليمني الرخيص هو اليمني الظالم، المستعمر السري، شيعي الشوارع. وهو الذي لن يتذكره مهندسوه في خاتمة المعارك، وسيبقى رخيصاً على مر الأيام ..
* نقلا عن عربي بوست