فيصل علي

فيصل علي

إعلامي وأكاديمي يمني.

كل الكتابات
بين اغتيال الرمز واغتيال الرمزية
الثلاثاء, 10 ديسمبر, 2019 - 05:33 مساءً

عندما قام جيلنا الحالي بمحاولة انقاذ الدولة الفاشلة من السقوط في2011، لم نكن نعلم أن هذا الفشل لم يكن متفشياً في السلطة الحاكمة وحدها، بل كان قد تغلغل في المعارضة ذات الشعارات الكبيرة؛ أممية وعالمية وحداثة ومدنية ويمين ويسار الخ، لم ندرك أيضا أن العصبويات بأنواعها العرقية والطائفية والقروية والجهوية قد توالدت وتكاثرت من حولنا في كل أرجاء البلاد.
 
اتهمنا "الهضبة" بكل ما لدينا من تُهم جاهزة، وفي الأخير وجدنا المدن التي نُعول عليها قد طفحت بنفس تلك التُهم مع قلة الخبرة وقلة "الإلف" ، القرويات عشعشت في مراكز التنوير التي عولنا عليها وصار لا فرق بينها وبين مدن البدو ومدن الجبال والقبيلة، لا فرق بين (كريتر) وبين (خارف) ولا بين (همدان )و (الحجرية ) ولا بين (تريم) و(حرف سفيان).

غزت القروية مدن (تعز )و(حضرموت )و(عدن )وهي المدن التي عولنا على وعيها الكبير، ولم تسلم حتى (زبيد) نافذة الثقافة اليمنية على العالم، وكل هذا يعود إلى سقوط الدولة الذي حاولنا تداركه دون جدوى حتى الأن، صار واضحاً أنه من المحال استعادة الدولة بأدوات الشرعية الحالية أو بأي دعوة عصبية، وما الحوثي والانتقالي ومن سار على دربهما إلا سوءة وعورة كبرت في أوساطنا وتلبست بكل ما لدينا من مخلفات اجتماعية وطائفية وعرقية وقروية ومناطقية، بمعنى أنه لا داعي للاستغراب من وجود هذه الكيانات المشوهة فهي بنت هذا الواقع النحس، مع إضافات وتعديلات خاصة باجندة الممول ودافع ايجار البيادق وبحسب الموروث العنصري الخاص بها.
 
يقول ابن خلدون "الخوف يُحي النزعات القبلية والمناطقية والطائفية، والأمن والعدل يلغيها" بكل بساطة هذا البلد بحاجة إلى دولة الشعب بكل مكوناته، لا دولة الاستبداد صانع الفشل، ولا دولة العرق والسلالة، ولا دولة القبيلة والطائفة، نظرياً الكل يقول بهذا الرأي، لكن عملياً الجوع والخوف والجشع ومحاولات السيطرة يدفع نحو المزيد من الانهيارات على مستوى ما تبقى من مؤسسات وعلى مستوى النسيج الاجتماعي المتجانس.
 
ولذلك لابد من الدولة القادرة على فرض الاستقرار بالقوة العادلة، فلا استقرار يولد من العدم ولا من مجرد الأمنيات، وهذه القوة اليوم هي القوات المسلحة اليمنية بقيادة الرئيس هادي (الجيش الوطني)، مهما كان في هذه المؤسسة من عوامل الضعف فهي وحدها القادرة على انتشال البلد من الهوة التي وقعت فيها، مهما انتقدنا هادي وأداء حكومته ومؤسساتها إلا أن الأمل معقود على مؤسسة الجيش ... جيش اليمن كلها.
 
قال المقدشي وزير الدفاع أن هناك خلل وأن هناك كشوفات وهمية، وقال غيره أكثر من ذلك، وما قالوه يدعو إلى عملية تصحيح حقيقة في صفوف الجيش بإخراج الكشوفات الوهمية وفصل الجنود المغتربين في الجوار أو المتغيبين عن الميدان.
 
إن جنودنا المرابطين في (نهم) و(صرواح) و(تعز) و(حضرموت) و(شبوة) بدون مرتبات وبلا أدنى حقوق ومع ذلك مازالوا مستمرين ولم يخلوا مواقعهم، هم وحدهم القادرون على إنهاء هذه الحالة المزرية وإيقاف النزيف اليمني اليمني وإيقاف هذا الهدر وهذه التنظيرات الفارغة التي ملأت حياتنا بالضجيج.
 
كما أن العصبيات بكل أنواعها ستتوقف بقوة الجيش، ولن تتوقف بالديمقراطية ولا بالنقد عن بُعد ولا بتنظيرات الكهول، وهذا ما سيقود إلى الاستقرار والاستقرار سيؤدي إلى التنمية والتنمية ستؤدي إلى الرخاء، لتأتي الديمقراطية لاحقاً لتكملة كل نقص وإصلاح كل نظام، فهي لا تأتي قبل ذلك.
 
يقول ابن خلدون: "إن عوامل الرخاء والازدهار والأمن تساهم في الحدّ من العصبية، بينما الحروب والخوف والفقر (البطالة) تعزّزها" لذا لابد من إيقاف الحروب بإنهاء جذورها ومسبباتها بردع العصبويات التي اشعلتها، ونزع السلاح الخفيف والثقيل من أيدي المليشيات، واحتكار القوة بيد الجيش الوطني بقيادة الرئيس الشرعي.
 
ما سبق قد يكون أمنيات، لكنها إن نُفذت ستحقق هدف استعادة وبناء الدولة وهو هدف عام لكل أبناء هذا الشعب، ولذا المعركة بحاجة إلى المزيد من الوعي، وهنا يأتي دور المثقف القادر على تمييز الخيط الأبيض من الأسود ومعرفة ما يريده الشعب لا بعض فئاته، ونحن هنا نتحدث عن "المثقف اليمني" وهو الذي تشبع بالفكرة اليمنية وبضرورة وجود الدولة اليمنية الضامنة لحقوق كل مواطنيها، والذي لم تستطع رياح الأيدولوجيا ولا مال السلطة أو إغراء الخارج عن ثنيه عن حق الشعب اليمني في استعادة وبناء دولته على أرضه، وهذا المثقف الواعي لدوره هو المكمل لعمل الجيش الوطني، وعليه إتمام بناء الأسس النظرية التي تعيد الدولة للشعب اليمني لا للطوائف والمهرجين والقرويين والجهويين.
 
على كل من نذروا أنفسهم للوعي أن يخرجوا للناس في الأزمات المتلاحقة التي تعصف بالمجتمع، فهذه البلاد بحاجة إلى المثقفين الذين يعيدون المجتمع إلى توازنه خاصةً عند هبوب رياح الفتنة، عليهم أن يقفوا سداً منيعاً ضد أي انسلاخات مجتمعية، فهم - لما يتمتعون به من قوة الرفض لوجود عصبويات في الدولة وداخل بنى المجتمع - صاروا وحدهم القادرين على خلق اليمن الحضاري من تحت كل هذا الركام الذي صنعته السياسات الفاشلة والحروب والصراعات على السلطة بلا قواعد تحترم الشعب وحقه في الاستقرار والتنمية والرخاء.
 
استشهاد القائد الحمادي صنع ضجيجاً مدوياً سقطت فيه نُخب حداثية وثورية وأحزاب وأفكار براقة، ليس بسبب هشاشة ما تحمله تلك النُخب من أفكار، لكن من استعدادها للانصياع خلف العصبويات القروية والمناطقية واستجرار الأيديولوجية واستدعائها من العدم، لم يتم التعامل مع الشهيد أنه أحد رموز الجيش الوطني ورموز استعادة الدولة، كانت تلك النخب قد أنزلقت في العداء للجيش الوطني منذ نشأته، وكان لها موقفاً سلبياً من المقاومة للانقلاب في صنعاء ورحبت بانقلاب عدن ومهدت الطريق للحوثي عبر الاعلام والنقاشات العامة حتى وصل إلى (المسراخ) و(الدمنة ) في ( تعز).
 
سخرت من بعض الحوثيين وهم يدبجون الجمل في تقمص دور الحزن لاستشهاد القائد الحمادي، ومثلهم فعل المتحوثين في تعز أولئك الذين سهلوا للحوثي دخول قُراهم ومناطقهم، كما أن القرويين الذين مازالوا ينعتون تعز ب "تعيييز" سارعوا إلى الضجيج - على غير العادة - وهذا كله يدعو للشك لا الاستغراب فحسب، علينا انتظار التحقيقات لتكشف لنا حقيقة هذه الشكوك التي تزايدت بفعل التهم المعلبة والجاهزة، والتي لم تختلف عن سابقتها من التهم التي خرجت بعد محاولة اغتيال الحمادي في يناير 2017. لابد من تحقيقات عادلة وشفافة، ولا بأس أن ينظر المحققون فيما نشرته وسائل الاعلام المحرضة على الكراهية وما نشرته صفحات التواصل الاجتماعي لكبار الشخصيات الذين نشروا قضية الاستشهاد قبل وزارة الدفاع، وكذلك فيمن بثوا التهم قبل أن تتشكل لجنة التحقيق، وكلها قرائن قد تقود للفاعل، العقلاء صدمهم الخبر بينما البعض نشروا الاتهامات وسارعوا إلى تحشيد العامة ضد الشرعية وضد تعز وضد المجتمع وضد الجيش الوطني الذي استشهد أحد قادته الكبار.
 
إن اغتيال الرموز الوطنية شيء وارد، وقد لا نستطيع منعه، لكن أن يتم اغتيال رمزية الرمز وتحويله من رمز إلى منصة للنواح وتوزيع التهم والحقد والكراهية لهو فعل شنيع ويدل على سفاهة، علينا أن لا نسمح بذلك اجلالاً للتضحيات التي قدمها في حياته ووقوفه مع المقاومة وقيادتها في بداية انطلاقتها الثانية في تعز في 2015 إمتداداً لانطلاقتها الأولى التي كانت في 2011 عندما تداعى الشباب لحماية الساحة والمدينة وهذا تاريخ لا يمكن تجاوزه وكلنا شهود عليه.
 
استشهاد القادة والرموز يجب أن يُحيي روح الأمة ويوقظها من سباتها لا أن يخلق معارك وهمية وتهم مؤدلجة ويبث القروية والفرقة والعصبية، فهذا حرق للرمز وانهاك للقضية اليمنية التي اعتنقها الرمز.
 
كما أن التكسب السياسي من الاغتيالات لم يعد مقبولاً ولا معقولاً في زمن العولمة والاعلام الاجتماعي، فزمن السرية والكذب المؤدلج قد ولى وبات الناس أكثر وعياً من بعض النُخب الهزيلة، لم يعد أحد يصدق تلك الدموع التي يذرفها أعداء الجيش الوطني عند استشهاد أحد قادته.
 
محاولات تغييب العقل اليمني ستبوء بالفشل لا محالة، وما هذه إلا محاولات لبث روح الصراع في المجتمع، صحيح أن الهجمة قوية لكن لغة العقل مازالت مسيطرة، والتضليل لم يعد ممكناً، وغداً سيسخر الناس من كل محاولات التزييف لسبب بسيط و هو انعدام وجود أدلة مادية أو حجج منطقية عند مثيري العصبية، كما أن محاولات تحشيد الجماهير لقضايا ملفقة ستنقلب عليهم، فالجماهير ليست غبية ولا يمكن أن تصدق هراء الغوغائية طوال الوقت، إنها تتعاطف لكن العاطفة لا تستمر في ظل غياب الأدلة .
 
دعونا إلى جانب المثقف اليمني الذي أشرنا إليه سابقاً نستدعي "المثقف العضوي" الذي يُفترض وجوده ضمن تشكيلات الأحزاب السياسية، والمثقف العضوي مصطلح للمفكر الشيوعي "أنطونيو جرامشي" والذي يقول عنه: " كل جماعة اجتماعية يظهر لها وجود على الأرض الأصلية لوظيفة أساسية في عالم الانتاج الاقتصادي، تخلق بنفسها عضويًا، طبقة أو أكثر من المثقفين يمنحونها تجانسًا ووعيًا بوظيفتها الخاصة ليس فقط في المجال الاقتصادي، ولكن أيضًا في المجال السياسي" بمعنى أن الأحزاب السياسية لديها مثقفيها القادرين على شرح وجهات نظرها للناس، إذا يتحتم على هذه الأحزاب أن تُخرج مثقفيها - في وقت الشدائد للناس ليشرحوا مواقفها المنسجمة مع المواطنة - وتفرض على مهرجيها الصمت، إذا كانت مازالت تطمح بدور لها في المستقبل، أما إذا كانت قد وصلت إلى نهاية الطريق فلتواصل السقوط.

* نقلا عن صفحة الكاتب من الفيسبوك
 

التعليقات