أرستوقراطيّة قريش
الأحد, 22 ديسمبر, 2019 - 03:17 مساءً

لم نكن نهتم بالحديث عن قريش، ولا عن بني هاشم ناهيك عن سبأ أو حِمير، أو التُّبَع حتى ارتفع صوت الإمامة من جديد في اليمن، وطرقت مسامعنا عبارات: هذا قنديلٌ، وهذا زنبيل، وهذا هاشمي، وهذا يمني، وهذا سيّد، وهذا مُزيّن.
 
 عاش النبي محمد (?) مجاهداً في سبيل اجتثاث الجاهلية من جذورها، ومن خطاباته لقريش : "يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتَعظُّمها بالآباء ، كلكم لآدم وآدم من تراب" " البخاري".
 
ولكن أمر الجاهلية عاد مجدداً بأيدي من يَدعي الانتساب إليه من عشيرته، وقومه .
 
الأرستقراطيَّة : نظام سياسيّ طبقيّ استبداديّ ، يتولى فيه الحكم طبقة من النبلاء أو الأشراف دون عامّة الشعب. "معجم المعاني" .
 
أليس غريباً أن تبني قريش أفضليتها على أساس صلتها بالنبي محمد (?) الذي لم تدخر جهداً إلا بذلته للصد عن دعوته، وإنهاء حياته .
 
لأنها جاورت الكعبة وقامت بشؤون الرفادة، والسقاية للحجيج ، وخِدمة البيت الحرام الذي تقدسه العرب، فقد نالت قريش مكانة رفيعة بين القبائل، وعاشت في أمن وسَعَة، فالله قد "أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"[سورة قريش]  وبسبب تلك المكانة فقد ظلّت قريش في منأى عن الحروب، وتجارتها مصانة لا تُمس :
 
"أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ? أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (العنكبوت:67
بسبب العاطفة الدينية لدى العرب فقد ارتفع شأن قريش، وكثر مالها وازدهرت تجارتها، ونشأت تدريجياً أرستقراطية قرشية.
 
عندما أعلن النبي محمد (?) عن مبادئه التي يدعو إليها، وفي مقدمتها إلغاء الطبقية، ونبذ الوثنية، والدعوة إلى المساواة والحرية، وقيم العدالة الاجتماعية خشيت قريش من زوال (أرستقراطيتها) ومكانتها المصطنعة المتكئة على العاطفة الدينية الوثنية.
 
لم يكن لدى قريش إلا أن تحارب من أجل حفظ (أرستقراطيتها ) حتى آخر نَفَس، وبالفعل فقد أعلنت الحرب على الدين الجديد وبلا هوادة. لقد عذبت الضعفاء، وضيّقت على أرزاق المؤمنين، ولم ترقب في مؤمن إلّاً ولا ذِمة، وقررت قتل النبي محمد (?)، وحاصرت منزله.
 
 أشعلت قريش نار الحرب ضد دولة الإسلام الوليدة في المدينة، ورفعت لواءها، وتوَلّت بكبريائها كِبْرَها، فكبريات المعارك، كبدر وأُحُد، والأحزاب كانت قريش هي حاملة رايتها، ورأس حربتها، وفي كتاب البداية والنهاية لابن كثير ما يغني عن الكثير .
 
يقول صديقي : أليس الرسول من قريش، وكذلك الأربعة الخلفاء الراشدون؟! فلماذا كل هذا التحامُل ضدها ؟!
 
إنها إحدى المغالطات التاريخية، والخدع التي لا تنطلي إلا على السُّذّج من الناس!
 
يا صديقي"الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس" "الحج": 75 هكذا يقول الله ، واصطفاء شخص لا يعني اصطفاء عشيرته أو قومه أيضاً، ولو عدنا بالذاكرة إلى مصير بعض أقوام الأنبياء لاتضح لنا الأمر بجلاء. لقد كانت نهايتهم مؤلمة؟
 
لم يكن ادعاء قريش للأفضلية بدعاً، فقد سبقهم إلى ذلك قومٌ، فقالوا:" نحنُ أبناءُ اللهِ وأحباؤُهُ" ، فكان رد الله الحاسم عليهم : "بلْ أنتم بَشرٌ مِمّنْ خَلَق المائدة:18 .
 
اللافت للانتباه أن أولئكم القوم -أدعياء العرق السامي- ينتسبون إلى أنبباء كُثُر، وليس إلى نبيٍ واحد- كما هو الحال عندنا- ولقد صرّح القرآن بأفضلية بني إسرائيل على العالمين في فترة من فترات التاريخ. نعم لقد كانت أفضلية الإيمان والتقوى على الكفر الهائج المائج حينها، وليس كما فهموه  ما أشبهَ اللاحق بالسابق ؟!
 
في إطار مجتمع الإسلام ذابت كل العِرقيات والقوميات، ونشأت معايير جديدة للتقديم أو الأفضلية، وعلى رأس تلك المعايير معيار ( التقوى)؛ ولذلك فقد عَلا شأن بلال الحبشي، وعمار بن ياسر اليمني، وسلمان الفارسي تماماً-تماماً- كأبي بكر القرشي، وسعد بن معاذ الأوسي وسعد بن عبادة الخزرجي، وهؤلاء وغيرهم من صالحي المؤمنين لم يطلبوا لأنفسهم ،ناهيك عن طلبهم لأبنائهم، واحفادهم شيئاً من دنيا الناس .
 
 كان لمجموعة من أبناء قريش تقديرهم ومكانتهم عند المسلمين، كطليعة لدين الإسلام قطعت صلتها -تماماّ- بعهد قريش( القبيلة)، بل دخلت معها في صراع دامٍ  .
 
لقد قَدّم المسلمون الأوائل أبا بكر، وعمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم) ؛ لبلائهم في الإسلام ، ولو كان الأمر لقريش (القبيلة) من بعد النبي (?) لكان أبا سفيان أو صفوان بن أمية أوْلى منهم بالخلافة، ولأصبح بذلك الأمر مُلكاّ لا نبوة، ولكن "الأَمْر - كما جاء في الأثر- للهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ" "السيرة النبوية لابن هشام".
لا علاقة -البَتَّة- بين قريش(القبيلة) وبين رجالات من قريش أو بني هاشم انصهروا في نظامٍ جديدٍ لا يعترف بحدود جغرافية، ولا يبني نظامه على أساس الأفضلية النَّسَبِيّة. نظامٌ حدوده الجهات الأربع من الأرض، ورعاياه كل بني آدم.
 
رحم الله عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حين قال: لو كان سالماً مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته. الطبري.
 
رحمك الله يا عمر، فسالِم لم يكن قرشياً، بل لم يكن له نسب في العرب، ما أعمق فهمك، وما أبعد نظرك يا ابن الخطاب؟!
 
مُسميات (الصحابة، وآل البيت) قد انتهت بموت آخرهم -تماماً- كما انتهى الحواريون، وأهل الكهف وسائر المُسميات، فلا داعي للعيش في الماضي، وحُكم الأحياء باسم الأموات!
 
انهزمت قريش في معركتها مع الإسلام، ولكنها عادت من جديد لتدعي أفضليتَها على بني الإنسان، وبالتالي أحقيتها في الحكم الذي ورثته عن عدوها اللدود محمد (?) الذي حاولوا قتله، ووَأْد دعوته، واتهموه بأنه كذاب أشِر، ومجنونٌ، وساحر!
 
قد يقول قائل : بنو هاشم لم يُسْلِموا النبي محمد (?) لقريش، وحوصروا معه بسبب موقفهم في شِعْب أبي طالب. هذا الكلام صحيح، ولكن السؤال : هل كانت تقاليد العرب تسمح بتفريط القبيلة بأحد أبنائها؟!!!
 
إن مجرد التفكير في ذلك يُعد سُبّة تلاحق صاحبها إلى قبره. كيف ستقول العرب؟! بنو هاشم فرّطت بمحمد ، وأسلمته للقتل ؟!!
 
 إن المعضلة الكبرى - من وجهة نظري- هي في القوم الذين ينيخون لهذه الفئة، ويعتقدون أفضليتهم وتميزهم، وإنني أرى بأن طائفة من الوُعّاظ والفقهاء قد أسهموا، ولا يزالون، في إخضاع رقاب الناس لقريش باسم الدين، والدين من عنصرية قريش ومن أولئكم الوُعّاظ بَراء!!!!
 
لماذا يتحسس البعض من الدعوة إلى المساواة بين البشر؟! ولماذا يُصِر البعض على إبراز نسبه المتصل بقريش أو بني هاشم -بحسب زعمه - إن كان يؤمن بعدم أفضلية أحد على أحد إلا بالتقوى؟
 
 ما الضرر الذي سيقع على هذه الأسر المدعية انتسابها - صدقاً أو زوراً- لقريش أو بني هاشم من مبدأ المساواة الذي يعيش الناس- كل الناس - في ظله في أمن وسلام ؟!
 
ألا يجدر بأحفاد قريش- إن صدق انتماؤهم - أن يسيروا على خُطى النبي محمد (?) وأن يحاربوا كل أشكال التمييز والعنصرية التي حاربها؟! أم إنهم مُصِرّون على محاربته ميتاً كما حاربه سلفهم حياً، وان يسيروا على خُطى أبي جهل وأبي لهب، وكذلك يفعلون؟!
 
أيُّ الفريقين أهدى ؟ الذي يدعو إلى أن يكون الجميع سواء، ولا يتمايزون إلا بالعمل والتقوى؟
 
أم الذي يدَّعي أفضليته بنسبه، ويطلب أن يخضع الناس له بسبب ذلك النسب ؟
 
 تتحطم على صخرة المجتمع الواعي كل مشاريع الطائفية والعنصرية السلالية؛ ولذلك فلا بد أن تتجه الأقلام، وبرامج الإعلام، ومنابر الدعوة إلى ترسيخ معاني المساواة، ونبذ كل عنصري أو سلالي أو مناطقي يصعد على أكتاف البسطاء أولاً، ثم يسومهم سوء العذاب لاحقاً .
 

التعليقات