"شعوب يمنية ولم يعد شعب واحد ، وسلسلة جيوش .. والجمهورية عرضه للزوال كأي حدث تأريخي "
هي عبارة ضمن حديث للاخ مروان الغفوري في سياق رد على ما قاله في بث سابق لقى صدى واغلبه منتقد بدون مسوغات واضحة ومقنعة .
لفت نظري هذه العبارة التي قد تكون نفسها ايضاً عرضة للإنتقاد والجدل العقيم من كحديث سابق له .
والتي لقت صدى ومرواحه تزيد من متاهة المتلقي وتشتت افكارهم ، والكثير انتقد فقط لمجرد الانتقاد ، مع ان حديث الغفوري وغيره قابل للنقاش وبداهة يتوقع الصواب والخطاء .
تعقيبي لمن ينتقد اطروحاته ورؤيته بعاطفة مبالغ فيها ووطنية زائفة تعكس حالة الزيف الذي نتعايش معه والنفاق الذي غدى نمطاً في تفاصيل حياتنا اليومية.
بداهة حديثه وأي شخص آخر عرضة لتبادل الرأي حولها وليس معصوماً ولكلا قناعاته ورؤيته ليست مفروضة للاخرين .
ومع ذلك فأن تناول مضمون تلك الرؤية جديره بالتأمل عند شعب يقدس جلاده ويحن لماضي اسود مثل حاضرة لطالما كتبت بأن الشعب اليمني وكثير من الشعوب العربية ولاسيما تلك التي عصفت بها رياح محاولات التغيير فيما عرف بالربيع العربي .
لقد حركت المياه الراكده وعمقت جروحا لا تندمل بعد تفكك النسيج الاجتماعي بصورة مؤسفة ومتزايدة في اليمن وسواها .
اكثر من نصف قرن واليمنيون يزحفون في الرمال المتحركة بحثا عن دولة مدنية يتساوون فيها في الحقوق والواجبات ، وغدت وكأنها حلما بعيد المنال .
كثير منا لا يفرق بين القيم الوطنية وبين الواقع المعاش عندما ينادى البعض بالجمهورية الثانية وكأننا عشنا الجمهورية الأولى !
وعندما تطرح فكرة الفدرالية في خضم حرب لا افق لها وكانت يفترض تأجيل تلك الفكرة حتى لا تكون ذريعة للمتربصين بالدولة برمتها .
ورغم ذلك تضل الفدرالية مقترح واقعي طالما قد تفكك اليمن عملياً .. فقد كنا خلال ثلاثة عقود نعيش وهما اسمه الوحدة ، ووهم آخر اسمة الديموقراطية ، وقبلها وهم اساس سمى بالجمهورية .
والعبرة ليست في شكل النظام او الدولة ، ولا في هذه المسميمات بل مدى تناغمها مع واقعنا وتعايشنا مع جوهر ومضامينها .
فكم من دول فدالية متناغمة واندماجية غير مستقرة والعكس صحيح ، وكم من جمهوريات فاضلة كمجهورية افلاطون وكم من ملكيات نموذجية .. رغم هذا لا ندعي للمكية ولا ندعي لجمهورية العسكر والمشائخ ورجال الدين .
ندعو لدولة مدنية بأي مسمى وتحت أي عنوان فالغاية والمنهى هي دولة توافقية بعقد اجتماعي تفرزه نُخب واعية دون الإعتبار لرأى عام فاسد مضلل وغوغائي .
وإذا كانت رؤية الكاتب الفرنسي الذائع الصيت مونتسكيو في مؤلفه الشهير (روح القوانين) تتمحور في مدى انعكاس روح القوانين في المجتمع وليس النصوص والقواعد القانونية الجامدة. وهي نفس رمزية الصراع في اليمن غداة سقوط صنعاء في 21 سبتمبر قبل اكثر من عامين وتداعيات تلك التطورات التي افرزت هذه الحرب التي كانت نتاج تناقضات الداخل اليمني على مدى عقود مضت . فالجدل اليوم حول الشرعية التي كلُ يفسرها ويقتنع بها كما يحلو له بعيداً عن مضمون وروح مفردة " الشرعية" التي غدت كقميص عثمان ، فكلا يغني على ليلاه وليلى لا تقر لهم وصالاً.
الإشكال ان كثير من اليمنيين عبر وسائل التواصل الاجتماعي قد جعلوا منها منبراً مضللاً استمرار لإعلام ديماغوجي دأب النظام السابق على تسويقه لسواد الناس ، وزاد الأمر تعقيداً يوميات الحرب التي غدت بلا افق.
الإشكال الجوهري في التفكير الجمعي العربي أن المواطن العربي غدا يفكر بعقلية حاكمه ، ولا يتبين للبعض مدى حجم الفساد والظلم إلا بعد رحيله !
فقد ينظرون لحياتهم وفق رؤية النخب الحاكمة التي يحلو لها الترويج لمثل تلك الثقافات.
اصبحنا نعيش واقعاً مغايرا لما كنا نحلم به وعلى هامش تفاصيل يوميات الحرب غدا اليمني يعيش قيم إفتراضية ليس إلا!
اليمن يتلاشى ويتهاوى أمام اعيننا ، وكرة الثلج تكبر يوما بعد يوم ، وايام اليمنيين بألف يوم معاناة مركبة ومستمرة تتعقد الامور بصورة تبعث باليأس والقنوط فلا افق للحل ولا أمل مرتجى .
الشعب اليمني ينكل به الغازي " الوطني" والخارجي واليمنيون في الوقت الذي معتصب السلطة يتجذر مستغلا مثل هذه الخلافات وضعف الشرعية وخذلان وتأمر دول التحالف .. للاسف هؤلاء كمجتمع ونُخب "والتي يفترض انها تحمل مشاعر التغيير" هي نفسها اداة وآلة ما جرى ويجري من هذا العبث الغير مسؤول .
اليمنيون حكام ومحكومين انفسهم بأنفسهم بخلق خلافات مصطنعة ومناكفات امتداد لحقبة عفى عنها الزمن وبداهة تزيد من الاحتقان واجواء الكراهية الحاصلة اصلا .. فقد غدى الجميع يكره الجميع .. وتحول الكثيرون لجدل عقيم وتفاصيل خارجه عن سياق القضية الرئيسية والتي هي استعادة الدولة المختطفة .
ملايين من اليمنيين في حالة ضياع ويأس وقنوط والحرب تزداد ضراوة ليس من اجل الحسم بل ربما لمزيدا من التعقيدات والتداخلات .. يحدث كل هذا والنخب المثقفة والشبه متعلمة تتصارع فيما بينها في تفاصيل تافهة وتسير في اتجاه آخر تهرول للمجهول وتنشغل في جدل لا يغني ولا يسمن من جوع.
وكأن يمن الايمان والحكمة غدا بلا حكمة .. ولا حتى إيمان .. فقد انقسموا " مِللّ ونِحلّ"
شِيعاً وأحزباً ، وكل حزب بما لديهم فرحون ..انقمسوا بين "جلد الذات" و"عبادة الجلاد "
المنتصر فيهم مهزوم ، والمهزوم يتلذذ بالانتقام
نعم فقدان البوصلة .. هو عنوان المرحلة !
* كاتب وسفير في الخارجية اليمنية