أنا سعيد للغاية بردود الفعل الجميلة التي وصلتني منذ بدأت كتابة الحلقات التي تتعلق بعملي في الجزيرة والصحافة عموما ، صحيح أنني تلقيت الكثير منها لكنني حتى اللحظة لم أتلق ولو انتقادات من زملاء أعزاء تعرفت إليهم عن قرب وفي انتظار ذلك إن شاء الله.
لا أحب المقالات السجالية في كل الأحوال رغم أن بداياتي كانت سجالات وجدلا مستمرا من البيت إلى المدرسة إلى منبر المسجد ثم الشعر ثم الإعلام وهو قدر اخترته بنفسي ولم يفرض علي ، بل وحاربت من أجله على كل المستويات حتى أخذت ما أريد.
والإنسان كما أرى هو نتاج نضال وكفاح وحروب مستمرة ، لكن بعض الحروب قد تقتلك وبعض الحروب تخرج منها فارسا، والبعض الكثير تخرج منها معاقا، ولست مهتما أي الثلاثة كنت لكنني أزعم أنني خرجت من كل هذا متعافيا رغم كل مامر بي سليم الصدر والروح والعقل وهذا زعم قد يحتاج إلى دليل.
ففي السنوات الأولى من عمري أخذني أبي من الريف حيث ولدت عام 78م في منطقة (سنعات العمارنة) وهي منطقة أقرب ل تعزمنها لإب وفي مناطقنا يقولون إن منطقة كذا هي سوق منطقة كذا وتعز كانت سوقنا مثل غيرنا من المناطق القريبة لتعز.
أما قريتي فتسمى قرية القاضي وهي قرية صغيرة في السنعات قيل لي لاحقا بأن أجدادي وأجداد معظم من في القرية انتقلوا من منطقة شلف وهي المنطقة التي أنتسب إليها ويمكنك أن ترنو بعينيك مد البصر والسماء لتشاهد الطريق الوعرة إليها لمدة ساعتين أوأقل بالسيارة.
وللعلم فقصة ( الأسر المتنقلة من منطقة إلى منطقة ومن محافظة إلى محافظة كثيرة جدا ) وهو ما خلق التنوع الحالي في مدن اليمن ومناطقها ومن المعروف أن يقول لك شخص أنا لقبي كذا ولكنني عشت في منطقة أخرى لأن جدي نقل من تلك المنطقة.
أتذكر قريتي تلك القرية الجميلة التي تتوسط بساطا أخضر من المدرجات الخضراء وتحيطها جبال شامخة وقرى كثيرة وبإمكانك على مد بصرك أن تسمع الناس تنادي بعضها على بعد عشرات المترات من أسطح المنازل وتتحدث عن أمورها.
كانت طفولتي جميلة حقا فمرابع صباي عرفت الريف بكل تفاصيله غبش الصباح ووقع أقدام المصلين الذاهبين لصلاة الفجر وذلك الدخان في البواكير حين تبدأ الأمهات تسخين التنور اليدوي بالحطب لعمل الخبز وتابعت أمي وهي تحلب البقرة وتتفقد بيض الدجاج ولاحقت العصافير الصغيرة ب ( المخمي ) لكنني فيما بعد عرفت أن ذلك كان سلوكا عدوانيا.
شاهدت كل ذلك، الشلالات الجميلة من سقف منزلنا ذو الطابقين وفتيات القرية وهن يذهبن باتجاه السائلة وهي المكان الذي يتجمع فيه الماء أيام المطر والمزارعون وهم يحرثون او مايسمى ب( التلام)وبعدها عندما ينتظرون الحصاد او الصراب وأغاني التلام والصراب وارتفاع السنابل فيما بعد وموسم الخوخ والرمان والمانجو وكنت أقتنص الفرص مع أصدقائي للسطو على بعض منها .
وكنا نذهب من أجل جني التين الشوكي الذي تمتلأ به الطرقات وتعلق أيدينا بالكثير من الشوك والعذاب.
خرجت من الجنة باتجاه تعز مع والدي في الصف الثالث الإبتدائي ووالدي شخص كريم ونبيل وصارم وقاس ولكن كان لديه حلم وقرر أن يحققه العبد الفقير إلى الله الذي هو أنا!
طفل ريفي صغير وأب في مدينة تعز وعلي أن أحقق حلم والدي .. وأنا الوحيد وليس من أحد غيري !
وعموما والدي حفظه الله مايزال موجودا ونحتفظ بتلك العلاقة الطيبة بين أب قبل بالأمر الواقع وولد لم يكن بذلك السوء الذي تخيله.
أعرف كثيرين من أصدقائي أراد آبائهم تحقيق أحلامهم من خلالهم وتقريبا جميع من أعرف مروا بذلك الموقف ، لذلك لا أشعر بالحسرة ابدا من الإمتحان الصعب الذي مررت به.
بل إنني أشعر بالإمتنان لوالدي الحبيب فقد بدأ منذ اليوم الأول لدخولنا تعز بتحقيق حلمه الذي هو في الأخير أن أصبح داعية وقاض شرعي.
ألحقني بمعهد تعز العلمي وكان من أفضل المعاهد التي يمكن أن يلتحق بها طفل مثلي ثم اختار لي شيخا جليلا ومتمكنا وذائع الصيت بتعز واليمن هو عديني من منطقتنا ايضا هو الشيخ عبدالرحمن قحطان حفظه الله ورعاه لأحفظ القرآن والتجويد على يديه والفقه والنحو والصرف والأصول والمواريث وظللت أرافقه فترات طويلة من حياتي لدرجة أني كنت الطالب الأبرز ولن أقول الأذكى!
المهم، قضيت حياتي منذ الصف الثالث الإبتدائي حتى الثالث الإعدادي وبعدها بين حلقات العلم والقرآن والحديث والنحو وحفظت المتون ألفية بين مالك في النحو والزبد في الفقه والآجرومية ومتونا في الأصول والحديث والمواريث وغيرها وكنت أيضا أقف بعد صلاة الجمعة وأحيانا المغرب أقدم خاطرة مسجدية أمام العشرات والمئات أحيانا أنوع خلالها لغتي وإيقاع الحديث واستخدم أدوات الخطابة قبل ان احمل تلك التجربة معي إلى منابر الشعر والإعلام.
وفي الأثناء بدأت شخصيتي كشاعر ومثقف تظهر في المعهد ولم أكن بعد معروفا لكنني التحقت بفريق الأناشيد والشعر والقصة والتحقت بالرحلات والأمسيات وغصت في عالم النشاط الثقافي والمسرحي اللذيذ أتنقل من منطقة إلى منطقة وأتعرف على مناطق تعز متسلحا بالعلم والثقافة وحلم أبي.
كان والدي صارما فعلا ،صارم جدا لكنني كنت واثقا جدا وغير عادي إذ في ظرف سنوات قليلة بنيت شخصيتي الثقافية والعلمية وأصبحت متميزا فعلا لكن ذلك لم يرض والدي إذ ذهبت باتجاه الصحافة والشعر والأدب والمسرح واتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وصحيفة الجمهورية ومصادقة الأدباء والشعر والمثقفين ولم يكن يعجبه أن تحولت قرائاتي إلى فيكتور هوجو وتشيخوف ودرويش والبردوني وفوق الخلاف الذي بيننا نشب خلاف آخر حول اتجاهي الجديد.
خلاف الآباء والأبناء على هذا النحو مفهوم بالنسبة لي حاليا لكنه كان في ذلك الوقت ضربا من التعاسة والأسى وهوالآن جزء من الذاكرة التي أفخر بها لما أصبحت عليه فالظروف والنشأة الصعبة هي من تشكلك على الرغم منك.
نسيت أن أقول أن والدي قارئ نهم يقضي كل وقته في قراءة الكتب والصحافة وهو فوق ذلك يتابعني بشغف مذ بدأت الكتابة وكان يقول رأيه حول ما أكتب بصراحة وأحيانا لا يروقه .. لكنني تعلمت منه ما هو أهم من كل ذلك .. قل الحق والصواب في وجه أي كان ولا تخف مهما كانت الظروف ، سبب له ذلك الكثير من المشاكل لكنني أشعر بالفخر لأنه كذلك وكان يردد في مسامعي أبدا:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا
يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنذا
ليس الفتى من يقول كان أبي