في مثل هذا اليوم12 أبريل من العام1978م ولم أسأل والدتي في أي وقت جئت إلى هذه الدنيا وقد ذكرت سابقا المكان الذي أنتمي إليه وفردوس قريتي الغناء ولن أعيد ذلك من جديد غير أن عيد الميلاد جعلني أتذكر موسيقى أغنية فريد الأطرش عدت يا يوم مولدي والكلمات ل كامل الشناوي واللحن لفريد نفسه.
عُدت يا يوم مولدي .. عُدت يا أيها الشقي
الصبا ضاع من يدي .. و غزا الشيب مفرقي
ليت يا يوم مولدي .. كنتَ يوما بلا غد
ليت أني من الأزل .. لم أعش هذه الحياة
عشتُ فيها و لم أزل .. جاهلا أنها حياة
ليت أني من الأزل .. كنت روحا و لم أزل
أنا عمر بلا شباب .. و حياة بلا ربيع
أشتري الحب بالعذاب.. أشتريه فمن يبيع
أنا وهم .. أنا سراب.
والحقيقة أن الأغنية بكائية ولا تناسب روحي التي تعشق الحياة وتحب التنقل بين مصاعبها وهمومها وأفراحها وأحلامها لكنها خطرت في الذاكرة حين بدأت الكتابة .
أنا اليوم في حضرة العام الثاني والأربعين وأزعم ويشهد أصدقائي وعائلتي بذلك أنني مازلت أمتلك قلبا يؤهلني لأعمل وأعيش وأكافح من أجل تلك القيم التي تشربتها خلال الواحد والأربعين عاما التي مضت وتقلبت فيها بين التعب والعذاب والإصرار والنجاح والفشل والهوى ،تألق قلبي فيها حينا وانكسر حينا آخر .
قابلت وجوها كثيرة بعضها طمرتها الأحداث وبعضها لازال في حياتي الآن وبعضها خرج من الدنيا وعرفت أصدقاء كانوا قريبين مني وأصبحوا من العدواة بمكان وهكذا هي الدنيا أصدق ما سمعت فيها ذلك الصوت الأجش في أحد المسلسلات التلفزيونية العتيقة .
يادنيا غري غيري !!
لا أدري لم تلح علي الذاكرة بأن أتذكر قصة قديمة تتقلب في مخرن الذاكرة ونادرا ما أحكيها وربما حكيتها مرة أو مرتين فقط .
ففي سنوات الطفولة الأولى ربما في سن الثالثة أو الرابعة يتراءى لي مشهد كالرؤيا وهو سقوطي من كوة صغيرة كانت تقع أعلى الدور الثاني في منزلنا الريفي بقريتي حينها سقطت على أرض ترابية صلبة من أعلى وغبت عن الدنيا .
كل ما أتذكره مثل طيف حلم صرخات أمي والنسوة من حولها وإيقاع تنفسي الذي يذهب ويجيء فيما كانت الأيدي ترشني بالماء ولا أتذكر بقية الحكاية فهذا هو الجزء الصغير الساخن في رأسي من تلك الفترة الصغيرة لاغير.
ولم أسأل والدتي عندما كبرت عن تفاصيل الحادثة ولا ما آلت إليه وكيف انتهت!
وعلاقتي بأمي قصة أخرى تستحق أن أرويها هنا فقد وجدت نفسي بعيدا عن حضنها الدافئ في سنين طفولتي الأولى عندما غادرت إلى تعز وكنت ككل الإطفال الذين يدرسون في المدينة أعود إلى أمي وقريتي وإخواني الأصغر مني،ونحن ثلاثة أولاد وبنت واحدة وأنا بكر أبي .
أحتفظ لأمي أطال الله في عمرها في ذاكرتي بصورة جميلة جدا بروحها ورائحتها وطيبتها ووجها الأبيض القمحي الجميل وبطعامها الريفي العديني الشهي الذي لم يفارق طعمه ولا شمه ذاكرتي واحتفظ لها بدفاعها المستميت عني وعن أخطائي أمام والدي وهوما لا أنساه حتى اليوم.
لكن سنوات الطفولة والمراهقة والشباب التي قضيتها بعيدا عنها ولازلت بسبب ظروفي وحياتي الإجتماعية ومشاغلي قضمت من مشاعر الطفل والإبن الكثير.
كتبت في البدايات عام97م قصيدة إلى أمي عنونتها (بعض البوح .. كل الشوق )وهي مشاعر فتى مشتاق ملتاع يريد العودة إلى مرابع طفولته الأولى ويتذكر كل ما مر به ويفتش في وجهه وقلبه وحزنه وشعره عن أشياءلم تعد تشبهه.
وبعض البوح متسع لأحزاني
وهذا الشوق يأسرني بنسياني
فيا أماه..
مدي شوقك الممزوج بالآلام
نحو فضاء ألواني
وأصغي للبكاء المر
فالتعب احتوى قلبي
وأضناني
يكون الشوق يا أماه
مبتدأ لبعض البوح
لا تصغي.. لأحزاني
فشوقي ليس من شوقي
وشعري ليس يشبهني
وحزني ليس ينساني
ولا وطن سوى الأحلام
أين تكون أحلامي سألقاني.
وهذا فقط بعض مماورد في القصيدة التي كانت إحدى قصائد ديواني الشعري الأول ( تحولات الفتى والمساء) الذي صدر في العام2001م.
يحيلني هذا التذكر وبعدي عن أمي إلى حادثة مرورية حدثت لي عندما كنت في التاسعة من العمر أو أقل وقتها كنت في شارع التحرير الأعلى عائدا من المعهد وكنت في الصف فدهستني سيارة نقل متوسطة وأحدثت جرحا كبيرا في فخذي وأتذكر بعدها عندما نقلت إلى طوارئ مستشفى الثورة بتعز قبل أن ينقلني والدي إلى عيادة خاصة واستمرت قدمي ملفوفة بالجبس لأشهر مع والدي فقط الذي قام بمسامحة سائق السيارة بعدها بكل نبل وإنسانية.
تشكلنا في هذه الحياة مواقف كثيرة في المدرسة والبيت والعائلة والجامعة والجامع والأصدقاء والعمل والسياسة والثورة ولاحقا الحرب و الغربة.
فوق كل هذا فإنني أحيل كل ما أنا عليه حاليا بخيره وشره إلى التمرد الذي شكل شخصيتي مذ فارقت عصر والدي قاطعا عهدا على نفسي أن أكون ما أريد .
وفي سعي الإنسان للبحث عن ذاته وكينونته يرى بعينه لا بأعين الآخرين ما ستكون عليه حياته.
لقد مررت بمؤثرات كثيرة شكلتني أذكر منها المعهد وعملي في مجموعة هائل ثم التحاقي بالجزيرة ثم اندلاع ثورة 2011م التي كانت ميلادا حقيقيا لشخصيتي وشخصية الكثيرين من أبناء جيلي وسيكون لي معها وقفات كثيرة بإذن الله.
لكن أهم ما أريد أن أقف عنده في ذكراي الثانية والأربعين هو أنني في مرحلة صغيرة من عمري تعرفت على الحياة في وجوه العابرين .
منحتني مرافقة والدي هذه الخبرة الصغيرة فقد كنت أرافقه في حافلته الكبيرة أثناء نقله للركاب من الباب الكبير بتعز إلى سوق عصيفرة حيث كنا نتوقف عند سوق القات وكنت أراقب البائعين والبائعات واستمع إلى الإحاديث الخاصة بهم فأرى بائعات القات والفواكه الصبريات بمشاقرهن وملابسهن المزركشة وبائعات الملوج وعربية البطاط ومعصرة الفواكه ولا زلت اتذكر ذلك الأعمى النحيل الذي كان يقرأ القرآن في انتظار الصدقات ولاحقا شاهدته مرسوما في أحد لوحات الفنان هاشم علي الم تخني الذاكرة.
إنه مشهد يشدك على الآخر إذأنه يضعك في قلب حياة العاديين البسطاء ويطبع في قلبك أحاديثهم وأوجاعهم وخداعاتهم الصغيرة وشتائمهم ومن النادر في قلب هذه الحياة المفتوحة ألا ينفتح قلبك الصغير على اسئلة لا تغلق أبوابها.
حملت معي وأنا في الثانية والأربعين كل تلك الأسئلة الساذج منها والعميق الموجع والشقي والباعث على الأمل ولازال منها مايلح علي بالكتابة والتذكر وحفر الذاكرة عميقا عميقا في البحث عما ليس له إجابة.
اختم بالقول بأن فريد الأطرش ليس فنانا مفضلا بالنسبة لي لكن لديه بعض القصائد المغناة بالفصحى تعجبني وهذه واحدة منها ( عدت يايوم مولدي) وقدلحنها في فيلم «يوم بلا غد»، الذي قام ببطولته مع مريم فخر الدين، وزكي رستم، وزيزي البدراوي،وعرض للمرة الأولى عام 1962.