التقيت خالد الرويشان مرتين، الأولى عندما أقام مأدبة غداء للفنانين التشكيلين من أبناء ذمار، ودعاني إليها، وكان يومها وزيرًا للثقافة والسياحة، وفي عهده إزدهرت الثقافة والفنون بشكل لافت، ففي ذمار مثلًا اكتشفنا مواهب في كل المجالات الثقافية، وكان الرويشان يخطو نحو ذلك بافتتاح مركزًا للفنون باسم بيت الفن. ومكتبة عامة باسم الشاعر الكبير عبدالله البردوني
وأما اللقاء الثاني فبعد خروجه من الحكومة في بيت الأخ محمد علي أبو لحوم، وكان لقاءًا عابرًا . دارت الأيام وتوالت الأحداث المؤسفة في العاصمة صنعاء، وفي كل البلاد وتعرضت اليمن وما زالت لكارثة تسببت بها جماعة الحوثي ومن تحالف معهم، مما تسبب في هجرة أغلب رجال اليمن، عدا قلة قليلة ممن فضلوا البقاء ، ومنهم من ناصر الحوثي لأبعاد سُلالية، ومنهم من تحالف معه طمعًا أو خوفًا ، والبعض صمت وآثر السلامة حتى لا يتعرض لبطش الحوثي ، إلا رجل واحد ، اسمه : خالد الرويشان، أعلن موقفه بشكل صريح وواضح لا لبس فيه بمعارضة الانقلاب الحوثي وتأييده المطلق للشرعية ومؤسسات الدولة، مُبديًا رأيه في كل الأحداث دون خوف أو تردد ، وحتى عندما تعرضت الصالة الكُبرى للجريمة النكراء باستهداف عزاء آل الرويشان واستشهاد العدد من أقاربه واصابته شخصيًا بجروح، أعتقد الجميع أن "خالد الرويشان" سيغير موقفه الرافض للحوثيين، لكن أصحاب القيم والمبادئ لا يتغيرون .
وأتذكر للأستاذ خالد موقفين :
الأول : عندما كنت في الحكومة اتصلت به وأنا في مدينة مارب، وقد عرفت من بعض الأصدقاء أنه يمر بظروف مادية صعبة، ودار بيننا هذا الحوار :
استاذ خالد
نعم
معك عبد العزيز جباري ، سأبعث لك مبلغًا من المال، باسم من تريد أن أرسله ؟
قال لي : مقابل ماذا ؟
قلت :إعتبرها جزءًا من راتبك في مجلس الشورى
رد عليّ : شكرًا جزيلًا لك والله إنها جاءت في وقتها، ومتى تصرفوا لبقية الزملاء في المجلس !
قلت له : يا أستاذ خالد ربما يتأخروا عن زملائك، برسلك المبلغ تمشي حالك، والزملاء سنتابع لهم رئيس الحكومة والرئيس.
رد عليّ : كيف استلم وزملائي بلا مرتبات وانا اعرف وضعهم !
المعذره لا استطيع رغم حاجتي لها
قلت له : يا أخ خالد هذا ليس مرتب، هذه مساعدة لك من الحكومة ، وقاطعني قائلاً : أرجوك إذا كنتم بتصرفوا للمجلس فأنا واحد منهم، ما لم فأنا لا استطيع إستلام شيء .
الموقف الآخر.
بعد عدة شهور، وأثناء زيارتنا إلى مارب برفقة الأخ الرئيس، كان هناك تعيينات للسفراء، فأشرت عليه بأن "مصر" دولة مهمة، ونحن في حاجة إلى شخصية وطنية لتكليفه بالعمل هناك، واقترحت اسم الاستاذ خالد الرويشان ، فرحب الأخ الرئيس بذلك وطلب مني التواصل معه لتعيينه سفيرًا في مصر، فهاتفته وقلت له : أستاذ خالد أنا مكلف بإبلاغك برغبة الرئيس تعيينك سفيرًا في القاهرة ، فأجاب بحزم : شكرًا لك وله، بلغ الرئيس تحياتي ولا استطيع مغادرة صنعاء وتركها للضباع، صنعاء أسيرة ، يجب أن لا نتركها أسيرة، وأرجو إبلاغ الأخ الرئيس باعتذاري . وكان صوته حزينًا متهدجًا كأنه يحدثني عن أسر أحد أبناءه .
في هذه اللحظات الأليمة أستذكر مواقف خالد الرويشان كإنسان نزيه ومحترم، ومناضل حر وشجاع واستغرب أين يمكن لمثل هذا الرجل أن يُسجن، أي سجن من أربعة جدران قادر أن يستوعب رجلًا يُحلق في سماء اليمن، تجده في مارب، وشبوه ويافع، وأبين وحضرموت وسقطرى، مُدهشًا بكل عباراته الأنيقة ، وسره المثقف عن هوية اليمن الحضارية، متتبعًا آثار تُبّع، وأمجاد عبهلة والصعب، وكرب أيل وتر، يحوّل الصورة إلى قصيدة، والحروف إلى روح وثابة محلقة .
لن يستطيع هؤلاء القادمون من غبار التاريخ تقييد حرية كلمة، فالكلمات تتسلل من الجدران، وتمضي مستقرة في القلوب والضمائر، وحين نتحدث عن هوية اليمن ، وحيث تكون هذه الهوية الوطنية يحضر "خالد" مثل سيف يماني مسلول، وحتمًا سيُمزق السيف أستار الجهل ويعبر باليمن آفاقه الرحبة .
لقد حاول الطغاة عبر التاريخ سجن المفكرين والمثقفين، فعاش ضحاياهم أكثر منهم، من يتذكر سجّان أبو الحسن الهمداني، ومن يتذكر سجّان نشوان الحميري، وابن سينا، وكل مفكري هذا العالم وفلاسفته، لا أحد ، فقط تبقى الكلمة الحرة مثل شمس ساطعة حين تغيب لا بد أن تسطع من جديد، وحين تسطع يهرب أعداء النور والكلمة والشياطين وكل أرباب الإصطفاء الواهم الملعون .
قلوبنا وأفعالنا وضمائرنا معك أستاذ خالد، وتحيتي إليك اينما كُنت
أخوك : عبدالعزيز جباري