العنصرية ظاهرة قديمة حديثة، عابرة لتاريخ المذاهب والأديان والثقافات، باعتبارها مرضاً اجتماعياً عانت منه البشرية كثيراً، ودفعت وتدفع ثمن هذه الظاهرة الاجتماعية المرضية الكثير اليوم من أمنها واستقرارها وسلامها الاجتماعي. ونرى اليوم في الولايات المتحدة خروج المجتمع الأميركي، على إثر مقتل المواطن جورج فلويد، بشكل مهيب ضد العنصرية التي يجرّمها القانون الأميركي، فيما لا تزال ثقافة وسلوكاً راسخة في لا وعي بعض من الناس، ولا تنفكّ تظهر بين حين وآخر.
خرج العالم كله اليوم تحت وقع صورة فلويد، الذي كان يصيح من تحت ركبة مواطنه، "البوليس" الأميركي الأبيض، قائلاً إنه يختنق. خرج العالم مستنكراً، بعد أن رأى كيف اهتزت أميركا كلها لبشاعة هذه الصورة التي أعادت تذكير العالم بمآسي العنصرية عبر التاريخ، وكيف عانى الإنسان من أخيه الإنسان، فخرجت لندن وباريس وجل مدن العالم مندّدة بهذه الحادثة، ومحطمة كل ما له علاقة بعصور الاستعمار والوحشية ورموزها.
لم يكن كرستوفر كولمبوس مستكشف أميركا استثناء من هذه الثورة ضد العنصرية، ولا ملك بلجيكا ليوبولد، ولا حتى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وليام جلادستون، الذي تمت إزالة اسمه من على بوابة إحدى قاعات جامعة ليفربول، وتغييره باسم شخص آخر، لأنه كان ضد قانون إلغاء العبودية في البرلمان البريطاني، لأنه ينتمي لأسرة تمتلك مزارع يعمل فيها العبيد حينها. أما تجار العبيد فقد تمت إزالة تماثيلهم من شوارع لندن كلها، من روبرت ميليغان حتى إدوارد كولستون. وتعهد عمدة لندن، صديق خان، بملاحقة كل ما له علاقة بالعبودية في لندن.
ربما قد يكون العالم اليوم أمام لحظةٍ فارقةٍ في تاريخ البشرية، وكأننا أمام صحوة إنسانية حقيقية تجاه كل ما له علاقة بالعنصرية وتاريخها الأسود، فكرة وسلوكاً وممارسة، عانت من ويلاتها البشرية الكثير، وجسّدت مرحلة الكولونيالية أسوأ صور العبودية، وما ترتب عليها من ظلم وقهر ونهب لمقدّرات الأمم والشعوب المغلوب على أمرها، وكان التاريخ الأميركي هو التجسيد الصارخ لهذه المرحلة الأسوأ، فيما يتعلق بتجارة العبيد والرقّ وتداعياتها المستمرة، أميركياً حتى اللحظة.
وفي مقابل كل هذه الثورة الأخلاقية العالمية تجاه العنصرية وتجريمها ونبذها، يخرج علينا الحوثيون في اليمن، بوصفهم سلطة أمر واقع في صنعاء والمناطق التي تحت سيطرتهم منذ 21 سبتمبر/ أيلول 2014، بتشريع قانوني جديد، يشرعن لجماعتهم خُمس أموال ما يسمى فقهياً بـ"الركاز" وهو كل ما في باطن الأرض، من ذهب ونفط وغاز وكل ما تحويه أرض اليمن ومدفون في باطنها، فضلاً عما تحويه البحار من أسماك ولؤلؤ، والأرض من خيرات وثمار وأموال، في واحدة من أوقح صور العنصرية والانحطاط، كاشفة عن الوجه الخفي والحقيقي للحرب والصراع الدائر في اليمن.
وقبل الحديث عن ذلك كله، وملابساته القانونية والفقهية والدستورية، ينبغي التذكير بأن جماعة الحوثي هي امتداد مذهبي للزيدية في اليمن وعرقي لهاشمية عبد المطلب، جد الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، كما يدّعون. والزيدية مذهبٌ أسسه من يسمونه في تاريخهم الإمام الهادي، يحيى بن الحسين الرسي، والذي قدم من جبال الرس في المدينة المنورة إلى اليمن، في القرن الثالث الهجري، عام 284 هجرية، مؤسّساً المذهب الهادوي نسبة إليه، والذي يطلقون عليه المذهب الزيدي، نسبة إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فيما لم يصح تاريخياً وعلمياً وجود مذهب فقهي منسوب للإمام زيد بن علي، ويعتبر مجرد حركة سياسية معارضة.
ومن هنا، الحوثية، التي تستند، في وجودها وخطابها، إلى المدونة الفقهية للهادوية التي تقوم على فكرة رئيسية وحيدة، وهي الإمامة في ذرية الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب، وهو ما تسميه مدونتهم المذهبية البطنيين، واعتبار هذه الإمامة حقاً إلهياً منصوصاً عليها بالنص الخفي لديهم دون غيرهم، وأن هذا الحق هو حصر الحكم والعلم والمال في ذرية النبي من آل بيته، وهم أولاد فاطمة، في مفارقةٍ ومغالطةٍ تسقط أمام التحقيق العلمي المجرّد فيما يتعلق بمقولة "آل البيت"، وتهافت هذه الفكرة أمام سياقات عدة قرآنية ولغوية ومنطقية وتاريخية واجتماعية، لا تستقيم معها هذه الفكرة مطلقاً، ولا يسع التفصيل عنها في هذا المقال.
ومن هذه الفكرة، المتهافتة علمياً، "آل البيت"، تناسلت كل إشكالات التاريخ القديم والمعاصر في اليمن وغيرها من بلاد المسلمين، فيما يتعلق بنظرية الحق الإلهي بالحكم، وحروب المسلمين وانشقاقاتهم إلى مذاهب وطوائف وفرق شتّى، كل فرقة ترى نفسها الأحق بكل شيء من دون الناس، محتكرة الحقيقة في الدين، ومن ثم في السياسة والمال والعلم، في تأصيلٍ خطيرٍ للعنصرية من وجهة نظر دينية بحتة.
وبالعودة إلى قانون العنصرية الجديد للحوثيين، وهو الذي ينصّ على تخصيص خُمس أموال اليمنيين لهم، وهو القانون الذي يدّعون أنه قانون قديم كان في المدونة القانونية لبرلمان الجمهورية اليمنية، لعام 1999، في مغالطةٍ أخرى واضحة، فلم يكن في ذلك القانون أي نص يتحدث عن الخُمس، وإنما كان قانون خاص بالزكاة ومصارفها، ولم يتطرّق لمسألة الخُمس حينها مطلقاً.
تكمن المشكلة (أو الخطورة) يمنياً اليوم، إذا فرضنا جدلاً، تجاوزنا كل فرضيات النقاش الفقهي التقليدي لهذه القضية وجدلياته العقيمة ، في أن ثمة من لا يزال، بعد أكثر من ألف عام، يرى نفسه من خلال إنزال هذه القضية للنقاش، وفي هذا التوقيت بالذات، أنه ليس يمنياً، وأنه هاشمي ومن درجة أعلى وأقدس من الجميع، يجب أن يُخصّص له خمس ثروات البلاد من دون الناس، في دلالةٍ خطيرةٍ على عمق الأزمة التي يعيشها اليمن في شقها المذهبي والطائفي، وأن ثمّة مأزقاً حقيقياً فيما يتعلق بجذور الصراع الخفية للحرب الدائرة في اليمن، غير تلك الأسباب السياسية التي تحصر الصراع بين شرعية وانقلاب.
مأزق اللحظة اليمنية الراهنة اليوم ليس في حالة الحرب الدائرة وطول أمدها فحسب، بل في عودة اليمن عقوداً، بل قروناً، إلى الوراء، تخلفاً وهمجية وتراجعاً في كل شيء، حتى عن منظومة الأفكار والتصوّرات الإنسانية المجردة، فضلاً عن الارتداد عن جوهر الإسلام الذي يتم الصراع اليوم تحت لافتاته، حيث تكمن الجريمة اليوم أن هذا الصراع يتخذ من الإسلام مادة سجالية وشعارات للحرب والمعركة، وفي مستهل القرن الواحد والعشرين، عصر الثورات الإنسانية الكبرى في العلم والأخلاق والتكنولوجيا، تطفو إلى السطح جماعة لا تزال خارج سياق اللحظة والواقع، وكل ما له علاقة بحداثة الإنسان السياسية والأخلاقية والمدنية.
خطورة ما يقوم به الحوثيون اليوم أنهم يؤسسون مجدّداً لحروب مستمرة، تستند إلى تقسيم الناس حسب جيناتهم ومذاهبهم ومناطقهم ولهجاتهم وأحسابهم وأنسابهم، ويتم ذلك كله وفقاً لقانون يسن ويشرعن لهم كذلك، وأن العنصرية تصبح قانوناً نافذاً لا أحد يمتلك حق مواجهته والاعتراض عليه، فكل من يعترض على قانون العنصرية كافر وعميل مباح الدم والعرض والمال، فلكم بعد هذا كله أن تتصوّروا كيف سيغدو اليمن في ظل وضع انقلابي شاذ، يشرعن كل الشذوذ، ويسن له قوانين وأحكاماً منظمة.
* نقلا عن العربي الجديد