عن ثقافة إمامية بائدة تعود من جديد
الجمعة, 19 يونيو, 2020 - 03:15 صباحاً

ولدتُ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، ولم يمر على ثورة السادس والعشرين من سبتمبر حينها سوى عشرون عام.

كانت مظاهر الحياة وقتها لاتزال متأثرة بحقبة الحكم الإمامي، وكثير من عادات وسلوكيات المجتمع اليمني كانت إمتداد لتلك الحقبة في عدة نواحي.

تأثير الثورة لم يصل بعد بوهجه الكبير لمناطق الريف من الجانب الخدمي والتنموي، وكذلك من الجانب التوعوي حول الثورة وقيمها وفضيلتها، فقط تغير النافذون في ولائهم للحكم الإمامي للولاء للجمهورية.

تدريجيا دلف إلى الريف الوعي ببطء عن طريق المدارس النظامية التي أدت تدريجيا لتغيير كثير من المفاهيم المغلوطة، وأزالت الكتاتيب التقليدية التي كانت مصدر التعليم الوحيد، ويقوم بها كبار السن مقابل مالي بسيط يدفع كل خميس، وتتم باستخدام الألواح التقليدية.

كانت الناس تعيش حياتها بنمط بدائي تقليدي، ربما كانت مكتفية غذائيا، وتأكل من خير ماتزرع، لكن الحياة بمختلف جوانب حياتها تبدو وكأنها متوقفة منذ زمن طويل، فلا شيء يربطها بالعالم، وتنعدم لديها مظاهر الحياة التي تذكر بوجود متغير من حولها.

كان التقسيم الطبقي موجود، ويتمحور حول مشائخ، وهم كبار الإقطاعين المالكين للأرض، والذين أجروا أراضيهم للفقراء من الناس ليعملوا عليها مقابل ضرائب سنوية باهظة، وهم الفئة الثانية، التي تنحدر من خليط اجتماعي متعدد، وهم السكان الأصليون.


أما الفئة الثالثة فهم جموع تنتمي لقبائل عديدة، وكانوا أيضا مسيطرون على الأرض بمستوى أقل، أما الفئة الرابعة فكانوا يمثلون ما يعرف بالسادة، وهؤلاء كانوا يمتهنون عدة مهن لها علاقة بزمن الإمامة، وجاءت الثورة لتنهي أغلب تلك المهن والسلوكيات التي انقرضت بفعل التعليم، ونمو وعي الناس.

كانت ثقافة الناس حينها تقوم على عدة مظاهر متوارثة من الحقبة الإمامية، وكانت فئة السادة تمثل التجسيد الحقيقي للفكر الإمامي وثقافته الدينية والإجتماعية داخل المجتمع.

كان هؤلاء يقومون بمهمة الطب الشعبي القائم على كثير من مظاهر الشعوذة، والاستعانة بالجن، وممارسة السحر، واستخدام الريق (التفال) والتراتيل الغير مفهومة وشخابيط الكتابة كوسيلة من وسائل العلاج للناس.

وإضافة لذلك كانوا هم من يقوم بإحياء الموالد النبوية سنويا، أو عند الوفاة، وهم من يتولى كتابة عقود النكاح، وبسبب ذلك كانوا يحظون بالكثير من الامتيازات التي يقدمها الناس لهم، من الطعام والبن واللحوم والثمرات، بل كان يجري اقتطاع أراضي معينة بثمارها من قات أو بن لصالح هؤلاء.

لازلتُ أتذكر منزل إثنين من هؤلاء العائلات، وهي مملوءة بعشرات الزوار، وكأنها مستشفى من كثرة المتواجدين فيها، وكلهم يأتون طلبا للعلاج بالأعشاب أو إبعاد الجن، أو البحث عن غريم لدى السيد الذي يسيطر على الجن، ويعرف من قام بالسرقات، ويكشف المؤامرات، ويحل الخلافات، ويشفي المرض والعلات، ويرسل التنبيهات لأي جاني كالثعابين وغيرها.

أتذكر أن هناك صورة لشخص يبدو فيها وجهه فقط، كنتُ أراها معلقة في جدران الغرف بأغلب البيوت، وكان ذلك محل استغراب، من هو ذلك الرجل، ولماذا لايعيش معنا، ولانراه، وما الذي استحقه لترفع وتقدس صورته بذلك الشكل.

لاحقا اتضح إنه أحد مايعرف بالسادة، واشتهر بكونه مداويا باستخدام الأعشاب والجن، وكانت شهرته واسعة بفعل تلك المهن، ورفع الناس صورته بعد وفاته لقداسته، وربما جزء من التبرك به.

كان لباس الناس أيضا من مخلفات تلك الحقبة، وهو الثوب والكوت، ولبس الجنبية، أو الحزام، والعمامة (الدسمال) على الرأس، وتلك سمات الرجولة، أما من يلبس البنطلون فتلاحقه نظرات الإزدراء، وكأنه ارتكب جناية.

لازلت أتذكر جدي وأنا في العاشرة من العمر وهو يلزمني بمشدة اشتراها لي وألزمني بلباسها، لكن محاولته بالإلزام أخفقت، فقد نفرتُ منها بشدة، كانت تمثل عبئا ووضعا شاذا، ولم تعد مقبولة إطلاقا، وهنا يظهر البون بين ثقافة جيلين الأول نشأ في ظل سيطرة أنماط إجتماعية تختلف كثيرا عن حياة الجيل الثاني.

حتى على المستوى الأسماء ستجد إن أغلب تسميات حقبة ما قبل ومابعد الثورة إلى وقت قريب من تحققها منحصرة بتسميات معينة مثل علي ومحمد وعبدالله وأحمد وحميد ومشتقات أسماء الله الحسنى، وقل أن تجد أسماء جديدة مثلما انتشرت لاحقا، وللعلم فالأسماء أيضا تأتي انعكاسا لأحداث الحقب الزمنية وأشخاص الحاكمين.

كان الكاسيت واحدة من وسائل ثقافة تلك الفترة، لكن محتواه كان متماشيا مع مفاهيم ذلك الوقت، وأغلب الكاسيتات كانت قصائد تمجد على بن أبي طالب وعشيرته وأفعاله وذريته وبنيه، وسيرهم ومكارمهم.

على مستوى آخر كان هناك أكثر من (قبة) منتشرة في قريتنا، وهي غرفة صغيرة، بعضها مغلق، وبعضها مفتوح تحتوي على قبر لأحد المتوفين من السادة أيضا، وكل خميس كانت الناس تذهب إليه بالبخور والنذور وتطلب منه الشفاء، ورفع الكرب والأسقام، وإزالة الضرر.

كانت الناس تعتقد بدور هؤلاء الموتى وأنهم قادرون على مساعدتهم، وأتذكر أنا شخصيا أني ذهبتُ أكثر من مرة لوضع البخور على قبورهم نزولا عند رغبة أمي حفظها الله.

نفس الحال بالنسبة للدعاء والتوسل إلى الله، كانت الناس الأقدم سناً، لايهتفون باسم الله مباشرة، بل بأسماء شخصيات جميعها تنتمي لفئة السادة، مثل يا خمسة، أو يا صفي الدين، أو يا ابن علوان.

لقد هيمنت تلك الثقافة الضالة على مختلف مناحي الحياة، وأنتجت أجيال تؤمن بالخرافة والدجل، وتقدس فئات معينة، وترى فيها كل شيء بالحياة، فهي من تعالج الناس، وتعلمهم وترشدهم، وما عليهم سوى السمع والطاعة ودفع المال والثمار لها.

في ظل هذا المشهد المظلم الغارق في البدائية الطافحة بالجهل بل التجهيل المتعمد الذي غيب العقل وكرامة الإنسان جاءت ثورة سبتمبر 1962م التي قلبت المجتمع رأسا على عقب، وأعادت الكرامة للإنسان اليمني والمجتمع، وخلصته من كابوس هيمن عليه لعقود، وأزالت كل براثين تلك الحقبة ومخلفاتها.

نشأ تحت سقف تلك الثورة جيلا جديدا تمرد على كل تلك المفاهيم، وانطلق نحو آفاق جديدة انقطعت صلتها بالماضي البغيض، فحلت المدرسة مكان الكتاتيب، والمستشفى محل منازل أولئك المشعوذين، وارتبط اليمني بالعالم الخارجي، والدولة مكان السيد.

بسبب ذلك شعرت تلك الفئة (السادة) بالخسارة التي منيت بها، وأبعدت عنها نعيم مقيم كانت تنعم به، وتمارس النفوذ وتكسب الثروة، رغم إنها ظلت واحدة من مكونات المجتمع الجديد الذي اندمجت فيه، وحظيت أبنائها بفرص الحياة المختلفة كالتعليم والصحة والوظيفة.

اندثرت شيئا فشيئا كل تلك المظاهر الطبقية، وتساوى الناس بالحقوق والواجبات، وذابت المذهبية والامتيازات، وصارت الدولة هي المرجع والمقنن والمدير لشؤون البلد.

كنا بحاجة لجيلين على الأقل لتنتهي تلك الثقافة إلى الأبد، لكن شاءت الأقدار أن تعيد الجميع إلى نقطة الصفر الأولى، حيث أحيت تلك الأسر مجدها الغابر، وعادت من جديد معلنة أحقيتها في الاستعلاء والاستعباد والإصطفاء.

لكن عودتها اليوم هي الأسواء، ففي السابق كانت امتداد لثقافة قرون من الظلام والحكم الإمامي، وكان من الممكن التماس العذر للجيل الأول بسبب امتداد تلك الحقبة، أما اليوم فإن عودة الجيل الراهن من تلك الأسر لتلك الحقبة بعدما نشأ في ظل مفاهيم بعيدة عن التطرف المذهبي والنزعة السلالية، فإن ذلك يدفع لإعادة النظر في المستقبل لمنع تكرار هذا الأمر بشكل نهائي.

إن المسؤولية هنا يتحملها من سعى لإحياء هذه الثقافة المذهبية السلالية، ونفخ فيها الروح، وبث سمومه من جديد في الجسد اليمني.

وحتما يدور الزمن...

التعليقات