تنهض أركان الجريمة في اليمن على تضافر بيئة عنفية أوجدتها أطراف الحرب، وعملت على استدامتها، فقد نتجت عن تقويض الدولة اليمنية وراثة قوى محلية متنازعة وظائفها، بحيث تحوّلت أطراف الحرب والجماعات المسلحة الموالية لها والمنافسة لها إلى ممثل حصري للدولة، واختبأت تحت مظلتها للتنكيل بالمواطنين. فقد وظفت الأجهزة الضبطية التابعة للدولة في صراعها المرير على السلطة ضد القوى المنافسة لها، وكذلك المواطنين، بحيث تحوّلت هذه الأجهزة إلى سجون للتعذيب، فيما أدارت قيادات عسكرية حزبية المعسكرات باعتبارها سجوناً سرّية لإخفاء المعارضين. كما قامت بعض القوى المسلحة بمهام الشرطي المحلي للقوى الإقليمية المتدخلة في اليمن، وتورّطت في إخفاء معارضين، إضافة إلى جهاز الاستخبارات العسكري السعودي والشرطة العسكرية التي تحوّلت إلى جزء من آلة القمع العابر للحدود. ثم شرعنت هذه القوى المتغلبة في ممارساتها مبدأ الإفلات من العقاب، لحماية نفسها والمتحالفين معها، ولتكون بعيدةً عن المساءلة، بحيث أصبحت الإخفاءات القسرية والاعتقالات والتصفيات الجسدية خارج القانون أداة قاهرة لإرهاب اليمنيين والحط من كرامتهم، بما في ذلك تكريس الاحتراب المحلي.
يشكل النهج العنفي لجماعة الحوثي انعكاساً لعقيدتها الدينية، ونزعتها المليشياوية المقاتلة، إذ لا تستطيع الجماعة العقائدية التي تُعلي من شأن اصطفائها السلالي على حساب اليمنيين إدارة سلطتها خارج مربع العنف. ولذلك يمثل نظام "الرهائن" الذي اتبعته سلطة الأئمة محور سياستها، حيث تضاعف من اعتقالاتها في مختلف المناطق الخاضعة لها، لضمان ولاءات القوى السياسية المتحالفة معها، بما في ذلك القوى القبلية التي تشكّ في ولائها، وكذلك لاستخدامهم ورقة للتفاوض مع السلطة الشرعية، بحيث تتعاطى مع المختطفين والمعتقلين في سجونها كأسرى حرب، لا مدنيين، ومن ثم شكلت الاعتقالات والإخفاءات القسرية للمواطنين أهم الأدوات السلطوية للجماعة من خلال أجهزة الدولة الضبطية، حيث حوّلت جهاز الأمن القومي إلى جهاز خاص بأمن الجماعة، لحماية رموزها الدينية والسياسية والعسكرية، واعتقال المعارضين لهم، إضافة إلى جهاز الأمن السياسي، حيث تورّط هَذان الجهازان سيئا الصيت في اعتقال آلاف اليمنيين وإخفائهم وتعذيبهم. إلا أن الأسوأ من فداحة الانتهاكات اليومية التي ترتكبها الجماعة تعدّد مسؤولية المنتهكين داخل الجماعة نفسها، بحيث تشعبت مظلومية المخفيين والمعتقلين واستخدمتها الجماعة للتنصل من مسؤوليتها المباشرة في اعتقالهم، وذلك بسبب التنافس المحموم بين أجنحة جماعة الحوثي، بما في ذلك المشرفون الذين تحوّلوا إلى سلطة مستقلة قاهرة، بحيث تنازعت تمثيل الجماعة أمام المواطنين، وعبرت عن ذلك بالاستقواء عليهم واختطافهم ونهب ممتلكاتهم، الأمر الذي ضاعف من أعداد المعتقلين والمخفيين في المناطق الخاضعة للجماعة وعجز المواطنين عن إيجاد قنواتٍ رسميةٍ لمعرفة مصير ذويهم. إضافة إلى خوف الجماعة من تبلور تمرّد مجتمعي ضدها جرّاء سياستها القهرية، بحيث أصبحت حملات الاعتقالات والإخفاءات نشاطاً دورياً للجماعة، وذلك لتغطية انحسار شعبيتها حتى عند أنصارها وتجاوز الانقسام داخل صفوفها، حيث بلغت حالات الاختطاف والاعتقال في العام الماضي فقط 1030، توفي منهم 17 مختطفاً تحت التعذيب، وأربعة بسبب الحرمان من الرعاية الصحية، بحسب التقرير السنوي لرابطة أمهات المختطفين.
يرتبط مستوى الانتهاكات ودلالاتها في المناطق المحرّرة بتصاعد حدّة صراع القوى المحلية على السلطة، وكذلك تنامي الاحتقانات المناطقية التي تغذّيها هذه القوى لتكريس سلطتها القهرية، مستفيدةً من حالة الانفلات الأمني. وفي هذا السياق، تمثل مدينة عدن مثالاً حياً لمستوى تصاعد العنف، إذ ضاعف الفشل المتراكم لفرقاء السلطة في جنوب اليمن، بمن فيهم حلفاؤهم الإقليميون في إدارة الملف الأمني في مدينة عدن، من الانتهاكات، فعلى الرغم من تعاقب السلطات السياسية على المدينة، منذ تحريرها قبل خمس سنوات حتى انفراد المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم من الإمارات بالسلطة في مدينة عدن، فإن ذلك لم يؤدّ إلى إعادة هيكلة المؤسسة الأمنية القمعية التي تورّطت في انتهاكات جسيمة، وإخفاءات بحسب الهوية والانتماء السياسي وتصفيات خارج القانون، حيث لم تتم مساءلتها أو حتى إزاحتها من مواقعها، وذلك لأن الملف الأمني ظل خارج أولويات المتنافسين على السلطة في عدن، عدا بالطبع عن تبادل الاتهامات حيال الطرف المتسبب بالانتهاكات، وكذلك الصراع على تعيين قياداتٍ أمنيةٍ مواليةٍ لهما في بعض الأجهزة الضبطية، بحيث عطل هذا التنافس من دور هذه المؤسسات، وأصبحت قناةً رسمية لتمرير الانتهاكات وشرعنتها، الأمر الذي حوّل مدينة عدن إلى مسرح لتصفية الخصوم والمنافسين، وكذلك المواطنين، من مسلحين مجهولين.
وبإعلان المجلس الانتقالي الجنوبي الإدارة الذاتية في جنوب اليمن، دخل الوضع الأمني في مدينة عدن مرحلة أكثر خطورة، إذ إن حرص الأجهزة الأمنية الموالية له على فرض صوت سياسي واحد، سواء بتواطؤ من المجلس، أو من دون دراية، ضاعف من الانتهاكات، منها قتل الشاب حسين مروان عيدروس تحت التعذيب في معسكر طارق أخيراً، وذلك لمشاركته في مظاهرة تطالب المجلس الانتقالي بتحسين الخدمات في المدينة. كما أن تنصّل المجلس الانتقالي من مسؤوليته كسلطة أمر واقع في تأمين حياة المواطنين في مدينة عدن، مقابل انشغاله بنهب موارد مؤسسات الدولة، لتأمين معاركه ضد قوات السلطة الشرعية في مدينة أبين، أدّى إلى فشله في تثبيت الأمن في عدن، بحيث لم ينج من ذلك حتى الموالون له، فقد اغتيل المصور الصحافي الحربي، نبيل القُعيطي، في مطلع شهر يونيو/ حزيران الحالي.
في المقابل، نتج عن استمرار تجاهل السلطة الشرعية تسييس الأجهزة الأمنية وفشلها في تحييدها تصاعد الانتهاكات اليومية في المناطق المحرّرة الأخرى، حيث سيطر حزب التجمع اليمني للإصلاح، أكبر الأحزاب اليمنية المنضوية تحت السلطة الشرعية، على الأجهزة الأمنية في معظم المناطق المحرّرة ووظفها لفرض صوته السياسي، إذ اعتقل عشرات المواطنين والمعارضين بناء على الانتماء السياسي أو الهوية الشخصية في مدينتي تعز ومأرب، بما في ذلك تحويل المعسكرات التابعة له إلى سجون لتعذيب معارضيه وإخفائهم، حيث توفي الشاب أيمن محمد الوهباني تحت التعذيب في مقرّ محور تعز، فيما أفضى تصدّر حزب الإصلاح المعارك في مدينة أبين ضد قوات المجلس الانتقالي إلى مضاعفة الانتهاكات في مدينتي شبوة وحضرموت بحق المواطنين الموالين للمجلس، حيث اعتقل أفراد النقطة العسكرية المحسوبة على حزب الإصلاح في منطقة عين با معبد، (الخط الساحلي الذي يربط عدن بمدينة شبوة) أكثر من ثلاثين مواطناً بينهم جنود، منهم يعقوب العطري ونجيب السكري، وذلك لانتمائهم لمدينة الضالع ولموالاتهم المجلس الانتقالي، وما زال الصحافي عبد الله عوض بكير معتقلاً في سجن الاستخبارات في مدينة المكلا منذ أكثر من ثلاثة أسابيع من دون تهمة.
خلافاً لضلوع الإمارات في إدارة السجون السرية في جنوب اليمن إبّان وجودها العسكري، وتسببها بوفاة يمنيين تحت التعذيب، فإن السعودية نأت بنفسها في السنوات السابقة عن التعاطي المباشر مع معارضي وجودها في اليمن، إذ ألقت بالمسؤولية على الأجهزة الأمنية الموالية لها في المهرة، حيث اعتقلت هذه متظاهرين ضد الوجود العسكري للسعودية في المدينة. وليس حذر السعودية في التعاطي مع معارضيها في اليمن بسبب حساسيتها، بوصفها دولة متدخلة، من ارتكاب انتهاكات ضد اليمنيين، وإنما لوجود رقابة مجتمعية وإعلامية على تصرّفاتها في المناطق المحرّرة، إذ لم تخجل السلطات السعودية من اعتقال وكيل أمانة صنعاء التابع للسلطة الشرعية، عبد الكريم ثعيل، أكثر من شهر في سجونها، إلا أن احتكار السعودية إدارة الملف العسكري والأمني في الحدود اليمنية، واعتباره يندرج ضمن أمنها القومي، وتجاهلها السيادة اليمنية على الأراضي اليمنية، جعلها تسند هذا الملف إلى جهاز الاستخبارات العسكري السعودي والشرطة العسكرية، حيث تحوّل جهاز الاستخبارات إلى سلطة عليا قمعية في مناطق الحدود اليمنية، وتورّط في انتهاكات جسيمة بحق اليمنيين، إذ اعتقل مواطنين عسكريين ومدنيين، ونقلهم إلى سجون سرية تابعة له في السعودية، كما رفض مناشدات أسرهم لمعرفة مصيرهم، فضلاً عن ضلوع قيادات عسكرية سعودية في الحدود اليمنية في اغتصاب جندي يمني، بحسب شهادات موثقة. وربما يمثل اعتقال الأجهزة السعودية الناشط الإعلامي اليمني، أنس الخُليدي، في منطقة البُقع، صورة مكثفة للجرائم السعودية في الحدود اليمنية. بالإضافة إلى اعتقال أكثر من 150 يمنياً على الحدود بعد عرض قناة الجزيرة فيلم "موت على الحدود". كما اعتمدت السلطات السعودية على وسيط محلي في إخفاء الصحافي اليمني، أصيل سويد، الذي شارك في الفيلم نفسه، حيث سجن في معسكر اللواء الخامس، دعم وإسناد، التابع للمجلس الانتقالي في مدينة لحج، وتم تعذيبه شهراً.
في يمنٍ يختطفه وكلاء الحرب المحليون، يتشابه المجرمان، المحلي والأجنبي، حيث لا شيء هنا سوى تنكيل سلطات الحرب المحلية والقوى المليشياوية والقوى المتدخلة في البلاد باليمنيين وانتهاك مواطنيتهم وإخفاء الآلاف منهم وتعذيبهم، فيما يتجاهل العالم هذه الجرائم العابرة لسلطات ومليشيات وأحزاب.
* نقلا عن العربي الجديد