لم يثار موضوع شرعية الحكم في اليمن في تاريخها المعاصر مثلما حصل غداة خروج الرئيس السابق الشكلي بعد ثورة فبراير 2011 م وخاصة عند انتهاء المدة المفترضة وهي سنتين والتي اقترنت بشرط انجاز مضمون المبادرة الخليجية وليس بالضرورة المدة المقررة.
وعاد الجدل حول الفراغ السياسي وشرعية هادي عندما قدم الرئيس هادي استقالته مطلع العام 2015 إلى ان بدأت الحرب بعد بضعة أسابيع من تلك الاستقالة .
ويومذاك وغداة شن الحرب على اليمن بدأ مسلسل ارتهان شرعية الرئيس هادي في أحضان الإقليم وتحديدا في الدولة التي تنكل باليمن وغياب الشرعية عن الوطن لما يقارب ستة سنوات.
ووفق المفاهيم السياسية والقانونية الكلاسيكية لشرعية الدولة فهي باختصار التنظيم السياسي للمجتمع، التي كقاعدة عامة تنشأ على ثلاثة مقومات "الشعب، الإقليم والسيادة" هذه المقومات أساسية ينبغي توافرها في أي دولة. و لكي تستطيع أن تمارس الدولة و ضيفتها على المستوى الدولي لابد لها من الحصول على الاعتراف بوجودها من قبل أشخاص القانون الدولي. والاعتراف بحد ذاته هو إجراء قانوني من طرف واحد، بدرجة رئيسية من قبل الدول يتجسد بالتعبير الحر الصريح أو الضمني عن إراداتها بالقبول أو الموافقة على واقعة تشكل دولة جديدة، و بالتالي الاعتراف بشخصيتها الدولية.
أما الاعتراف بالحكومات يحدث عادةً عندما تأتي إلى السلطة حكومة جديدة بطرق غير دستورية . أثناء الاعتراف في مثل هذه الظروف، تأخذ الدول الأخرى بعين الاعتبار على وجه الخصوص، مدى فعالية الحكومة الجديدة و مدى تواجدها الفعلي على الأرض و مستوى فرض سلطتها في البلاد.
النوع الاستثنائي من الاعتراف يتعلق بالاعتراف بحكومة المنفى " خارج النطاق الإقليمي ". مثل هذه الحكومات بالطبع لا تقوم بالرقابة الفعلية على أراضي الدولة و قدرتها على تحمل المسؤولية الدولية محدودة، و يكون الاعتراف بها من الممكن فقط في حالة النفي القسري و الغير قانوني - في ظروف الاحتلال. و هذه الظاهرة كانت منتشرة في الحرب العالمية الثانية، حيث و جدت نفسها كلٍ من حكومات النرويج و بولندا و بلجيكا و تشيكوسلوفاكيا السابقة خارج بلدانها نتيجة احتلال ألمانيا أراضي دولها، و في نهاية القرن الماضي تكررت هذه الظاهرة أثناء احتلال العراق لدولة الكويت ونتيجة لغياب حكومة الشرعية طيلة مدة الحرب لما يقارب الست سنوات فقد حدث تدهور امني وغياب حكم القانون وفوضى الجماعات المسلحة .. الخ
ضعف الحكومة و تواجدها في الخارج و استمرار حرب بلا هدف ولا افق أدى إلى تعدد مراكز السلطة و ضيق تماماً نطاق النفوذ لما يسمى بالحكومة الشرعية و قلص من شعبيتها الضعيفة أصلاً.
و هذا ما خلق حالة شاذة في المشهد اليمني بالنسبة لقضايا شرعية السلطة و الاعتراف الدولي و زاد من تعقيد الأمور أن الحكومة اليمنية لا تتواجد في اليمن على الرغم من مزاعم تحرير نحو 85% من مساحة اليمن حسب تصريحاتها الرسمية، لكن ثلثي اليمن بيد التحالف والثلث الآخر تسيطر عليه ميشليا الحوثية ، والأسوأ من كل ذلك تكريسها لنظام الفساد و المحسوبيات و الإدارة السيئة بأبشع صورة، الذي أعلن الشعب اليمني عن رفضه المطلق.
فشل التدخل العسكري في إيجاد حل سياسي للأزمة اليمنية يكمن بدرجة رئيسية في غياب مشروع بناء الدولة الديمقراطية من بين أهدافه و الذي أصبح مطلباً شعبياً و موضوعياً، ونتيجة ضعف سلطة الشرعية و عدم تأييد الشعب اليمني لأي طرف من أطراف الصراع. و لا تقل أهمية في هذا الاتجاه المنافع الشخصية و الموارد المالية التي تجنيها أطراف الصراع من استمرارية.
وبداهة فأن مشروع بناء الدولة الديمقراطية هو المخرج الوحيد من الأزمة على هذا الصعيد، و هذا ما يؤكده فشل الحراك الانفصالي في إعلان دولة الجنوب على الرغم من توفر تقريباً جميع المقومات بما في ذلك الدعم المادي و العسكري و السياسي من قبل الأمارات العربية المتحدة.
اللافت ان كل طرف في النزاع اليمني يقدم نفسه باعتباره السلطة الشرعية الوحيدة، مفنداً مزاعم الآخرين من أجل الحصول على غطاء أخلاقي وقانوني وكسب المزيد من الدعم. هادي والسعوديون، من جهة، وسموا هذه الحرب بأنها "معركة الشرعية" لاستعادة المؤسسات الدولة التي استولى عليها الحوثيون في عام 2014. في المقابل، يصف الحوثيون شرعيتهم أنها "شرعية ثورية" في مواجهة عدوان التحالف الذي تقوده السعودية، مع ان مفردة " العدوان لم تكن واقعا الا بعد بضعة أشهر من سقوط صنعاء، ويعتبر المجلس الانتقالي الجنوبي شرعيته مستمدة من استعادة دولة الجنوب العربي.
وباعتباره رئيساً معترفاً به دولياً فقد أعطي ذلك الرئيس هادي السلطة بموجب القانون الدولي، المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، للدعوة إلى تدخل عسكري أجنبي. ومع ذلك، فإن الاعتراف الدولي ليس شيكا على بياض. دون وضع ضوابط وحتى وأن اتت لاحقة بعد بداء الحرب فتصحيح مسار التحالف كان يفترض في الأشهر الأولى للحرب.
المتابع للأزمة منذ بدايتها وحتى اليوم، يلاحظ تراجع واضح في الدعم الدولي مع تراجع شرعية الحكومة في الداخل وعدم قدرتها على حسم الصراع.
تجدر الإشارة هنا إلى أن النقد القانوني للحكومة المعترف بها دولياً لا يعزز بأي حال من الأحوال شرعية سلطة الأمر الواقع للحوثيين في صنعاء، ولا شرعية المجلس الانتقالي الجنوبي .
فالراصد ليوميات الحرب في اليمن لما يقارب ستة سنوات يتضح جلياً بأن الورقة القوية بيد طرفي الانقلاب لا تكمن قوتهم في شعبية ما فتلك أوهام فمصدر قوتهم هو ضعف الشرعية ذاتها التي تصر بغباء على البقاء في السعودية وما يحمل ذلك من دلالات كبيرة ليس فقط باعتباره البلد الذي ينطلق منه عملية تدمير اليمن والتنكيل به تحت لافتة استعادة الشرعية ولكنه مؤشر بأن هذه ( الشرعية) غير متواجدة في ملعبها الطبيعي وهو الوطن فمن عناصر الدولة الى جانب الاعتراف والأرض والسيادة هو البقاء داخل الوطن فهذه تعدى دور القوات الإماراتية في جزيرة سقطرى "مهمة الدفاع عن الشرعية والتصدي للانقلاب الحوثي" في إطار التحالف العربي، إلى محاولة لبسط النفوذ على الجزيرة الإستراتيجية.
وهو الأمر نفسه للطرف الرئيسي في التحالف السعودية التي أخرجت القوات اليمنية من الجزيرة على أساس ان تبقى السعودية والتي انسحبت بدورها لصالح الانقلابيين الانتقالي والذين هم مجرد غطاء والكلمة العليا هي للإمارات وكذلك في الساحل الغربي وكل المواني في حين تبسط السعودية نفوذها في أماكن أخرى.
اللافت ان شرعية الرئيس هادي المرتهنة لا تحرك ساكناً تجاه انحراف التحالف عن الأهداف المعلنة وكما أخرجت قطر من التحالف يفترض نظريا نفس الإجراء للإمارات ومع ذلك تقف حكومة هادي موقف المتفرج.
ولتأكيد فشل شرعية هادي الأسيرة بمحض إرادتها عندما تقارب بأداء ودور الشرعية الليبية القابعة داخل أراضيها ولم تختار الإقامة في استنبول او الدوحة ، ولهذا فخياراتها متعددة بإرادة وثقة وكسبت جماهيرها ، كما انها تتعامل مع الطرف المتمرد كمجرم حرب وليس لاحتواء أي حركة تمرد وشرعنتها كما فعل غداة سقوط صنعاء باتفاق السلم والشراكة او مع الانتقالي باتفاق الرياض، وغدت شرعية الرئيس هادي مجرد مظلة قانونية لشرعنة التحالف من خلال تنازلاتها المتواصلة سوى لطرفي الانقلاب في صنعاء وعدن ، او لأطراف اقليمية أي طرفي التحالف طالما هي مرتهنة ولا تسيطر على ما سمى بالمناطق المحررة.
وبداهة فالشرعية كشعار فضفاض لا يكفي لخلق صورة إيجابية عن محاسن الشرعية المفترضة فهي لا تؤمن خائف ولا تطعم جائع ولا تكسي عاري بل إنها وعلى النحو الذي سارت طيلة الحرب قوِةّ من شوكة الطرف الآخر ، والشرعية على هذا النحو ليس مرحباً بها بأي حال من الأحوال إلا من قبل الانتهازيين والوصوليين.
حيرة القوى اليمنية المرتهنة والعميلة ومن ورائها التحالف بجناحيه السعودية والتحالف هي البحث عن مخرج سياسي في تسوية شاملة تخرج التحالف من مأزق ومستنقع الحرب في اليمن متوازيا مع حلول ومخرج قانوني في قيادة الدولة الصف الاول الرئيس ونائبة والحكومة والبرلمان ودور هذه المؤسسات الدستورية في سيناريو الحلول المفترضة وفق كل هذه المسوغات تساؤل كبير يفرض نفسه .. شرعية هادي الى اين واستمراره غدا محصورا فقط في خدمة أجنده إقليمية ولمصلحة للتحالف و لتجذِر انقلاب صنعاء وعدن !
إجمالاً يمكن تلخيص عوامل تآكل الحكومة الشرعية ودور التحالف في صناعته في التالي :
عندما منعت الشرعية للعودة لعدن غداة اخراج قوات انقلاب الحوثي صالح ، وتحديدا أبو ظبي الذي باتت تنافس الحكومة الشرعية في بسط نفوذها على المدن المحررة.
تمثل ذلك في عدم عودة الحكومة الشرعية إلى الداخل ، - عدم تمكن الحكومة السيطرة على الإيرادات ، تناسل المؤسسات الموازية والميليشيات المسلحة ، تعاظم نفوذ الحوثيين ، التدخلات الخارجية ضمن التحالف العربي ، اضطهاد الحكومة وحلفائها، وخرج عن الاهداف المعلنة بدايات الحرب تحت مسوغ استعادة الشرعية تحول لعداء علني وخفي والعداء العلني والخفي لليمن حكومة شرعية ومكونات سياسية وشعباً ، ومع ذلك لا تحرك الشرعية ساكن وتتعامل مع تنكيل التحالف وكأنه قدر مكتوب على اليمن في حال لم تقطع بلادنا علاقتها مع الإمارات وتخرجها من التحالف وتبلغ الأمم المتحدة بذلك فأن دورها سيتعاظم في الأسابيع والأشهر المقبلة سوى في الشمال او الجنوب وخاصة محافظة تعز والساحل الغربي .
ورغم هذا لا زالت حكومة الشرعية تملك أوراق قوة وبجرة قلم تخرج الإمارات على الاقل ولن نقول السعودية كما فعلت مع قطر وهذا يؤكد بأن قرار إخراج قطر الذي وقعه هادي لم يكن بإرادته ولكن أوعزوا له بسبب الخلافات البينية بين دول الحصار وقطر ، وألان إعلام هذه الدول تنسب كل مشاكل الجنوب لدور قطري وتركي وكأن هذه الدولتان لديه ميلشيا مكونة من مأتين الف وتدفع الملايين وتنكل بعدن وتجعل منها قرية نائية.
إذا استمر تهافت سلطة الحوثي في صنعاء بإسقاط مارب مستغلة هدوء الجبهات وحياد التحالف في أفضل الأحوال ان لم يكن متآمر ، فأن مأرب بيضة القبان ستسقط حتماً وربما يتزامن ذلك بسقوط شبوه من قبل الانتقالي وكلا المحافظتين غنية بالنفط ، وسيكون لذلك الحدث المفترض ما بعده ، وربما بعد أسابيع او اشهر قليلة ، ولا يأتي الذكرى السادسة للحرب الا وقد تم ذلك ، وسيكون مخرج للتحالف ونهاية درامية لهذه الحرب العبثية وتطوى صفحة الشرعية او هيكلتها بصورة اسوا على مما هي عليه كي تستعد لمفاوضات الحل النهائي ليمن مشرذم غير متجانس ولحرب تلد أخرى.
* كاتب وسفير في الخارجية اليمنية
*مقال خاص بالموقع بوست.