تأملات في العشرية الأولى لثورة 11 فبراير اليمنية
الاربعاء, 10 فبراير, 2021 - 05:38 مساءً

تحل علينا الذكرى العاشرة لتَفجُّر ثورات الربيع العربي التي انطلقت من تونس الخضراء 17 ديسمبر/كانون الأول مروراً بطرابلس والقاهرة، فدمشق، وصولاً إلى صنعاء في 11 فبراير/شباط.
 
تلك المدينة التي كانت تغفو على بركان من القلق والفوضى، و ما إن استنشقت صنعاء رياح الربيع العربي حتى تفجرت ثورة سلمية حضارية أذهلت الجميع، حتى أبناءها الذين كانوا يرون أن عوائق وتحديات كبيرة ستقف أمام قيام ثورة في اليمن، وفي مقدمتها غلبت الطابع غير المدني على المجتمع، ووفرة السلاح وزبانيته النظام الحاكم وتعقيدات مصالحه، فضلاً عن المحيط الإقليمي الخليجي الذي يقف حائلاً أمام أي محاولة انتقال سياسي في المنطقة العربية واليمن تحديداً.
 
واليوم، الوقوف والتأمل على بُعد عشر سنوات من لحظة تفجر الثورة اليمنية الفبرايرية 2011 ربما يجعلنا أقدر على التقييم.
 
وككل ثورة، توجد مجموعة أسئلة نبحثُ لها عن إجابات، وهي: لماذا تفجرت هذه الثورة؟ ولم تعثرت رغم كل التضحيات ورغم تلك الصورة المدنية الحضارية السلمية التي رافقتها وسجلتها؟ ولماذا هذا المآل الذي آلت إليه الثورة؟ (وهو مآل الحرب الطاحنة) وكيف اختُطفت؟ ولماذا اختفى الثوار الحقيقيون من مشهد الثورة؟ وهل ساهم المشهد العربي العام بعد الربيع العربي بما آلت إليه الثورة اليمنية؟ وهل يمكننا القول إن الثورة اليمنية لا تزال حاضرة اليوم وتبحث لها عن لحظة مناسبة لاستئناف تحقيق أهدافها وإن العشرية الأولى هذه ليست سوى محطة أولى لهذه الثورة كما فعلت ثورة فبراير/شباط 1948 التي أجهضت لتنفجر تالياً ثورة أخرى في 26 سبتمبر/أيلول 1962؟
 
بواعث الثورة وأهدافها
 
 جاء إعلان قيام الجمهورية اليمنية بعد إعادة توحيد اليمن صبيحة 22 مايو/أيار 1990، ومنذ ذلك الحين حتى قيام ثورة 11 فبراير/شباط واليمن محكوم من قبل نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح الذي أزاحته ثورة فبراير/شباط، وكرمته بحصانة مثلت له مظلة نجاة من العقاب تمكَّن بها من إعادة تموضعه بالتحالف مع مليشيات جماعة الحوثي وتسليمها مقاليد الأمور العسكرية ومفتاح شبكة مصالحه الاجتماعية والقبلية، مما مكنها لاحقاً من الانقلاب على سلطة الرئيس هادي وإسقاطها للنظام الجمهوري بعد ما يقارب نصف قرن من قيام الجمهورية، لتطوي بذلك تالياً حتى صفحة صالح نفسه الذي مكنها من الانقلاب.
 
يبقى الهدف الأساسي الذي قامت ثورة فبراير/شباط من أجله هو محاولة تصحيح مسار ثورتَي سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول، اللتين جرى إفراغهما من مضامينهما السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بخاصة وقد رأى اليمنيون أن جمهوريتهم مهددة بالتوريث وتحويلها إلى نظام "جُملكي" بسعي صالح حينها لتوريث الرئاسة لابنه أحمد كما كان ينوي مبارك والقذافي ويخططان له وسبقهما حافظ الأسد بذلك.
 
صحيح أن مخافة توريث الحكم كانت واحدة من الأسباب الرئيسية للربيع العربي لكنه لم يكن الدافع الرئيسي الوحيد، فقد كان اليمن ككل دول ثورات الربيع العربي يعيش وضعاً هشاً اقتصادياً وأمنياً، مع ازدياد مخالب القبضة الأمنية القمعية على كل معارض لهذه الأنظمة، فضلاً عن الجيوش التي تقذف بهم الجامعات والمعاهد سنوياً إلى أرصفة البطالة المكدسة.
 
كانت هذه أبرز الأسباب التي دفعت إلى انفجار بركان الربيع العربي الذي رفع شعاراً صارخاً في وجه تلك الأنظمة “ارحل"، مطالبة من خلال هذا الشعار بحقوقها القانونية والدستورية المشروعة بالحرية والعيش الكريم، وحقها بصناعة السياسة والقرار من خلال الديمقراطية وصناديقها الانتخابية، فلم تكن المسألة مجرد البحث عن لقمة عيش فحسب وإنما حياة كريمة مكتملة الأركان، حرية وكرامة وديمقراطية.
 
الثورة وحسن النوايا القاتلة
 
 انفجرت ثورة فبراير/شباط اليمنية بداية كثورة طلابية شبابية بامتياز، فندفع طلاب الجامعات بتعز وصنعاء وعدن إلى الشوارع عشية تنحي الرئيس المصري حسني مبارك عن الحكم بمصر، مطالبين برحيل الرئيس اليمني صالح، وفي اليوم التالي خرج طلاب جامعة صنعاء مع بعض الناشطين السياسيين والصحفيين، وإن كانوا قد خرجوا قبلها أمام السفارة التونسية صبيحة هروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي.
 
اندفاع الشباب اليمني إلى ميادين الثورة بتلك الطريقة أجبر الأحزاب السياسة بعد أيام على النزول إلى الساحات، بخاصة أحزاب ما سُمي اللقاء المشترك المعارض، تلك الأحزاب التي التحقت بالثورة وقفزت في ظل الفراغ القيادي للشباب وقلة الخبرة السياسية للثوار، إلى مقدمة الفعل الثوري والسياسي، فإذا بها تدريجياً تسحب بساط الفعل الثوري من تحت أقدام الثوار وتتحكم بالفعل الثوري الذي دجنته وحولته إلى أزمة سياسية تبحث لها عن حلول سياسية قابلة للمناورة والأخذ والرد.
 
وحينما تحولت الثورة من قبل الأحزاب السياسية إلى مجرد أزمة سياسية، وهو ما كانت تسعى إليه كل القوى الخارجية وتجلى بشكل واضح بما سمي بالمبادرة الخليجية في 3 إبريل/نيسان 2011 التي تقدمت بها دول الخليج وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، ومن خلال هذه المبادرة التي عدلت أكثر من مرة جرت إهالة التراب على المشهد والفعل الثوري اليمني تماماً، فسارعت الأمم المتحدة إلى التدخل، وهي صاحبة تجربة كبيرة في إدارة الأزمات وتمييعها ودفنها وهذا ما حصل في الحالة اليمنية تماماً.
 
 وهكذا تحولت الثورة اليمنية من فعل ثوري يسعى لاجتثاث النظام إلى أزمة سياسية بين النظام السياسي الحاكم وبين هذه الأحزاب السياسية التي سحبت البساط من تحت أقدام الثوار، ودجنتهم في الساحات الثورية، ومضت نحو تسوية سياسية تكللت بالمبادرة الخليجية، التي نصت على تقديم الرئيس السابق علي عبد الله صالح استقالته وتنازله عن الرئاسة لنائبه مقابل حصانة قانونية يصدق عليها البرلمان، فضلاً عن حكومة مناصفة بين أحزاب اللقاء المشترك والمؤتمر الشعبي الحاكم حزب الرئيس صالح، وهكذا جرى إفراغ الثورة من مضمونها ثم تدجين الثوار حاملي الأحلام العريضة وحُسن النوايا القاتلة.
 
فبراير/شباط ثورة اليمن المختطفة
 
 كما أسلفنا بالحديث عن الاختطاف السياسي للثورة اليمنية من قِبل الإقليم وتواطؤ الأحزاب اليمنية والمجتمع الدولي ككل من خلال الأمم المتحدة، فكل هذا صب في صالح المشروع الإيراني ومليشياته التي انخرطت بالعملية التفاوضية على الرغم من رفضها المبادرة الخليجية، لكنها دخلت ضمن مؤتمر الحوار الوطني بلا قيد أو شرط، وهي جماعة مسلحة متمردة، مع رفضها للمبادرة التي تمخض عنها الحوار الوطني، فرتبت جماعة الحوثي نفسها على مسارين: مسار للتفاوض والانخراط في الحوار الوطني المرعي أُممياً  الذي  شرعنت من خلاله وجودها السياسي، ومسار الحرب واقتطاع محافظات البلاد واحدة تلو أخرى بسلاح المليشيات وعنفها.
 
لم يكن بإمكان مليشيات الحوثي المدعومة إيرانياً أن تختطف ثمرة ثورة فبراير/شباط بتلك السهولة وتنقض على عاصمة البلاد بتلك الصورة الكاريكاتورية لولا حالة الفراغ الكبير الذي خيم على المشهد الثوري اليمني منذ لحظة البداية، ذلك الفراغ الناتج عن الضبابية الثورية وغياب الرؤية والتصور الكامل للثورة وما بعدها وما قبلها، وهو الفراغ الذي ملأته المليشيات الإيرانية بسلاحها وعنفها، وقطفت لحظة النهاية بإسقاط البلاد والانقلاب على دولتها وجمهوريتها ودستورها.
 
وضع كهذا كان نتيجة طبيعية لحالة الارتباك والفراغ الثوري، لثوار يمتلكون أحلاما كبيرة لكنهم بلا أدوات، وهذا ما دفع البلاد بعد ذلك إلى حالة من الضياع والسقوط بتلك الطريقة الدرامية التي للأسف شاركت في إسقاطها قوى وأحزاب سياسية كبيرة في لحظة عمى أيديولوجي وتصورات عدمية مدفوعة بالمناكافات وتصفية الحسابات السياسية على حساب الوطن وأمنه واستقراره ونظامه الجمهوري ووحدة أراضيه.
 
وهكذا تمكن المختطفون من تحقيق هدفهم، بعد ضرب قوى الثورة بعضها ببعض واستقطاب بعضها الآخر وتورط الإقليم بالاستقطابات وتصفيات حسابات عقيمة مع ثورات الربيع العربي ككل، بهذه الصورة العدمية سياسياً التي هدفت إلى الانتقام من هذا الجيل الذي فكر بأن يثور  لكسر قيوده الآسرة قيود الظلم والاستبداد عن كاهله المرهق بكل صنوف المعاناة وأشدها قسوة، لتسخر دول الثورة المضادة كل إمكانياتها لمواجهة ثورات الحرية والكرامة العربية، لملشنة مجتمعات الثورة وتمكين هذه المليشيات من مقدرات هذه البلدان وتسليمها زمام الأمور في ليبيا واليمن تحديداً، والانقلابات العسكرية في بعضها الآخر.
 
الثورة والثورة المضادة في مترس واحد
 
 أبهرت الثورة اليمنية بسلميتها ومدنيتها العالم كله، بخروج اليمنيين في كل ميادين اليمن سلمياً مطالبين برحيل النظام. خرجت القبائل اليمنية لأول مرة وقد ألقت بسلاحها جانباً، وخرجت المرأة اليمنية كأقوى خروج للمرأة من كل عواصم الثورات العربية. خرج المجتمع اليمني كله بصورة سلمية مدنية حضارية لإعادة صياغة عقد اجتماعي جديد لدولة يمنية مدنية ديمقراطية جمهورية في محيط ملكي يملأه الشك والريبة من كل صوت ينادي بالحرية والعدالة والكرامة.
 
لمواجهة كل هذا التدفق الحضاري لليمن عمدت عواصم الثورة المضادة إلى التفاهم مع المليشيات الحوثية ودفعها بلعبة تصفية الحسابات، لضرب قوى ثورة 11 فبراير/شباط السلمية، وكل ذلك تحت اسم التخلص من الإخوان المسلمين، كذريعة لإسقاط اليمن ووقف مسار تحوله الديمقراطي وانتقاله السياسي الجنيني حينها.
 
وهكذا وجدت إيران فرصتها وضالتها في عمى عواصم الخليج أو سوء تقديرها لخطورة لعبتهم مع المليشيات تلك، إذ ظنوا أنهم سيستخدمون جماعة الحوثي للقضاء على ثورة فبراير/شباط ثم إسلاميي اليمن ممثلين بالتجمع اليمني للإصلاح، لكن الأمر كان أبعد من ذلك بكثير إذ وجدت المليشيات فرصتها للانقضاض على اليمن كله.


وبعد انكشاف المخطط وخروج جماعة الحوثي عن الاتفاق المرسوم لها، سعودياً وإماراتياً، أدركوا (أي السعودية والإمارات) أنهم وقعوا بخطأ كبير، فذهبوا إلى تشكيل ما سُمي بالتحالف العربي لمواجهة جماعة الحوثي التي دعموها منذ البداية ودفعوا بها إلى الانقلاب على الدولة اليمنية وشرعيتها الجديدة، وهكذا وجدت قوى الثورة نفسها مرة أخرى في خندق واحد مع قوى الثورة المضادة في خصوصية يمنية فريدة من نوعها، ومع ذلك مضت الحرب ربما بمنعطفات عدة لتعود اليوم قوى الثورة المضادة مجدداً إلى مشروعها الأول وهو مشروع تمكين المليشيات على حساب شرعية اليمنيين. الثورة والحرب والمستقبل يدرك الجميع اليوم تعقيدات الوضع في اليمن وكيف تناسلت الحرب حروباً أخرى، حرب تلد أخرى، هذا المشهد الأكثر سوداوية حتما يحمل في أحشائه نافذة ضوء للمستقبل، فالحروب هي حالات استثنائية في حياة الشعوب والأمم، والسلام دائماً هو الحالة الطبيعية، على الرغم من أن حجم التضحيات كبير وباهظ التي يقدمها اليمنيون اليوم لاستعادة دولتهم وجمهوريتهم ووحدتهم، تضحيات ينبغي أن تكون نتيجتها تليق بها، دولة تليق باليمن وتضحيات أبنائه. ومن هنا، بعد عشر سنوات أعتقد أنها كافية لاستخلاص الدروس والعبر سيفهم الثوار أنهم فشلوا بصنع بديل للنظام الذي خرجوا لإسقاطه. باعتقادي أن عشر سنوات كافية وكفيلة بإعداد جيل كامل من القيادات المؤهلة القادرة على إدارة معركة التحرير ثم معركة بناء الدولة المنشودة، قيادات جديدة عقولها مفتوحة ومنفتحة نحو المستقبل لا تنظر إلى الماضي إلا لاستخلاص الدروس فقط لا للبكاء على الأطلال. فالحروب كما هي عند هيجل وابن خلدون متلازمة تاريخية لوجود الإنسان وقيام الدول، فهي ليست كلها شرّاً مطلقاً، فمن رحم الحروب تولد فكرة أهمية وجود الدول والنظام والقانون في حياة الشعوب والأمم، وأن هذه الحرب تساهم في تعزيز فكرة حضور الدولة وقداستها في اللا شعور المجتمعي والتاريخي، باعتبار الدولة ضمان الأمن والاستقرار، متى توافر لهذه الحروب والدول قادتها وأبطالها المخلصون. لكن هذه القيادات التي تنتظرها اليمن اليوم كمخلص لها من هذه الوهدة السحيقة التي وصلت إليها بفعل نخبها الحاكمة، تلك النخب التي باعت شرفها وكرامتها ودنسته بالمال السياسي، وعليها اليوم الاعتراف بالفشل والإخفاق، ومن ثم إفساح المجال لغيرها ليتحمل مسؤولية إنقاذ اليمن مما أصابه، ولن يتأتى ذلك إلا بالتجرد من حظوظ الذات والاستقطابات الخارجية والارتهان للمال السياسي الذي صنع كل هذه الفوضى والخراب ومكَّن بذلك لكل مشاريع ما قبل الدولة الوطنية.

*نقلاً عن موقع TRt عربي

التعليقات