في بلداننا تتحكم في الصراعات إجمالاً، ومنها الدينية، مراكزُ القوى العالمية التي تتقاسم فيها النفوذ؛ ولهذا فإن كثيرا من دول العالم الثالث لم تصبح دولا بعدُ، وقد لا تصبح كذلك في المدى المتوسط، وربما حتى على المدى البعيد، لأنها عبارة عن كيانات متناقضة أقرب ما تكون إلى "خلايا نائمة".
ويشري الأمر نفسه على جيوشها، التي تفتقر الى الاستقلالية التامة ولا تمتلك الصلاحية الكاملة في التحرك حتى في القضايا التي تمسّ أمنها، رغم أن هذه الجيوش تلتهم معظم ميزانيات بلدانها، إلى درجة جعلت هذه البلدان الأكثرَ فساداً بين دول العالم، إذ تستنزف ثروات بعضها بعض بناءً على رغبات الدول الكبرى.
نحن مُسيَّرون في كل شيء، حتى في صراعاتنا الدينية وغير الدينية؛ فالدول النافذة هي التي ترسم لأوطاننا خطوط السير وتضع الملامح التي تريدها لكل مرحلة من المراحل التي تمر بها بلداننا ونتأثر بها نحن، وتضع عليها اللمسات والخطوط العريضة التي تريد. كما تُحدّد سقف الخطابات الإعلامية وكيفية تداولها في وسائل الإعلام، والتحكم في إيقاعاتها في مختلف الأوساط، قبل أن تقوم وسائل إعلامنا "المطيعة" بترديدها على مسامعنا آناءَ الليل وأطراف النهار.
بمجموعة من الشعارات لا أكثر، يتم تدمير الأوطان، تلك الشعارات التي تمثل الفراغ بذاته، بينما مردّدوها هم من يشغلون ذلك الفراغ شكلاً، ويدفع ثمنَه جميع الدائرين في فلكه، من متعصّبين ومعارضين، جميعهم يدورون في حلقة مفرغة نواتُها الجهل، والضحية وطن غارق في الجمود ومواطن غارق في كتب التاريخ وتائه في الجغرافيا، إلى درجة أنها أفقدته بريقه حتى أصبح جزءا من "منظومة" الفشل.
حتى بمعايير هذا العصر لا يعدّ ما ترتكبه مراكز القوى العالمية صادماً بقدر ما يفعله أبناء الوطن الواحد بأنفسهم، وماترتب عليه من تجاوزات من قبل الكثير من الدول التي لم تكن لتتجاوز -مهما بلغت من عداوة- الخطوط الحمراء المتعارَفَ عليها من منظور القيم والأخلاق والأعراف، ومن ثم الدين. لذلك كان لزاما على الجميع التصدّي للغريب الجاهل الذي ينهش البلاد من الداخل، قبل البحث عمن يرأف بهم من خلف الحدود...
إنّ مشروع الدولة المدنية، في أي مكان، لا يمكن أن يتضح من خلال التسليم بأحقية فئة بعينها في كل شيء، أي أن الانتماء المذهبي أو العشائري أو القبلي، بما يعجّ به من جهل، لم يكن هو المعيار الوحيد للحكم على شخص أو تكتّل بالنجاح أو الفشل، لا سيما إذا كانوا هم من وسموا أنفسهم بالزهد والصلاح، ومن ثم التكالب على خصومهم، و طردهم من رحمة السلطة وإجبارهم على شد الرحال خارج أسوارها.
ليس من حقنا انتقاد موجة الحداثة لأننا أوهن من مواجهة تياراتها اضافة الى اننا نعيش في عصر العولمة، وهذا الأمر يصعب علينا الفرار منه بحكم أننا اليوم الحلقةُ الأضعف، وقد اندمجنا مع العولمة ولكنْ بالطريقة الخطأ. كما أن نظرتنا إلى العلمانية على أنها كفر بوّاح نظرة قاصرة وتشوبها الكثير من الشّوائب، بحكم أنا نطبّقها مُكرَهين رغم تجاهلنا لذلك؛ وهُنا الخلل.. فلماذا نأبى الاعتراف بأننا مُسيَّرون من قِبل صناع القرار العالمي ولسنا مُخيَّرين؟!
نحن أمام حاضر مشوّه، في جعبة القائمين عليه ما يكفي من الجهل لزرع المزيد من الأمراض الاجتماعية، من عنصرية ودجل وتضليل.. وهذه من الأمور التي إذا ما اجتمعت في أمة دمّرتها، بوصفها أسوأ مخلفات السياسية وإفرازات صراعاتها القذرة.