نوفمبر.. من الانقلاب إلى الاستقلال!!
السبت, 26 نوفمبر, 2022 - 01:08 مساءً

لا يحضر شهر نوفمبر/ تشرين ثاني في ذاكرة المشتغلين بقضايا تاريخ اليمن المعاصر إلاَّ وتحضر معه الكثير من الأحداث الحيوية التي غيّرت وجه اليمن تقريباً، ففيه حدث انقلاب الخامس من نوفمبر 1967م، الذي تمكّن فيه التيار المحافظ في الصف الجمهوري القريب من السعودية من إزاحة الرئيس السلال والقريبين منه.
 
ظروف كثيرة مهّدت للانقلاب - يوصف أيضاً من مناصريه بالحركة - منها انسحاب القوات المصرية من اليمن بعد نكسة حزيران، وظهور التأثير السعودي القوي في الملف اليمني، الذي تجسّد في مقررات مؤتمر الخرطوم (أغسطس 1967)، بتشكيل اللجنة الثلاثية، التي تبنَّت وبشكل فجّ الموقف السعودي لحل القضية اليمنية، مما حدا بمناهضي مقررات المؤتمر إلى إخراج مظاهرات كبيرة ضد تواجد اللجنة في صنعاء، وما أعقب ذلك من أحداث أضعفت تيار السلال، بعد أن تخلَّى عنه المصريون، بتحميله مسؤولية الأحداث التي راح ضحيتها مصريون عُزل في شوارع صنعاء في 3 أكتوبر 1967.
 
في الذكرى السنوية الأولى لانقلاب نوفمبر (5 نوفمبر 1968)، انضم إلى الصف الجمهوري واحد من أبرز القيادات الميدانية للقوات الملكية (قاسم منصر)، الذي ارتبط اسمه طيلة فترة حصار صنعاء بالمقذوفات الصاروخية التي كانت تصل إلى أحيائها السكنية وأسواقها من المواقع التي تتمركز فيه قواته العسكرية، وراح ضحيتها عشرات المدنيين.
 
الأهمية، التي شكّلها انضمام منصر إلى السلطة الحاكمة، أن القوات التي كانت تدين بالولاء له كانت تشكّل ثلث القوات الملكية، وقال القاضي الإرياني -في الجزء الثالث من مذكرات الرئيس القاضي:
 
"وكان لدخوله ودخول العديد من القبائل الأخرى إلى صنعاء موالية للجمهورية صدى كبير، كان له أثره في موقف السعودية، إذ عرفت أن القبائل اليمنية ليست مخلصة للملكية، وأنها إنما تحارب من أجل الذَّهب، حرباً تكفل لها الاستمرار في هذا المجال الذي يمثل المرفق المربح للارتزاق"، ص 15.. وتمت تصفيته في منطقته بني حشيش، التي ينتمي إليها في أواخر العام 1969.
 
بعد يوم واحد من الانقلاب في صنعاء، شهدت شوارع عدن (في 6 نوفمبر 1967) اقتتالا داميا بين أنصار الجبهتين (القومية والتحرير) في الأمتار الأخيرة لموعد الاستقلال، وفي معارك هذا اليوم استطاعت الجبهة القومية أن تفرض سيطرتها على الأرض، وهو ما مكَّنها أن تصير الطرف المفاوض الرئيس في جنيف على استقلال الجنوب.
 
وقد كانت السيطرة على عدن هي مرحلة لاحقة من سيطرة أنصارها على أغلب السلطنات والمشيخات في المحميات الشرقية والغربية.
 
سال حبر كثير حول تنسيق بريطاني مع الجبهة القومية لتسليمها الحكم، نكاية بجبهة التحرير التي كانت قريبة من نظام عبد الناصر، وهو أمر بقي في نطاق القراءات المعارضة للقومية، غير أن قوة الجبهة على الأرض وتأثيرها القوي في مجتمعات الريف والحضر هما اللذان قاداها لتكون في هذا الموضع، وتعيد رسم سياسات البلد المستقل لاحقاً بمنزع الفصيل اليساري الأقوى فيها. 
 
في الثالث والعشرين من نوفمبر 1965، بدأت في مدينة حرض، شمال الحديدة، أعمال مؤتمر السلام بين الجمهوريين والملكيين، بحسب مقررات اتفاقية جدة، الموقَّعة بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر والملك السعودي فيصل بن عبد العزيز، في أغسطس 1965، بشأن القضية اليمنية، غير أن هذا المؤتمر انتهى بعد أيام من اللقاءات دون أن يصل الفرقاء إلى أي نوع من التفاهمات حول لائحة تنظيم المؤتمر، وشكل الدولة المرتقبة وتسميتها، وكذا تشكيل الحكومة، بعد أن تمسَّك الوفد الجمهوري باستبعاد مشاركة أي شخص ينتمي لبيت حميد الدين إلى جانب عدم مساومته بالنظام الجمهوري، ورأى أن أي تسوية سياسية مع الملكيين ينبغي أن تتم تحت هذا السقف.. التشكك الملكي من المنشقين الجمهوريين (رموز مؤتمر الطائف)، ومُثلوا على قائمتها بموجب الاتفاقية، كان أيضاً سبباً في تعنّت الموقف الملكي الذي تدعمه السعودية.. إصرار الملكيين على التعيينات المذهبية لأعضاء الوفدين كان أيضاً ذا تأثير حساس، فأرادت توصيل رسالة مفادها أن الشوافع - أغلبية الوفد الجمهوري - هم أصحاب مشروع الجمهورية، وأن الزيود - الذين رُفع تمثيلهم في الوفد الملكي خارج الاتفاق وتقليص الشوافع فيه - هم من يتبنّون فكرة الدولة الإسلامية كحل وسط بين النظامين، وهي الرغبة السعودية الأولى لحل المشكلة.
 
أيضاً استمرار الوفد الملكي باستبدال شخصيات المتحاورين من أسماء خارج القوائم، يتم استدعاؤها من خارج حرض، كان أيضاً محل خلافات دائمة.
 
جاء في كتاب "مؤتمر حرض"، لعبد الله الحسني 1966م - كتاب يتبنّى وجهة النظر الملكية- (*): "المنشقون لم يكونوا مخلصين في انشقاقهم، وإمكانياتهم الذهنية والوطنية لا تخوّل لهم تفهم الأحداث، والارتفاع إلى مستواها، ونبذ الأغراض والأطماع والأوهام" ص 8... تفعل المذهبية فعلها عند الجمهوريين، فالشوافع منهم لهم قضية خاصة، ويرون أنهم لا يزالون مضطهدين وأن "الثورة"، وإن كانت قد أزالت الحاكم الزيدي المتسامي، الممثل في ابن حميد الدين، فقد أبدلته بحاكم زيدي جائر  يتمثل في خادم ابن حميد الدين، وعسكري ابن حميد الدين.
 
والزيود من الجمهوريين يرون أن فئة الضباط قد سيطرت بواسطة الحديد والنار، والتأييد المصري على الحكم، ونفت عنه كل مقوِّمات السلطة التقليدية، فأصبحوا حائرين بين الثورة على الثورة، وفي ذلك القضاء على الجمهورية، وعودة ابن حميد الدين، أو الصبر، ص 9. في 28 نوفمبر 1972م - قبل نصف قرن من وقتنا هذا - رعت ليبيا اتفاقاً بين شطري اليمن، عرف في الأدبيات السياسية بـ بيان طرابلس، تتويجاً لجهود دبلوماسية عربية نشطة لوقف احتراب الشطرين، والتأسيس لخطوات وحدوية بينهما في ظل نظامين متباينين سياسياً واقتصادياً.. سبق هذا الاعلان اتفاقية القاهرة التي رعتها الجامعة العربية قبل ذلك بشهر واحد - 28 أكتوبر 1972م- ووقَّعها رئيسا وزراء الشطرين (محسن العيني وعلي ناصر محمد)، ومهَّدت بنودها للتوقيع على بيان طرابلس التفصيلي، الذي وُقع من قِبل الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني، والرئيس سالم ربيّع علي. الاتفاقية والبيان شكلا احتواء لحالة التقاتل بين الشطرين التي شهدتها منطقتا قعطبة والراهدة الحدوديتان، في مطلع أكتوبر من العام ذاته، بسبب الاحتقانات السياسية والعسكرية الشديدة بين النظامين، وسرَّع في تفجّرها الكبير حادثة تصفية 65 شيخاً وواجهة قبلية من منطقة خولان، اُستدرجوا إلى منطقة بيحان في شبوة قبل أن يتم تفخيخ الخيمة التي استضيفوا فيها في فبراير 1972. لم تخفِ القيادات الجنوبية عملية تصفيتهم بعد أن وصفتهم بالملكيين المتآمرين على النظام الجمهوري، وأنهم جاؤوا كمرتزقة للتنسيق للعمل ضد حكومة صنعاء، بعد أن تخلّت عنهم السعودية.
 
وفي التاريخ ذاته، لكن قبل خمسة وخمسين عاماً، في 28 نوفمبر 1967م بدأت عملية حصار العاصمة صنعاء من قِبل القوات الملكية، وقطع الطرقات الحيوية الموصلة إليها (طريقي الحديدة وتعز)، ولم تكتفِ بذلك بل قامت قواتها المتمركزة في الجبال الإستراتيجية المحيطة بالمدينة بقصف الأحياء السكنية.. استغل الملكيون انسحاب القوات المصرية من اليمن امتثالاً لمقررات مؤتمر الخرطوم، التي توافقت مع رغبة مصرية بسبب وضع ما بعد حزيران 1967م، وأيضاً تضعضع الصف الجمهوري بسبب حالة انقلاب نوفمبر.. غير أن تماسك القوات الجمهورية الشابة والتحامها بالمقاومة الشعبية للدفاع عن صنعاء استطاعت فك الحصار ودحر القوات الملكية بعد سبعين يوماً (8 فبراير 1968)، بفتح طريق الحديدة - صنعاء.
 
في صباح الثلاثين من نوفمبر 1967 أُعلن عن نيل الجنوب العربي بمحمياته الشرقية والغربية استقلالا تاماً بعد احتلال بريطاني، ووصاية لما يزيد عن 129 سنة لعدن، وبقية المناطق الجنوبية.. جاء الاستقلال بعد سنوات من النضال السياسي للقوى الوطنية اليمنية في عدن وبقية المناطق، ومنذ أكتوبر 63 صار هذا النضال كفاحاً مسلحاً تبنّته الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل وجبهة التحرير، قبل أن تصير الأولى القوة الرئيسية المتحكّمة بعد إزاحة الثانية من المشهد بعد احتراب 6 نوفمبر المشار إليه، ومغادرة قيادات الجبهة وتنظيمها الشعبي (الجناح العسكري لها) إلى مدينة تعز. ليصير اسم الدولة الوليدة "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية"، وأمين عام الجبهة القومية قحطان الشعبي أول رئيس للدولة المستقلة ورئيساً لأول حكومة فيها.
 
في مساء الثلاثين من نوفمبر من العام 1989م، تم التوقيع في مدينة عدن على اتفاقية الوحدة (اتفاقية عدن)، التي تسارعت بعدها الخطوات الوحدوية بين الشطرين، فلم تمضِ غير ستة أشهر من هذا التوقيع حتى تم الإعلان رسمياً على قيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو 1990م، في وضع دولي معقّد، بعد بدء تفكك منظومة المعسكر الاشتراكي (أوروبا الشرقية وحلف وارسو)، ودخول العالم مرحلة القطبية الواحدة وعصر العولمة.
 
أهم بنود اتفاقية الوحدة - التي وقَّعها الرئيسان علي سالم البيض عن الشطر الجنوبي وعلي عبدالله صالح عن الشطر الشمالي- تمثلت في إحالة مشروع الدستور إلى مجلسي الشورى والشعب في شطري الوطن، وذلك للموافقة عليه طبقاً للأنظمة الدستورية لكل منهما خلال مدة زمنية أقصاها ستة أشهر.
 
___________
(*) حتى اليوم بقي مؤلف الكتاب اسماً مجهولاً، وكل التكهنات تقول إن صاحبه الأصلي هو "أحمد محمد الشامي" -وزير خارجية المتوكلية اليمنية ورئيس وفد الملكيين إلى المؤتمر وصاحب مقدّمة الكتاب الطويلة التي تعتسف تاريخ اليمنيين لصالح تاريخ الإمامة.
 
*المقال نقلا عن قناة بلقيس
 

التعليقات