مشيةُ القلب
السبت, 19 أغسطس, 2023 - 09:02 مساءً

"خطوات الرجل الصريح تستنطق الأرض" ( نيتشه).
 
المشي: لغةٌ: حركة تعبيرية دالة, كل له مشيته, طريقته, حركته المميزة, إيقاعه الخاص,
 
للخطى وقعها وتوقيعها، خطاك كتابةٌ دائبةٌ على صدر الزمان والمكان، خطابٌ متحرك, أنت تخط الخط وتبتدع الطريق, وتطرقه بطريقتك.
تلفتنا المشيات, يشدنا وقع الخطى, خطى الرجال والنساء, والأمم والحضارات  ،
لكل إيماءته وتعبيره.
لكل إيماءاته البلاغية, مقولاته الموقعة بانتظام.
 
في خطونا الكثير من حركة الروح, والكثير مما يميز الخلق والأخلاق . 
 
خطاك همس روحك, بها تُعّرف عن نفسك, وتعلن عن طبيعتك, وتحدد الانطباع عنك.
 
إنها المشية, اللغة التي نحتاج إلى تعلمها طوال الدرب, هي على ضوء الآيات الكريمة  لغةٌ قابلةٌ للتغيير والتحكم  , يمكن إعادة صياغتها وتعديلها ذاتياً مع الوعي والدربة والمران , هكذا تلوح: تعابير إرادية خاضعة لاختياراتنا الواعية, مشية نصممها نحن. وبحسب ما نصدر عنه من تصورات وأفكار ومبادئ وقيم, تشكل وعينا بوجودنا وتحدد ملامح حركتنا و علاقتنا بالله وبالإنسان والحياة, بالكون والكائنات.
 
المشية في القرآن الكريم, درسٌ كبير يحضرنا كل صلاة على الطريق المستقيم دعاء علوياً في فاتحة الكتاب نستهدي به الله "إهدنا الصراط المستقيم, صراط الذين أنعمت عليهم, غير المغضوب عليهم, ولا الضآلين "والصراط المستقيم"   , بحيل على المعاني الواسعة للسير على هدى  بلا اعوجاج أو تخبط, بلا تنافر أو شذوذ, بلا تكبر أو غرور, وإذ يصف الرحمن عباده, فإن مشيتهم الشفيفة تتقدم كل النعوت "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا" برفق ولين, وتواضع, وسكينة, ووقار. 
 
يتقدم خطاب الجسد الناطق بصدق العبودية, والمفصح عن الروح المسكونة بالرحمانية, تتصدر الحركة, يأتي الخطاب اللفظي والقول تالياً "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" وفي درس لقمان لابنه, تحضر تعابير الجسد وإشاراته, كصفاتٍ وسلوكيات مكتسبه ينبغي السيطرة عليها وصبطها وتجنب السيئ منها, وهو درس عظيم يدلنا على أهمية غرس القيم في مرحلة التنشئةِ, كي تصير أخلاقاً أصيلةً راسخة حيةً متجذرةً في عمق الشخصية, ومجسده بصورةٍ عفويةٍ وتلقائيةٍ بعيداً عن التكلف أو التصنع.
 
في وصايا لقمان لابنه: "ولا تصعر خدك للناس, ولا تمش في الأرض مرحا, إن الله لا يحب كل مختال فخور" ثم وبتركيز أدق يوصيه: "واقصد في مشيك "  مستبقا التعبير الصوتي: "وأغضض من صوتك, إن أنكر الأصوات لصوت الحمير" تستوقفني هذه اللفظة: "واقصد" أراها صيغةً بلاغيةً معبرةً  عن الإقتصار وعمل القلب, أي مرتبطةً بالقصد,  أي إجعل مشيك قصدا ،, تقصد منه بلوغ مقصدٍ ما كما في " ياعاقد الحاجبين   
على الجبين اللجين
تمر قصد غزال   
بين الرصيف وبيني
  إن كنت تقصد قتلي 
قتلتني مرتين    "  
كما غنتها فيروز   
"واقصد في مشيك"  ليكن مشيك قصدا بقلبك.
ثمة مشيات منكرةٌ صلفة, متعالية فظة، متبخترة فيها كبر وغرور, ثمة مشيات متصنعة, زائفة مدعية, وأخرى رخوةٌ فاترةٌ, باردةٌ, مرتبكة, متعثرة تنقصها الثقة, ومشيات مغناجة, رافلةٌ, رشيقة ٌ, رقيقة . مشيات ومشيات, خطانا خطوطنا, وقع الأقدام, خطرات الأفهام, ومن يقصد الصراط المستقيم عليه أن يحاذر, لينظر إلى مشيته, وليصغ إلى وقع خطاه, ليرى مدى اتساقها مع حركة روحه وأشواقه, ليسمع مدى نبضها وخفقها, ليتأكد من رهافتها وذكائها ولطفها, والتزامها وعدم جنوحها وانفلاتها. ورعونتها وتجاوزها الحد. والأخلاق والقيم والمبادئ حدود.
وأعود إلى وصف الرحمن مشية عباده "يمشون على الأرض هونا " فيها رفق وجمال يذكر بوصف الأعشى مشية صاحبته في معلقته الشهيرة 
 
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعا أيها الرجل 
 
غراء فرعاء مصقول عوارضها 
تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل  
 
كأن مشيتها من بيت جارتها  
مشي السحابة لا ريث ولا عجل 
هذه التقاطات فنان يزن بقلبه المشية والثقل ويتهجى تهادي جسد معشوقته على الأرض، يرنو اليها وهي تهبط من قلب السماء في مشية لا أجمل منها ولا أروع.
وهي ذي تمشي في معلقة خالدة في سحر وجمال يبعثان على الدهشة والإفتتان.   
شعراء كثر أولعوا بمشيات المحبوبات المغناجات، المحجلات، مازلنا نسمع وقع خطاهن الرشيقة،  
 سابيات العقول، منذ بدء الغزل ومستهل الهيام بالغزلان.
ثمة ارتباط بين الخطوة والأرض, ارتباط وثيق روحي وجسدي يوجب  الإنتباه ويقظة الحس والشعور  والاحترام.
الأرض ليست خلاءًا جامداً , قابلاً للخطو المتبلد,
خفف الوطء ما أظن أديم
   الأرض الا من هذه الأجساد     
بحسب المعري
الأرض حياة تتشارك فيها الوجود مع كل الكائنات ,  
ليت فيها وحدك, آيات عديدة  تركز على علاقة سوية مع الأرض, علاقة حميمية, تتحدث  عن المشي كتعبير حر وتوقيع إنساني يكاد يختزل كل الحكاية .  قال تعالى
"أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم "
"فأمشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور"  
"قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل، " وفي القرآن الكريم نجد إحالات على خبرات متعددة ترتبط بالمشي والعلاقة بالأرض . 
كما نجد تركيزاً مكثفاً على نورانية الخطى, على عاطفية المشيات, حيث تتناغم حركة الجسد والروح, ويتسق الكائن في تعبيره عن الكينونة مع حركة الكون ، 
ثمة عوالم آسرة في ديننا تتطلب ربما حبا وشغفا وخيالا وحساسية خاصة لمقاربتها والوقوف على مافيها من دهشة وجمال أخاذ.   
هي مشية رجلٍ خمسيني متأنق, فيها جمالٌ ومهابة ووقار, رحت ألفت النظر إليها بإفتتان وحماسة ذات فرح حافل وهو ما أضحك  لحظتها البعض, 
هذه الخطرات وحي تلك الخطوات.
يا الله: أسألك مشية أهدى, سويةً على الطريق القويم, أعوذ بك من شر خطاي, وسوء خطاياي ومن مشيتي مكباً على وجهي في الضلال المبين.
 وأختتم الخطو مع بلند الحيدري وسؤاله الممض   :
الى أين..؟ ويحك، لا تسألي  
فرجلاي مثلك تستفهمان.
 أغيب مع الليل في مأملي
وأصحو ولا شيء غير الزمان 
تقلصت الأرض في خطوتي
فليس لقيد انفلاتي مكان 
ومازلت امشي على جبهتي
وأجتر خلف خطاي الهوان
*من صفحة الكاتب على فيسبوك

التعليقات