جيل جديد من الإعلاميين
الخميس, 15 أغسطس, 2024 - 02:11 مساءً

أتذكّر أول مادة نشرتها في الصحافة الورقية قبل سنوات، ولا أتذكّر كم عدد المرات التي ظليت فيها أغلق الصحيفة وأعود لتأمل شكل العنوان والبنط واللون، وطريقة إخراج المادة؟
 
ومع كل عدد، ومادة جديدة، لم أفقد شغف الانتظار للمولود الجديد، وعندي قناعة راسخة بأنه لو منحني الله حياة أخرى وخيارات جديدة، لن أختار غير مهنة الصحافة.
 
في كلية الإعلام، كان المنهج التقليدي، الذي درسناه، يتركَّز حول فنون التحرير الصحفي، من الخبر والتقرير والتحقيق والمقال والاستطلاع، لذلك انعكست هذه الفنون على الواقع مع غياب ملحوظ لفن التحقيق الصحفي؛ بسبب ما يحتاجه من جهد ووقت.
 
رئيس التحرير والمسؤول عن النشر لا إمكانية لديه للانتظار أسابيع كي تنجز مادتك مهما كانت جودتها.
 
هو مسؤول ومُلزم أمام القُراء والمعلنين يوميا أو أسبوعيا عن ملء فراغات العدد لكمية 16 صفحة، يمكن اعتبار ذلك جزءا من المسؤولية المشتركة بين المحرر الكسول ومسؤولي النشر.
 
على الرغم من ذلك الجهد والصورة، التي كانت تبدو عليها الصحافة الورقية، كان ثمة شغف لا ينتهي بالمهنة المقدّسة، وكذا شعور متواصل بالتقصير وعدم الجودة.
 
في أحد اجتماعاتنا الأسبوعية في صحيفة "الناس"، طرحت على الأستاذ المرحوم حميد شحرة موضوع "الصيصان" الملوّنة التي يعبث بها الأطفال في الشارع؛ فقال مازحا، ولم يبدِ أي أمارات الهزء: "افعل عنها تقريرا".
 
أخذت الموضوع على محمل الجد، وذهبت إلى مزارع الدجاج خلف ملعب الثورة في صنعاء. سألت: لماذا يتم التخلّص من تلك الصيصان بتلك الطريقة عديمة الرَّحمة؟ وذهبت إلى مكتب حماية البيئة، وسألت عددا من المختصين.
 
كل هؤلاء تحدثوا عن طُرق مختلفة، وفي بلدان مختلفة، حول كيفية التخلّص منها؟
 
في مصر -على سبيل المثال- يتم تسخين صاج من الحديد، ويتم وضع الصيصان فيها، فتتقفّز من شدة الحَرارة، ويتم إيهام الجمهور بأنها ترقص.
 
حالات أخرى كثيرة، لا أتذكرها.
 
كان موضوعا صحفيا لافتا وبعنوان مثير ورسم كاريكاتوري مميّز (صيصان ملوّنة يعبث بها الأطفال.. فرّح ولدك بعشرة ريالات".
 
المناسبة أنه مهما بدا لك الموضوع تافها فإنه يستحق الجهد والنشر.
 
أتامل ما أقوله الآن، وأنا أتابع باهتمام المخرجات الجديدة من كليات الإعلام. لقد تغيّرت المهنة والمنهج الذي درسناه، يمكن اعتباره منهجا عفى عليه الزمن.
 
يمكن القول أيضا إننا ودَّعنا الصحافة الورقية وإلى الأبد. وهذا مصدر أسى وأسف كبيرين؛ لأننا نودِّع شغفنا وسنوات عُمرنا الجميلة.
 
حاولنا التقيّد بالمنهج، وبالذات ما كانت تقوله الكتب، أو الملازم المتخصصة إن المقالات الصحفية تأتي في مرحلة متأخِّرة من عُمر الصحفي.
 
أتى جيل لاحق، وغالبا من خارج كليات الصحافة، وكتب مقالات رائعة ومثيرة للجدل. دلّ ذلك أيضا على أن المنهج الذي درسناه ليس بالضرورة نصوصا مُلزِمة.
 
في صورة الإعلامي الجديد، قد تجد البعض وُلد كمشروع كاتب عظيم، يكتب بلغة ساحرة، متمكِّن في السرد اللذيذ، وفي اختيار زاوية مناسبة للمادة، لكن من الواضح أن هناك نزوعا كبيرا إلى مثل هذا النوع السردي المعتمد على ما تختزنه الذاكرة من قراءات.
 
كثير من الخريجين لديهم نفرة من النزول إلى الميدان، رغم أن هناك عددا أقل ترك العمل المكتبي، وذهب إلى الميدان، وعاد بجوائز ثمينة في موضوع الصحافة الاستقصائية.
 
كان يمكن أن تكون الصحافة السردية مناسبة لزمن مختلف، ربما زمن الصحافة الورقية، التي كانت بعضها تعجز عن ملء فراغاتها، وقد تجد في هذا الصحفي ضالتها المناسبة.
لكن هذا زمان مختلف؛ زمن "السوشيال ميديا"، وزمن الاستغناء عن كثير من الصحفيين التقليديين، وتفريغ مكاتب المراسلات في عواصم الدول المختلفة.
 
الصحفي، الذي ينتظر انقضاء 4 سنوات من الدراسة للاحتفال بمشروع تخرّجه وشهادته؛ كي يجد سوق عمله، سيصدمه الواقع؛ قد يجد نفسه ضحية وضع حالم، وضحية نظرة قاصرة للصحافة باعتبارها منصبا وظيفيا، مثلها مثل أي مهنة أخرى.
 
في الصحافة أنت الذي يجب عليك أن تذهب إلى الوظيفة والوسيلة التي تريدها، ولن تأتي إليك بشهادة التخرّج.
 
يمكن القول إن أكثر الأسماء اللامعة في عالم الصحافة هي تلك الأسماء التي ظهرت على وسائط الاتصالات المختلفة من خارج كليات الإعلام؛ هي أسماء نالت نصيبا وافرا من المعرفة والقراءة الواعية، فالنتائج لا بُد أن تكون واضحة: مقدار ما تحمله من وعي ومعرفة هو ما يعكس نفسه على الكتابة.
 
أما الوساطة، التي يبحث عنها بعض الصحفيين، فهي آخر ما يجب التفكير فيه في مهنة الصحافة، على أن العمل لا يخلو منها، إنما يمكن القول عن تجربة إن الصحافة هي المهنة الوحيدة التي لا تحتاج إلى وساطة؛ لا تحتاج إلى تعريف ومعرِّف.
 
عمل الصحفي هو الذي يقدِّمه لرؤساء التحرير ومسؤولي النشر في الوسائل المختلفة، وعمله هو الذي يلفت أنظار وسائل الإعلام.
 
الصحفي هو الذي يعرض نفسه إلى سوق العمل؛ لا ينتظر حفل التخرج والشهادة، وهذه ميزة مثلى لمن يعشق المهنة، ويريد خوض غمارها بحب وقناعة.
 
يجب على الصحفيين الجدد عدم انتظار مهرجان التخرج للحصول على وظيفة، لا يجب أن يهدروا أربع سنوات من الدراسة فقط، وقد تؤدي بهم إلى اليأس والاحباط عقب التخرج.
 
بيد كل صحفي حرق المراحل وطي سنوات من الجهد؛ كل ما عليه فعله هو تقديم نفسه للقراء والمشاهدين، وفي الوسيلة التي يختارها، وبما يمتلكه من مهارات.
 
قد يعمل الصحفي، خلال هذه المرحلة، بالمجان، أو بأجر زهيد جدا، لكن كل ذلك يهون في سبيل الخطوات الأولى لمعرفة بيئة العمل، ومن ثم تأتي مرحلة الاستقرار والرسوخ المهني.
 

التعليقات