الجدل الذي يجتاح وسائل الإعلام اليمنية ومنصات التواصل حول كشوفات الإعاشة، كشف عن واحدة من أكثر القضايا حساسية في إدارة المرحلة.
الأرقام كبيرة، والفضيحة تبدو جاهزة للاستثمار السياسي والإعلامي، لكن خلف الضجيج هناك معادلة أكثر تعقيدا من مجرد هدر مالي أو فساد مستتر، وأنا أعرف أني بهذا الرأي سأخالف الرأي السائد والرائج، وربما أجلب على نفسي تهمة أنني واحد من المشمولين بالكشف.
أول ما يجب قوله إن المستفيدين من هذه الكشوف ليسوا كتلة واحدة من "الطفيليين" كما يصوّرهم البعض، بل طيف واسع من مسؤولي الدولة السابقين واللاحقين، وأسر نزحت بعد الانقلاب الحوثي، وأشخاص اضطروا إلى مغادرة البلاد في ظروف استثنائية بعد مقتل الرئيس السابق أو تصاعد الصراع، وهؤلاء لم يخلقوا شبكات الإعاشة بأنفسهم، بل وُضعوا في سياق سياسي جعل من الصرف عليهم وسيلة ضرورية لإنقاذهم أولا، وبعضهم يمثل العمود الفقري للنظام الاجتماعي والسياسي في البلاد، ولاشك ان العملية تتضمن طبقات من شراء الولاء أو الحفاظ على التوازن، وربما كان في بعض الحالات كسبا بدون سبب، لكن تحميلهم كامل وزر السياسات المالية للدولة هو شكل من أشكال التبسيط الظالم.
ثمة ما يمكن تسميته بـ"عقدة الرخص" في المزاج العام، فبدلاً من تحويل كشف الإعاشة إلى مؤشر رمزي لمستوى المعيشة الذي يستحقه كل موظف يمني، والمطالبة بأن تكون رواتب الداخل والخارج على السوية نفسها، ينصرف البعض إلى الدعوة لإلغاء الكشف برمته، أو لإعادة المستفيدين منه إلى الداخل وصرف رواتب زهيدة بالريال لا تكفي لضرورات الحياة، وكأن الجوع هو ما يليق باليمني، أينما كان، ويذكرنا هذا بالمزاج الشعبي الذي وافق على الخروج في مظاهرات شعارها تخفيض الراتب واجب!
هذا المنطق يعكس نزوعا إلى مساواة تقوم على الحرمان لا على الكرامة؛ فبدلا من أن يصبح كشف الإعاشة حافزا لتصحيح أوضاع موظفي الداخل ورفع أجورهم إلى مستوى يواكب الحد الأدنى من العيش الكريم، يجري تسويغه كامتياز غير مشروع ينبغي القضاء عليه، وهنا تكمن المفارقة حيث يُستسهل المطالبة بتعميم الفقر، بينما يغدو رفع السقف نحو حياة كريمة للجميع مطلبا مبالغاً فيه!
باعتقادي أن الذين يرفعون شعارات المطالبة بوقف صرف هذه المباالغ يروجون أن التوقف عن صرفها يعني تخفيف الضغط على الموازنة، لكنهم يجهلون او يتجاهلون أنه يعني أيضا انهيار شبكة من التفاهمات الضمنية التي حافظت على التماسك السياسي ولو في حدوده الدنيا.
هؤلاء المستفيدون يعيشون منذ سنوات في بلدان ذات كلفة عالية، وأي حرمان مفاجئ قد يخلق موجة غضب تتحول سريعا إلى ورقة ضغط سياسي أو ابتزاز مضاد، وهو ما خبرناه في أكثر من محطة سابقة، وقد قالوا قديما من أشكل المشكلات توضيح الواضحات.
ليس خفيا على أحد أن الخطاب الشعبوي الذي يتحدث عن المليارات المهدورة يقدّم نفسه كصوت الضمير الشعبي، لكنه في جانب منه يعكس أيضا صراعات مصالح بين أجنحة سياسية تتنازع النفوذ، وأحيانا لا يكون الهدف من تضخيم الملف الإصلاح، بل تصفية حسابات أو انتزاع تنازلات، والفرق كبير بين النقد الهادق للإصلاح، وبين الاستثمار في الاستياء العام كوسيلة ابتزاز سياسي رخيصة التكلفة، ولو صدقوا لما حصروا تركيزهم على كشف الإعاشة، وتجاهلوا مصروفات فلكية تتم بالتوجيه المباشر، لا تدخل في كشف، ولا تمر عبر أي إطار مؤسسي.
لا أعني بقولي هذا أن الوضع القائم مقبول أو أنه يمكن الدفاع عنه إلى ما لا نهاية. لكنه يعني أن التعامل مع الملف يحتاج إلى واقعية وعقلانية، بعيدا عن ضجيج المزايدات.
الإصلاح لا يكون بالقطع المفاجئ بل بالتحويل التدريجي، ويجب أولا أن ندرك حقيقة ان المستفيدين من هذا الكشف ليسوا أعداءنا، ولا الجانب الشرير في القصة، بل هم في غالبهم أهلنا وأصدقاؤنا، ممن نهب الحوثي بيوتهم، ومرتباتهم، وشردهم، ولن يكون أحد منكم سعيدا بجوعهم أو طرد أطفالهم من المدارس!
يمكن للدولة أن تبدأ بخطوات واضحة مثل ربط الإعاشة بعمل فعلي يقوم به المستفيد، ويمكن تحويل جزء من هذه المبالغ بالريال اليمني بدلًا من ضخ الدولار في أسواق الخارج، وخلق ظروف أمنية وسياسية مناسبة لعودتهم إلى الداخل وإعادة إدماجهم في الجهاز الإداري للدولة، وتتزامن هذه الخطوات مع تصحيح الرواتب لموظفي الدولة وإعادة تقييمها مقارنة بقيمتها السوقية ورفع مرتبات الموظفين في الداخل، ولن يتأتى ذلك للحكومة مالم تتمكن من رفع مستوى الإيرادات، وبعد هذه الاجراءات سيبقى في الكشف بعض المستفيدين بلا مهام، ولا أمل او رغبة في العودة، فيمكن منحهم مهلة زمنية للتأقلم مع حياة بمصادر دخل أخرى، أو العودة للعمل من الداخل قبل رفع أسمائهم من الكشوف.
حينها فقط يمكن أن يعاد تقييم المستفيدين الذين لا مهام لهم ولا نية للعودة، ومنحهم مهلة زمنية للتأقلم مع بدائل أخرى قبل شطب أسمائهم.
باعتقادي اننا لسنا مضطرين للانقسام بين واقعية تفهم ضرورات التوازن وتدافع عنها كما هي، ومزايدات تسعى إلى تسجيل النقاط، بل إن هناك طريق ثالث يكمن في إصلاح متدرج يحافظ على استقرار التوازنات، ويعيد للدولة بعضا من هيبتها المهدورة، ويوقف استغلال الملف كأداة ابتزاز سياسي، وذلك وحده ما يمكن أن يحوّل الحديث عن الإعاشة من فضيحة موسمية إلى محطة إصلاح حقيقية.