يواجه اليمن كدولة موحدة تحديات عصيبة، لاسيما وأن حالة الانقسام ووجود حكومتيْن قد طال أمدها؛ إحداهما يُعترف لها بالشرعية الدولية، تدير أعمالها من عدن كعاصمة مؤقتة، وتمارس نفوذها إسمياً على المحافظات الجنوبية وبعض المناطق الشمالية التي لم يمتد إليها نفوذ الحوثيين، يقودها مجلس قيادة رئاسى منذ 7 أبريل 2022، حين أصدر الرئيس السابق عبدربه منصور هادي بناءً على تفاهمات بين الرياض وأبوظبى تفويضاً بنقل صلاحياته وسلطاته، وكذلك صلاحيات وسلطات نائب الرئيس، إلى مجلس قيادة رئاسي، يترأسه الأكاديمى د. رشاد محمد العليمي، ومعه 7 أعضاء هم سلطان العرادة، وطارق محمد عبد الله صالح، وعبد الرحمن أبوزرعة، وعبد الله العليمي باوزير، وعثمان مجلي، وعيدروس الزبيدي، وفرج البحسني. ومن بين أهداف مجلس القيادة الرئاسي تجميع القوى المناوئة لمليشيا الحوثيين في جبهة واحدة، وتوسيع مؤسسة الرئاسة لتضم كل قوى الشرعية، ووضع الأولوية للحوار من أجل سلام حقيقى، وتأجيل المطالب التي تتبناها القوى السياسية لما بعد استعادة الشرعية لكل ربوع اليمن، وعودة عمل الوزارات الى عدن، وتدوير عجلة الاقتصاد.
أهداف مثالية وتناقضات واقعية
مثل هذه الأهداف المثالية والتي بلورت خطة عمل يُفترض أن أعضاء المجلس الرئاسي مخلصون لها ويؤمنون بها كبرنامج عمل يقود إلى استرداد المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين إلى مظلة الشرعية ودولة الوحدة، لكنها في الحقيقة وكما أثبتت التطورات اللاحقة أنها متناقضة جذرياً مع تشكيلة المجلس، والذى يجمع بين أعضاء من حزب الإصلاح اليمنى، وقادة لقوات عسكرية لكل منهم نفوذه في منطقة جغرافية معينة، وعضو سابق في المؤتمر الشعبى الحاكم في اليمن زمن الرئيس على عبد الله صالح، ولكل منهم توجه سياسى وأيديولوجى خاص. ويُعد عيدروس الزبيدى نائب رئيس المجلس الرئاسي، الشخصية الأكثر جدلاً، نظراً لرؤيته الخاصة بضرورة استعادة دولة الجنوب وفك الارتباط مع دولة الوحدة. كما أن قيادته للمجلس الانتقالي الجنوبى، جعلت من تشكيلة المجلس مصدراً للخلافات وليست مصدراً لقيادة ذات أهداف متكاملة، تعنى بالحفاظ على اليمن موحداً.
ومنذ إعلان تشكيل المجلس القيادى، ظهرت الكثير من التباينات بين الزبيدى ورئيس المجلس الرئاسي د. العليمى حول التصرفات الأحادية التي سعى الانتقالي لتكريسها في عدن وما حولها وفى بعض مناطق شبوة ولحج والضالع، من خلال نشر قوات بعيدة عن سلطة الحكومة، وتوجيه الانتقادات للحكومة وتحميلها مسئولية ضعف الخدمات المقدمة للمواطنين، وتحفيز الدعاية وراء مبدأ أن الانفصال هو الخلاص من مشكلات الجنوبيين.
الانتقالي الجنوبى من الدعاية إلى التمدد العسكرى
تطورت مواقف الانتقالي الجنوبى من الدعاية ومناكفة الحكومة الشرعية، إلى حشد قوات تابعة له نهاية نوفمبر 2025 من عدن وأبين وشبوة ولحج والضالع، وتعزيزات أخرى من قوات تُعرف بالنخبة الحضرمية، حيث بدأ فجر الثالث من ديسمبر عملية عسكرية بمسمى "المستقبل الواعد"، استطاع خلالها السيطرة على وادى حضرموت وعاصمتها مدينة سيئون ومطارها الدولى ومقار الأمن، وقاعدة المنطقة العسكرية الأولى، والقصر الرئاسي في الوادي، دون مقاومة من القوات الحكومية التي فضلت الانسحاب، ثم تلى ذلك التوسع نحو محافظة المهرة الحدودية مع سلطنة عُمان حيث تم استبدال علم الجمهورية اليمنية بعلم دولة الجنوب السابقة على المباني الحكومية والمعابر الحدودية، وحقول النفط في هضبة حضرموت ومنطقة المسيلة النفطية وموانئ الضبة والمكلا. صاحب ذلك دعاية مكثفة بأن السيطرة على تلك المحافظات الجنوبية هي مقدمة لتحقيق فك الارتباط، وعودة الجنوب دولة مستقلة كما كان وضعه قبل مايو 1990.
القدرة الفعلية على الانفصال وقيوده
ويدور التساؤل المركزى: هل سيكون بمقدور الانتقالي الجنوبى أن يحقق هذا الطموح الانفصالى، أم أن هناك متغيرات أخرى ستقيد هذا المسعى وتفشله؟
بدايةً، فقد حققت العملية العسكرية هدفاً أساسياً للانتقالى، فقد أصبح سيد الموقف عسكرياً، لكنه في الآن نفسه يواجه رياحاً معاكسة كبرى، تحد من قدرته العملية على إعلان الانفصال. صحيح أن القوات التابعة للحكومة الشرعية وقوات "درع الوطن" التابعة مباشرة لرئيس المجلس الرئاسي قد أخلت مواقعها، وأعادت تموضعها في مناطق بعيدة عن تلك التي سيطر عليها الانتقالي الجنوبى، كما فضلت حكومة العليمى مغادرة العاصمة المؤقتة عدن، لكنها تمسكت بمطالبة الانتقالي بالخروج من المناطق التي سيطر عليها، مع التحذير من التداعيات الخطيرة على مستقبل اليمن في حالة تمسك الانتقالي بخياراته الانفصالية. وهى مؤشرات أولية تعكس أن توجه الانتقالي لتكريس الانفصال عملياً ليس بالأمر الهين، فمن ناحية يتطلب إعلان فك الارتباط مبررات قانونية وقوى دولية وإقليمية تتبنى مبدأ تقسيم اليمن الموحد، ويمكنها تعويمه ليصبح خطوة مقبولة من المجتمع الدولى ككل. هذا بافتراض أن كل الجنوبيين يدعمون الانتقالي الجنوبى ومشروعه الانفصالى، وهو واقع لم يتحقق بعد، فهناك العديد من الجنوبيين يرفضون هذه الدعوة، ويتمسكون بدولة الوحدة وبعلاقات جيدة مع الرياض.
مهمة اللواء القحطانى ومعارضة الانفصال
والواضح أنه حتى اللحظة لم تخرج أية مواقف واضحة من قوى الإقليم ذات الصلة بأوضاع اليمن تؤيد طرح تقسيم اليمن والعودة إلى الوراء، فهذا الأمر يتعلق أساساً بخلق توازنات جيوسياسية جديدة من شأنها أن تربك استراتيجيات دول كبرى في الجوار اليمنى، وهو تطور خطير يتطلب حسابات معقدة. ويبدو التحرك الذى أقدمت عليه المملكة العربية السعودية مهماً في هذا السياق، فقد أرسلت وفداً سياسياً رفيع المستوى، برئاسة اللواء محمد عبيد القحطانى رئيس اللجنة الخاصة التابعة لمجلس الوزراء السعودي والمعنية بملف اليمن، حيث اجتمع مع وفود من المسئولين الحضرميين وشيوخ وقادة قبائل في الجنوب، وتمثلت مهمة القحطانى في أمرين أساسيين؛ الأول عودة الأمور إلى محافظتى حضرموت والمهرة إلى ما قبل سيطرة قوات الانتقالي عليهما، وإعادة تموضع قوات "درع الوطن" في المواقع العسكرية والأمنية في المحافظتين، والثانى تمكين الحكومة الشرعية مرة أخرى من العودة إلى عدن وممارسة صلاحياتها القانونية دون تقييد من الانتقالي الجنوبى.
تستند مهمة القحطانى إلى قرار سعودى ذي طابع استراتيجى، يُعنى أساساً بالحفاظ على مبدأ اليمن الموحد، ودعم مواجهة الحوثيين في الشمال، ومنع تحويل الحكومة الشرعية والقوات التابعة لها إلى أثر بعد عين، ويرتبط بذلك التركيز على بقاء محافظتى حضرموت والمهرة تحت مظلة سماتها السلمية والمتسامحة ذات الجذور العميقة في شخصية الحضرميين، بعيداً عن الصراعات بين القوى القبلية والسياسية ذات التوجهات المختلفة، فضلاً عن الاهتمام بألا تتحول حضرموت إلى مصدر قلق للأمن القومى السعودى، فالمحافظة تمتد حدودها الشمالية مع المملكة أكثر من 800 كم، وهى مليئة بالنفط والثروات الطبيعية مما يجعل أمنها واستقرارها وثيق الصلة بالأمن السعودى.
وفى هذا السياق، تُصر الرياض، وفقاً للقحطانى، على خروج قوات الانتقالي والعودة إلى مواقعها قبل الأول من ديسمبر، وأن يُعاد انتشار قوات "درع الوطن" في المواقع العسكرية التي سيطر عليها الانتقالي، لاسيما المنطقة العسكرية الأولى في وادى حضرموت ومدينة سيئون عاصمة الوادى، وكذلك في المواقع القريبة من الحدود اليمنية مع كل من عمان والسعودية، ومن ثم يُعاد للحكومة الشرعية بسط نفوذها القانوني على تلك المناطق، وفى الآن ذاته التنسيق مع قوات حلف قبائل حضرموت، والتي تختلف سياسياً وأيديولوجياً مع دعوات الانتقالي الجنوبى الخاصة بفصل الجنوب عن الشمال.
لا تجاهل لقضية الجنوب ولكن بشروط
إصرار الرياض على خروج قوات الانتقالي من حضرموت والمهرة والعودة إلى مواقعها الأولى حول عدن، لا يعنى، وفقاً لما أكد عليه اللواء القحطانى، تجاهل القضية الجنوبية، والتي تعود جذورها إلى المظالم التي تعرض لها الجنوبيون في حرب صيف 1994، ووفقاً للقحطانى فإن "قضية الجنوب هي قضية عادلة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها، فهي موجودة في مخرجات الحوار الوطني، وموجودة في أي تسوية سياسية قادمة ضمن الحل السياسي الذي تدعو له وتبذل فيه الجهد المملكة ودولة الإمارات العربية لإحلال السلام الشامل في اليمن"، داعياً إلى عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه.
الموقف السعودى على هذا النحو يمثل قوة ضغط سياسية ومعنوية كبرى على الانتقالي الجنوبى، فمن ناحية، ما زال يُصر على عدم خروج قواته من حضرموت والمهرة، وفى الآن نفسه يُعيد تفسير خطواته إعلامياً باعتبارها تدعم الشرعية وتمهد لمواجهة الحوثيين، معتبراً أن الوقت المقبل هو وقت مواجهة الحوثيين بالتنسيق مع كل القوى الوطنية اليمنية، وليس وقت الصراعات الجانبية، وأن وجود قواته في المحافظات الجنوبية هو بهدف غلق المساحات والسيطرة على الطرق التي يتم من خلالها تهريب الأسلحة والذخائر إلى الحوثيين في الشمال، متهماً قوات "درع الوطن" بأنها قوات ذات فكر سلفى، مسئولة جزئياً عن التراخى في ضبط الأمن في الجنوب.
الانتقالي الجنوبى تحت الحصار السياسي
ويمكن القول إن إعادة تفسير الأسباب التي دفعت الانتقالي إلى السيطرة على الجنوب اليمنى، بعيداً عن أفكاره وتطلعاته الأساسية الخاص بفك الارتباط مع دولة الوحدة، لا تخرج عن كونها تحركاً تكتيكياً يهدف إلى احتواء الضغوط السعودية على النحو السابق ذكره، ومع اكتساب مساحة زمنية أكبر لترسيخ سيطرته الفعلية عسكرياً على الجنوب.
وفى كل الأحوال، يواجه الانتقالي مأزقاً حقيقياً، فمسألة الانفصال ليست بالسهولة التي تصور إمكانية حدوثها، فلا توجد قوة إقليمية أو دولية أعلنت تبنيها هذا الطرح الخطير، وفى الجنوب ذاته هناك قوى تعارض الانتقالي الجنوبى في مسعى الانفصال، وأبرزها "الحراك الجنوبي السلمي"، والذى يمثل تجمع القوى المدنية الجنوبية، ويدعو كلاً من الرياض وأبوظبي لبذل جهود أكبر لمنع المليشيات من إثارة الفوضى في الجنوب، والعمل على تثبيت الشرعية وترتيب جديد للمجلس القيادى الرئاسي ليكون أكثر تناغماً بين أعضائه. ويُعد حلف القبائل الحضرمية الذى يعود تشكيله إلى عام 2013، ولديه قوة عسكرية، أكثر القوى الحضرمية المناهضة للانفصال، ويطرح بدوره منهج اللامركزية لإدارة البلاد، وبما يسمح لكل محافظة إدارة مواردها الطبيعية من أجل أبنائها وبواسطة الأكفاء منهم.
هذه الخريطة من المواقف السياسية في الداخل اليمنى وفى الأفق الإقليمى تجعل جهود الانتقالي لإعلان الانفصال مسألة محفوفة بالمخاطر، فمن جانب، فإن الاحتكام إلى القوة العسكرية وحدها لتغيير المصير اليمنى كله من خلال إعلان الجنوب دولة مستقلة، في ظل وجود معارضة داخلية، وأخرى إقليمية، يُعد خياراً انتحارياً بكل معنى الكلمة. كذلك، فإن محاولة ترسيخ الوضع الجديد في كل من حضرموت والمهرة، مع تغيير المواقف الإعلامية والدعائية ليس بالأمر الذى يسهل تمريره داخلياً وخارجياً، خاصة وأنه يمثل إنهاءً لدور الحكومة الشرعية فعلياً، وهو ما لا توافق عليه السعودية ودول أخرى في الإقليم.
ومع افتراض إعلان الجنوب كدولة مستقلة في خطوة استباقية، فالمتوقع أن تتعرض لحصار ومقاطعة، ما يجعل سلطة الجنوب الانفصالية غير جديرة بالوفاء بمتطلبات إدارة الدولة وتوفير احتياجات اليمنيين الجنوبيين، الأمر الذي سوف يثير اعتراضات جنوبية لن تتوقف عند المواقف السياسية، بل المرجح أن تتطور إلى مواجهات عسكرية. ومع افتقاد المناصرين الدوليين الأقوياء، يصبح خيار الانفصال أمراً كارثياً بكل معنى الكلمة.
بعبارة أخرى، إن الانفصال حال إعلانه، لن يكون نهاية الصراع، بل المرجح أن يفتح أبواباً أخرى لصراعات على الموارد، وعلى شرعية الانفصال ذاته، واحتمالات مواجهات عسكرية موسعة بين القادة الجدد لجنوب اليمن وجماعة أنصار الله الحوثية المسيطرة على محافظات شمالية عديدة، ما سيفرز ضغوطاً على القوى الإقليمية ذات الارتباط بما يجرى يمنياً، ومن ثم سيمتد الأمر إلى نطاقات أخرى تخص توازن القوى في الخليج ككل، والقرن الأفريقى معاً. ومثل هذه المخاطر المرجحة على النحو السابق تجعل من الجهود المكثفة التي يقوم بها الوفد السعودى لتثبيت دور الحكومة الشرعية، وإعادة الاعتبار لليمن الموحد، والتركيز على مواجهة الحوثيين سياسياً وعسكرياً، أمراً لا غنى عنه لليمن وللإقليم معاً.
*نقلا عن صحيفة الأهرام