د. مروان الغفوري

د. مروان الغفوري

طبيب يمني مقين في ألمانيا

كل الكتابات
الحرب، كما ترصدها نساء اليمن
الإثنين, 03 أكتوبر, 2016 - 05:56 مساءً

في الأشهر الماضية دُعيت للتحكيم في مسابقة أدبية لمجموعة كاتبات يمنيات، متدربات على الكتابة، أسسنَ مجموعة مغلقة على موقع "فيس بوك". اطلعت على ٢٢ نصاً، تنوعت بين الهايكو وقصيدة النثر الطويلة والقصة القصيرة والتأملات.
 
شيء ما جمع النصوص كلها في خيط واحد، حتى بدت كأنها نصٌ هجين لكاتب واحد يجلس على شرفة وحيدة: "الحرب". كلهن كتبن الثيمة نفسها "الخوف". انتهت النصوص، باختلاف أحجامها، بحلم بعيد المنال عن السلام والمحبة.
 
بعيداً عن ذلك، فقد لاحظت نمواً متزايداً لليمنيات اللاتي يتجهن لكتابة النصوص السردية. ثمة قصة كبيرة في قلب كل يمني، قصة داخل/ حول العزلة الرهيبة التي جعلته ينظر إلى العالم كما لو كان كوكباً آخر.
 
المرأة في اليمن، وهي في مجتمعات كثيرة تصبح عبدة العبد إذا استعرنا من إنغلز، تملك قصصاً صغيرة لا ضفاف لها، وداخل كل امرأة يمنية قصتها الكبيرة الخاصة. بيدَ أن الحرب الأخيرة أظهرت جوع اليمنية للسرد، رغبتها في أن تقول ـ داخل دائرة الغبار العظمى ـ مرويتها.
 
لقد سئمت كل تلك العزلة، وها هي عزلة أخرى أكثر قسوة تضرب لا المرأة اليمنية وحسب بل اليمن، بتاريخه وإنسانه. تركت المرأة المجال الخارجي للرجل فصنع الحروب، وفي أحسن الظروف فشل في أن يدفع العربة إلى الأمام للحاق بالعالم.
 اختارت بثينة عمراني، في قصتها الطويلة، أن تتحدث من داخل الحرب لا عن الحرب، فهي المحاصرة في مدينة تعز، رأت بنادق المقاومة ومدافع الحوثيين ولم تصدق أنهما سلاحان مختلفان. صرخت: ابتعدوا عني، كلكم. لم تتقبل بثينة، وهي ترى بطلتها أسماء في نهاية قصتها مضرجة بالدم، وحبيبها يهاتفها ويسألها لماذا لا ترد، كل الشعارات: لا المقاومة ولا الحوثيين. ما عادت بثينة، عبر بطلتها قصيرة العُمر، تصدق ما يقوله الرجل، لقد فقد ثقتها، فقد خان بلده عشرات المرات، وعندما عجز عن مزيد من الخيانة قام بهدمها تحت الشمس الغبراء.
 
النص الذي كتبته بثينة عمراني كان حاداً، ويبدو أنها فكرت في إطالته، لما تستأهله ثيمة الأبوكاليبس الذي دخلت فيه مدينة تعز، لكنها اكتشفت أن الرجل اليمني، صانع الحروب المجيد، لا يحتاج لماينفيستو إدانة ضخم. اختارت طريقاً بسيطاً: قتلتْ أسماء، ثم تركته يتأمل قائلة: انظر، هذا صنيعك، وهذا ما تجيده. ثم ذهبت إلى النهر.
 
تحمل بثينة درجة الدكتوراه، وقد كتبت قصتها الطويلة على طريقة امرأة تملك الحق في أن تصرخ بالفقراء المتحاربين: توقفوا عن هذا العبث. إلا إن آلاء جمال، وهي تبلغ من العمر ١٩ عاماً، اتخذت طريقاً آخر. فهي لم تفقد بعد إيمانها بالرجل. هكذا عاشت كل النساء في روايتها "منتهاي" مخطوبات.
 
لا توجد حبيبات في رواية منتهاي، توجد فقط مخطوبات، يحضر الرجل عند آلاء كعاشق تقول عنه كل امرأة في الرواية "أضمد به جراحي، وأداوي به انكساري". ذلك ما ستقوله الفتاة منتهى عن خالد، وما ستقوله بنان عن يوسف. كل امرأة ستظهر تباعاً سرعان ما ستصبح مخطوبة، وسيكون خطيبها هو الذي يداوي الجرح ويضمد الكسر.
 
لكن الآخرين، عند آلاء جمال، هم الذي يفعلون الجراح، إنهم الحوثيون، وستمنحهم صفة "جماعة الرداء الأبيض" في انحياز مجازي كامل لسنها وتجربتها الجنينية مع الحياة. في مقدمة روايتها، بلغت زهاء ٢٢٠ صفحة، تكشف آلاء عن أسرارها دفعة واحدة، وتقول إنها كتبت نصها تحت حقيقتين: الأولى انتصاراً منها لثورة ٢٦ سبتمبر، وهي الحقيقة التي سكتشف منذ السطور الأولى طبيعة الأشرار في الرواية، أما الحقيقة الثانية فهي إن قصتها حقيقية. هكذا قالت: "قصتي حقيقية".
 
بخلاف بثينة التي لم تشر إلى فاعلين بعينهم، جعلتهم كلهم ذكوراً متشابهين، وألقت إليهم بجثة أسماء لينظروا أي نوع من الرجال هم، فإن آلاء ستحرص على أن يكون هناك رجالٌ صالحون. تتسلل آلاء إلى قاع المجتمع وتكشف عن أمر مذهل: انقسام المجتمع الرأسي، لا الأفقي. فالحرب لم تقسم المجتمع إلى أشرار وأخيار طبقاً للتوزيع الجغرافي أو الطائفي، بل قسمت البيت الواحد، تعتقد آلاء، لكنها تحتفظ بالمسافة الصارمة: ومع ذلك فهناك أخيار وأشرار. عند آلاء يتصارع الأشقاء داخل البيت، فتنحاز لمن تعتقد أنهم يجسدون الثورة، مانحة الأشقاء المنحازين للميليشيات الحوثية أضعف الحجج.
 
تمشي إسراء الكامل، ولدت في إب ولا تزال في العشرينات من عمرها، وسط مدينة مدمرة في "دستور القمر". إنها الحرب مرة أخرى، حتى إن إسراء وهي تمشي في شوارع مدينتها تجد "أعقاب الصواريخ". توقفك إسراء فجأة أمام احتيال لغوي مذهل، كأن القتلة كانوا يدخنون الصواريخ، ويطفئون رؤوسها على بيوت المدينة، سرعان ما ترى رماد الجثث، والأجساد المحنية والصمت المختلط بالدخان لمجرد أن تخرج من دارها.
 
تبدو إسراء الكامل شديدة الاحترافية في كتابة نصها، بلا سابق خبرة. تقع الحرب على جانبيها، لكنها من خلال نجلاء تبحث عن شيء آخر لا علاقة له بالخير والشر: إنه طارق. لقد كتبت روايتها لتعثر عليه وحسب، كما وعدته من قبل: "إلى طارق، إن كنتَ تقرأ حروفي هذه فاعلم أن نجلاء ما زالت تبحث عنك في مكان ما من هذا العالم، وأنها عانت الكثير لتجدك"، اختفى طارق من الرواية، أو من حياة نجلاء، كضحية لسلطة "الكهنوتيين".
 
مرة أخرى، إنهم الأشرار عند إسراء كما هم عند آلاء جمال، أخذت نجلاء اسمها من اسم حبيبة والدها، وكانت فتاة من عدن توفي والدها على مقربة من البحر. هي رواية للاختفاء: يختفي والدها، هرباً من القتل، ثم يعود ليختفي بعد ذلك إلى الأبد، تاركاً تدويناته في دفتر قديم. يختفي شقيقها طارق هرباً من سلطة اجتماعية قاسية، ثم تحدث الحرب فتنزح نجلاء "من مدينة مدمرة إلى أخرى".
 في مواضع من الرواية تجلس نجلاء، بطلة "دستور القمر"، لتستمع إلى النساء اللاتي ينتقلن عبر ثلاثة أطوار كلاسيكية، لا محيد عنها: فتيات، ثم أمهات فجدات. يقضين حياتهن في "حياكة القصص"، فتقرر "إسراء الكامل" كتابة القصص عن قصصهن.
 
ما تفعله إسراء الكامل مثير، فهي لا تلتزم بخيط سردي محدد، بل تمشي وتقلب المجتمع رأساً على عقب، تستخرج القصص، ثم تلقيها في وجه القارئ. وهي تبحث عن طارق تعثر على "بلسم"، وتلك فتاة مثقفة مجهولة الأب.
 
مع الأيام، عندما تحاول بلسم إبهار المدرسة بثقافتها، تتذكر القرية قصتها، كما هي الطبيعة الحاكمة لشخصيات "دستور القمر" تقرر بلسم الرحيل، لكن القرية تقتلها أمام المسجد، بعد صلاة الجمعة، لأنها شوهدت مع حبيبها يهمان بترك القرية.
 
لا توجد نساء مخطوبات في "دستور القمر"، توجد حبيبات مهزومات. الخطيبة، عند آلاء جمال في "منتهاي"، هي حبيبة منتصرة. لكن "دستور القمر" يعرض النساء المهزومات، من ابنة البحار المتوفى في عدن حتى الابنة "اللقيطة" في إب عند الروائيتين تحضر الحرب، فوق كل ذلك، لتضيف هزيمة شاملة. إنها، أي الحرب، الستارة الأخيرة التي أسدلت على اليمنيين، لتمثل بشكل خاص تصعيداً درامياً مخيفاً يختم سلسلة الهزائم الصغيرة للمرأة اليمنية.

* مدونات الجزيرة

التعليقات