يعيش العالم العربي حالة فريدة من الاستعمار الداخلي، فالنخبة العربية الحاكمة في دول ما بعد الاستعمار لا تستمد شرعيتها من شعوبها، ولا تحفل بمطالبها بالحرية والتحرر والكرامة والاستقلال. وقد برهن الانقلاب على ثورات الشعوب العربية عن العلاقات المتينة، والارتباطات الراسخة بين الدكتاتوريات المحلية والإمبرياليات العالمية. وفي كل مرة تنتفض الشعوب في الداخل مطالبة بتغيير "النظام" ما بعد الكولونيالي، تهرع "الطغمة" الحاكمة إلى الخارج متسولة تجديد "شرعية" بقائها، وشرعنة قمع الحراكات الاحتجاجية.
مع انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، تنفست دكتاتوريات ما بعد الاستعمار الصعداء، فقد أنهى حقبة من التردد الأمريكي حول ماهية الإرهاب وهوية الإرهابيين في المنطقة، وتجاوز مقولات الإسلام المعتدل ونظريات التطرف الإسلاموي، فترامب لا يكل في كل مناسبة عن ترديد ثيمة "الإرهاب الإسلامي". وبهذا أصبحت الدكتاتوريات العربية في حل من تبرير قمع الاحتجاجات وتدبير الانقلابات، ولم تعد بحاجة إلى ذرائع لإعادة بناء دكتاتوريات ما بعد الاستعمار. فقد باتت حججها أن الثورات الشعبية التي لطالما حلم بها الناس تهدد الاستقرار الضروري للنظام الإمبريالي، وتعصف بهوية وكينونة الدولة "الوطنية العلمانية" ما بعد الكولونيالية، وسوف تؤدي إلى البؤس والعنف، وتجلب "الإسلاميين" إلى الحكم.
تكشف مسارات الأحداث في العالم العربي عموما، وفي الجزائر والسودان وليبيا خصوصا، عن ديناميات الاستعمار الداخلي، لاستكمال وأد طموحات الشعوب العربية بالتغيير، وتلخص مكالمة ترامب مع حفتر شكل النظام العربي المطلوب. وقد جاء التأخر في الكشف عن المكالمة للتدقيق في محتواها وفحواها، حيث أعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان قد أجرى اتصالا هاتفيا بالقائد العسكري الليبي خليفة حفتر في 15 نيسان/ أبريل. وذكر بيان البيت الأبيض أن ترامب "اعترف بدور القائد العسكري حفتر في محاربة الإرهاب وتأمين حقول النفط الليبية، كما ناقش ترامب وحفتر الرؤية المشتركة لتحول ليبيا الى نظام سياسي ديمقراطي مستقر".
إن الصياغة الملتبسة والمنمقة لمتن البيت الأبيض رغم وضوح مفرداتها حول طبيعة وشكل النظام العربي المطلوب، كنظام سياسي ديمقراطي مستقر يؤمن حقول النفط ويحارب الإرهاب، يشرحها المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي، اللواء أحمد المسماري بلغة واضحة لا لبس فيها ولا غموض. فحسب المسماري، إن تصريحات ترامب بشأن محورية دور المشير حفتر في الحرب ضد الإرهاب سيكون لها تأثير إيجابي في الحرب ضد التنظيمات الإرهابية. وفي شرحه لمفردة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، قال المسماري إن قطر وتركيا تقومان باحتضان اجتماعات لممثلين عن تنظيمي القاعدة والإخوان من أجل ضرب الاستقرار في ليبيا.
على خطى ترامب، تسير أنظمة الانقلاب تحت شعار حرب الإرهاب الإسلامي. فعقب زيارة ترامب للرياض في 21 أيار/ مايو 2017، قال: "خلال زيارتي للشرق الأوسط أكدت على ضرورة وقف تمويل الأيديولوجية المتطرفة. والقادة أشاروا إلى قطر انظر!"، وهي إشارة أفضت إلى حصار قطر في 5 حزيران/ يونيو 2017، وسبقتها محاولة الانقلاب على حكومة العدالة والتنمية في تركيا في 15 يوليو/ تموز 2016، وهو ما يشير إلى نهاية عصر نظرية "اشتمال الاعتدال" في عهد ترامب، وهي نظرية أمريكية برزت بعد أحداث 11 سبتمبر؛ تقضي بإدماج الإسلاميين المعتدلين في أنظمة دول المنطقة، حيث عادت بقوة نظرية الإسلاميون "كلهم متشابهون"، الاستشراقية الثقافوية. وقد اشتهر ترامب بكونه يتوافر على رؤية استشراقية ثقافوية شديدة التطرف حول الإسلام، باعتباره دين الإرهاب والتطرف. وقد حفلت تصريحاته بالحديث عن "الإرهاب الإسلامي المتطرف"، وتهيمن على خطاباته الكلمات الثلاث: "متطرف، إسلامي، إرهابي".
إن رؤية ترامب للعالمين العربي والإسلامي تنهل من معين استشراق برنارد لويس وثقافوية صموئيل هنتنغتون. فقد دعمت الولايات المتحدة منذ تدخلها في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية؛ النظم الاستبدادية، تفضيلا للاستقرار على الديمقراطية، حيث أصبح الاستقرار استراتيجية أمريكية معتمدة كما حدد معالمها حددها الأكاديمي الأمريكي والمستشار الحكومي الراحل صموئيل هنتنغتون، في كتابه "النظام السياسي في مجتمعات متغيرة"، الصادر عام 1968، والذي قرر فيه أهمية الاستقرار السياسي في دول العالم الثالث لتأمين المصالح الإمبريالية الأمريكية، بالاعتماد على الأنظمة الدكتاتورية التي تستند إلى قوة الجيش والأمن كركيزة أساسية في حفظ الاستقرار، وباعتبار الديمقراطية غير صالحة لشعوب المنطقة؛ لأسباب ثقافية ودينية، وأنها تجلب معها عدم الاستقرار.
كان كارلوس لوزادا قد كتب مقالة مطولة في الواشنطن بوست، بعنوان "صموئيل هنتنغتون نبيا لعصر ترامب". فهذا هو الصراع الذي توقّعه هنتنغتون منذ مدةٍ طويلة في كتابه عام 1996، معلنا صراع الحضارات، حيث كتب: "إنَّ الغرب سوف يستمر في انحداره ببطءٍ بالنسبة إلى آسيا والعالم الإسلامي، في حين إن الديناميكية الاقتصادية تسهم في صعود آسيا، والنمو السكاني في الدول الإسلامية "يوفر المجندين للأصولية والإرهاب والتمرد، والهجرة". ويسخر ترامب كثيرا من السياسيين الذين يرفضون شجب "الإرهاب الإسلامي المتطرف". وينتقد هنتنغتون القادة الأمريكيين، مثل بيل كلينتون الذي زعم أنَّ الغرب ليس لديه خلافٌ مع الإسلام، وإنما مع المتطرفين الذين يمارسون العنف فحسب، إذ يقول هنتنغتون إنَّ "أربعة عشر قرنا من التاريخ تثبت غير ذلك". وعندما انحسر التهديد السوفياتي، احتاجت الولايات المتحدة إلى عدوٍ جديد، وفي يوم 11 أيلول/ سبتمبر 2001، قال هنتنغتون "أنهى أسامة بن لادن بحث أمريكا عن عدوٍ".
توجِّه الولايات المتحدة سياستها الإمبريالية، منذ الحرب العالمية الثانية، حسب جوزيف مسعد، في مقالته "الحب والخوف والربيع العربي"، بتمحيضها المشورة لوكلائها الأوروبيين والعالمثالثيين بشأن كيفية ضمانهم لسيطرة مستدامة، إلا أنه خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ونتيجة الانتفاضات التي عمّت أرجاء العالم العربي، فقد عمدت الولايات المتحدة والنخب المسيطرة في العالم العربي إلى إعادة تقويم معادلة الهيمنة/ القهر، حيث أضحت الأهداف الاستراتيجية الجديدة لكليهما تتمثل بتحديد توازن جديد للهيمنة والقهر، يضمن استمرار السيطرة السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، للولايات المتحدة، في المنطقة، ويحافظ على استمرار حكم النُخَب العربية المتربحة من هذه التدابير والملتزمة بها.
إذا، لم تعد المداولات الجارية اليوم بين صُنّاع السياسات في الولايات المتحدة وعملائهم العرب؛ تتمحور حول حدود "الديمقراطية"، أو "الأتوقراطية"، التي يجب أن تحظى بها الشعوب العربية، بل حول المزيج الأنسب من الهيمنة والقهر (والفساد المكمِّل لهما) الضرورييّن لإنتاج التوازن السليم بين الحب والخوف؛ الذي يضمن استقرار ترتيبات الهيمنة ذاتها التي تحكم المنطقة منذ بداية الحكم الإمبريالي للولايات المتحدة.
تقوم استراتيجية الهيمنة والقهر في العالم العربي على دينامية حرب "الإرهاب الإسلامي"، حيث تختفي المعارك من أجل التحرر والاستقلال والحرية والكرامة والعدالة، وتحضر حصرا "حروب الإرهاب"، وهي حجر الأساس في ركن الاستراتيجية الأمريكية الإمبريالية في ديمومة الهيمنة عبر الدكتاتوريات المحلية؛ التي اختزلت مشاكل المنطقة بعدو مخاتل فضفاض غير محدد، اسمه "الإرهاب الإسلامي". فعقب الثورة المضادة على ثورات الربيع العربي، بلغنا أقصى حدود التفاهة. ففي ظل غياب "عدو" بعد أن تحولت المستعمرة الاستيطانية المسماة "إسرائيل" إلى صديق، تنامت ديناميات اختراع "عدو" داخلي تمثل بـ"الإرهاب الإسلامي". وإذا تتبعنا مسألة العنف السياسي في العالم العربي، فقد تكاثرت منذ الانخراط في ما يسمى "عملية سلام". وبهذا تحولت الجيوش العربية إلى قوة بوليس، وتبدلت عقيدتها القتالية إلى قوات مكافحة إرهاب إسلامي داخلي.
ما يحدث في العالم العربي مع تجدد انتفاضات الشعوب العربية؛ هو التسليم بأطروحة الإرهاب الإسلامي، لإعادة بناء دكتاتوريات ما بعد الاستعمار. فحسب بورزو داراغاي، تودَّدت الجزائر والسودان إلى ممالك شبه الجزيرة العربية الرجعية والدول الغربية في السنوات الأخيرة، إذ روّجت كلتا الدولتين لنفسها باعتبارها أحد معاقل الاستقرار النسبي بالمنطقة. ونجحت الجزائر والسودان في جذب استثمارات من شبه الجزيرة العربية وعقد صفقات مع شركات غربية، حتى إنَّ إدارة ترامب أزالت العقوبات المفروضة منذ فترة طويلة، على السودان، فقد أدَّى تصوُّر أنَّ العالم العربي يواجه خيار الديكتاتورية أو الفوضى إلى خلق تحالف غريب بين "مناهضي الإمبريالية" اليساريين الغربيين و"المصابين بالإسلاموفوبيا" اليمينيين المُتطرّفين والأنظمة الاستبدادية ذاتها. لقد جادلوا جميعا بأنَّ نظام الحكم المطلق أمر ضروري لكبح جماح المُتطرّفين الإسلاميين، حتى مع تعرُّض الليبراليين ونشطاء حقوق المرأة والمدافعين عن حقوق المثليين للقمع والاضطهاد. وقد سعت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بقوة على مدار العامين الماضيين، إلى تجاوز أحداث الربيع العربي وإعادة تركيز اهتمام المنطقة على محاربة إيران.
يشير كبير المحللين في معهد دول الخليج للدراسات بواشنطن، ثيودور كارسيك، إلى أن ما يحدث في شمال إفريقيا عبارة عن سلسلة من الأحداث يحركها التجاذب السياسي بين دول الخليج العربي، وذلك من أجل الإطاحة بالنفوذ القطري والتركي من أفريقيا. ويضيف أنه "يجب العودة بالزمن إلى نهاية آذار/ مارس الماضي، عند لحظة خروج أمير قطر من قاعة جلسة افتتاح القمة العربية بتونس، بعدما تعرض لانتقادات من جانب زعماء عرب آخرين بسبب سياسات بلاده، وهذه كانت اللحظة التي بدأت فيها دول الخليج الأخرى بالدفع بأجندة إزاحة الإخوان المسلمين من شمال أفريقيا". وأضاف كارسيك: "لقد رأوا فرصة ليس فقط لإطلاق حملة في موريتانيا ضد الأحزاب التابعة لجماعة الإخوان هناك، وإنما تدخلوا أيضا في الشأن الجزائري مؤخرا".
في العالم العربي، تمثّل "الحرب على الإرهاب" أداة سلطويّة جديدة للحفاظ على الذات، حسب أورورا سوتيمانو، فمنذ إطلاق الرئيس بوش "الحرب على الإرهاب" في أعقاب هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، قبِل الرأي العام الغربي، كواقع مرير، الرأي القائل بأن الحفاظ على الأمن الدولي يقتضي التفوق في العنف لا التخلي عنه، وأنه لا توجد قيود على استخدام العنف باسم العدالة المبررة أخلاقيا.
إن جزءا من خطاب "الحرب على الإرهاب" يُعدّ استراتيجية لنزع الشرعية السياسية؛ قائمة على ممارسة وصف المعارضة بـ"الآخر" المتطرف، والذي لا يمكن التعامل معه إلا من خلال القضاء عليه، وهي محاولة لإيقاف الانتفاضات الجماهيرية التي اجتاحت المنطقة. وتُبيّن الطريقة التي فكّك بها خطاب "الحرب على الإرهاب" بنية الخصوم؛ مدى سهولة تبنّي القادة العرب لمجموعة من الشعارات التي تعكس المواقف الغربية تجاه الإرهاب. وباتت أكثر الأعمال الوحشية التي ترتكبها الحكومات الإقليمية محصّنة ضد الانتقادات، في الوقت الذي تقود فيه دولها إلى هاوية "الحرب العربية على الإرهاب".
خلاصة القول، أننا نعيش في زمن الحرب العربية على "الإرهاب الإسلامي"، حيث تعرف أنظمة ما بعد الاستعمار الدكتاتورية هويتها كدول علمانية، وتعرف عدوها بالإرهاب الإسلامي، امتثالا لوصايا هنتنغتون الذي لا حاجة لنا به بعد أن حلت روحه في ترامب، حيث يتمتع الجنرالات ورجال الأعمال في الكيانات ما بعد الكولونياية بدعمه المطلق، ومع ذلك لا يكفون عن ترديد ادعاءات حماية الوطن وحفظ الاستقرار، فيما بديرون لعبة القهر والهيمنة.
فمع تصاعد حدة الاحتجاجات في الجزائر والسودان، أجبر الجنرالات بوتفليقة على الاستقالة، وبعدها بأيام خلع الجنرالات البشير، لكن الاحتجاجات لم تتوقف، مطالبة بتغيير جوهري للنظام. فالأمر لا يتعلق بالاقتصاد والفساد فحسب، بل بالاستقلال والكرامة. فقد تعلم المحتجون من درس مصر عدم الركون إلى الحكم العسكري في إدارة المراحل الانتقالية، فالمؤسسة العسكرية سوف تسعى للحفاظ على السلطة بأي ثمن. فكما يشير الأكاديمي الأمريكي ديريك غريغوري، في كتابه "الحاضر الاستعماري"، دون التمييز بين مختلف أيديولوجيات وأهداف ووسائل حركات المعارضة المختلفة، تخلق سرديّة "الحرب على الإرهاب" نبوءاتها من العداوة، وتُنتج الأصولية التي تدعي محاربتها.
*عن عربي21