الحزن يخترق قلوبنا
الأحد, 21 يونيو, 2020 - 04:21 مساءً

كنت أعتقد أني خلال السنوات الماضية وبالأخص الأشهر الماضية تأقلمت جداً مع أخبار الموت المنتشرة في كافة صفحات أصدقائي على وسائل التواصل الاجتماعي.
 
يعتقد المرء منا أن كثرة تعليقات العزاء التي ينشرها يومياً على منشورات فقدان أقارب زملائه قد حصنته من الحزن، لكن ما تلبث الحقيقة أن تخترق قلبك حين يخطف الموت منك عزيزاً كنت تظن أنك ستراه بمجرد عودتك من غربتك التي طالت كثيراً غصباً عنك!
 
عمو ياسين، لم يكن مجرد أخ لوالدي، كان بطلاً أسطورياً بالنسبة لي، فقديماً عندما أنتهى من دراسة الطب في الاتحاد السوفيتي في بداية سبعينيات القرن الماضي، أستطاع أن يحصل على فرصة عمل في اوروبا الغربية كانت حلم الكثيرين وقتها، لكن وفي طريق سفره تذكر أسرته وقرر انه من الأفضل أن يعود إلى اليمن لمساعدتهم.
 
وفعلاً اتخذ القرار مباشرة وعاد إلى اليمن وعند وصوله تحديداً في عام 1974 وجد اخوته في وضع مادي صعب حيث يعيشوا متفرقين عند أقاربهم، في القرية والحديدة وتعز.
قام عمو ياسين باستئجار منزل كامل في صنعاء ـ ليس شقة وإنما مبنى صغير- وجمع كل اخوانه وبعض اقاربه المحتاجين واسكنهم معه.
 
أسرة كاملة تكفل بمصاريفها وعالج من كان مريض منهم، لم يكن يملك حينها أي مدخول مادي عدا راتبه، لكنه ظل طوال حياته يتكفل بمصاريف الجميع.
 
عندما أراد أن يشيد له منزل بسيط متواضع في بداية الثمانينيات وكان وقتها مدير عام مكتب الصحة بتعز، اقترض مبلغ البناء من البنك، وعندما لم يستطع أن يسدد أقساط القرض للبنك، قرر بيع المنزل الغير مكتمل، وبعد سداد مبلغ البنك قام بتزويج اخوانه بالمبلغ المتبقي، بعد أن ساعدهم في مصاريف دراستهم الثانوية والجامعية.
أبي وأعمامي الآن هم البروفسور الجامعي والقاضي في الاستئناف والمهندس في شركات النفط بفضل الله أولا ومن ثم مساعدة عمو ياسين.
 
طوال حياتي كطفلة كنت مبهورة بكرم عمو فقد كان واضحاً للصغير قبل الكبير أنه كان يصرف ما يملك على أهله وجيرانه، ولم يحدث مطلقاً أن رد جار فقير أو محتاج، لذا توفى عمو اليوم وهو لا يمتلك منزل أو سيارة أو أي ممتلكات يتوقع أن تكون بحوزة شخص بتاريخه ومكانته، لكنه كان يمتلك الأهم من كل شيء، كان يمتلك حب وتقدير كل من عرفه.
 
قبل أن يتخصص في علم الوبائيات، كان يعمل كجراح في مستشفى الثورة العام في صنعاء وكان جراحا ماهرا قام بعدة عمليات جراحية معقدة وناجحة ساهمت بإنقاذ أرواح الناس. ثم انتقل للعمل في المستشفى العام في مدينة خمر في نهاية السبعينيات لمدة ثلاث سنوات، وقتها كانت خمر معروفة بعدم الاستقرار وكثرة حوادثها. كان هو الجراح الوحيد في المستشفى حيث قام بالعديد من العمليات الجراحية الناجحة بابسط الإمكانيات والأساليب، من ضمن تلك العمليات والتي كان يذكرها دائما وصول امرأه حامل مصابة بطلقات نارية مزقت بطنها، والمستشفى بطبيعة الحال كانت مفتقره للإمكانيات الطبية المعروفة لكنه وبالرغم من ذلك استطاع أن ينقذ حياتها وحياة جنينها.
 
كانت انسانيته لا تضاهى، فمنذ أكثر من 30 عاماً حين احتاجت عمتي تدخل طبي أثناء ولادتها، قام بتوليدها وحين احتاجت دم قام بتوصيل الأنبوب من يده إلى يدها. اعطى اخته من دمه في نفس الوقت الذي كان يولدها فيه!
 
رحمه الله، كان جراحاً فريدا من نوعه لذا حزن الكثيرون حين قرر التخصص في علم الوبائيات، لكنه كان يؤمن أن اليمن تحتاجه في هذا المجال أكثر من أي مجال آخر. وحين عاد من دراسته عمل بجد واخلاص في هذا المجال وتنقل في طول البلاد وعرضها لمكافحة الاوبئة الفتاكة وحتى الفترة القريبة الماضية كان يسافر إلى الحديدة ليشرف بنفسه على حملات تطعيم المواطنين ضد مرض الكوليرا اثناء اشتداد الاشتباكات العسكرية فيها.
 
عمو ياسين لم يكن رجلا عاديا، كان بطلا وإنا على فراقه لمحزونون.
 
 

التعليقات