على مسافة قريبة من السماء، تنام مدينة التربة متوسطة السلسلة الجبلية الأوسع والأهم في محافظة تعز، في عمقها الجغرافي المطل على السواحل الجنوبية في عدن، والحامي لساحلها الغربي في المخاء وباب المندب الذي يضيق عنده العالم كواحد من أهم المنافذ البحرية.
وكطبيعة المواقع الجغرافية ذات البعد الاستراتيجي، دائما ما تجلب المتاعب وتحيطها الأطماع، وقد تتحول للعنة طالما أصحابها جهلوا طريق الاستغلال الأمثل لها وملأ ثغرات الفراغ، وهو الأمر ذاته الذي انسحب على مدينة التربة وظهر بشكل واضح مع بدايات سيطرة الإمارات على الشريط الساحلي لمحافظة تعز ومديرياته، ومن يومها وهي تضع عينها على المدينة وشبكتها الجبلية كخطوة استراتيجية لتأمين سيطرتها على الساحل وعزل مدينة تعز.
أوكلت الإمارات ،مبكرا، مهمة السيطرة على التربة ومناطق الحجرية لضابطها في الساحل طارق صالح بالتعاون مع أدواتها في المنطقة، بصورة أدق أفرغت له المهمة بعد فشل أدواتها في مدينة تعز بقيادة ابو العباس، وتكرار الفشل في مناطق الحجرية.
ولعدم تمكنها في تكييف اللواء 35 مدرع تحت مظلة الطاعة الكاملة على وجه التحديد أثناء وجود الشهيد عدنان الحمادي الذي مثل عامل توازن للمنطقة وحافظ على مسافة معينة في علاقته بالإمارات واضعا فيها تسليم المنطقة للقائد السابق لفرقة قناصة الحوثي خطا أحمر، وبالتالي كان الخلاص منه خطوة أولى باتجاه الدفع بالمنطقة إلى القبول بطارق.
لم يخفي طارق رغبته بالتمدد إلى مناطق الحجرية تاركا حليفه السابق يؤمن ظهره في الحديدة ومالك طوقه الجديد يؤمن طريقه باتجاه تعز، ليدفع بالعشرات من أفراده إلى مدينة التربة بلباس النازحين، بالتزامن مع محاولاته السيطرة على طول الطريق الرابط بين الساحل والحجرية مرورا بالوازعية عبر نشر عشرات النقاط، وهو الأمر الذي لاقا ممانعة من أهالي المناطق المحيطة، كما عمل على استقطاب مجندين وضباط من اللواء 35، بوتيرة أعلى عقب استشهاد العميد الحمادي، في محاولة للسيطرة على اللواء، وهذه نقطة إضافية تقارب ملابسات مقتل الحمادي ومن يقف وراءها.
ومع نهاية الأسبوع الفائت علقت مدينة التربة في منتصف التناول الإعلامي وظلت حديث الساعة، وعنوانا لأبرز الأخبار والتحليلات التي استدعت مختلف الأزمات السياسية في البلد، لمجرد دخول قرابة عشرة أطقم شرطة عسكرية للمدينة في مهمة أمنية، في استدعاء مشبوه يكشف حقيقة ما تعيشه المدينة وما يخطط للحجرية.
هذه المهمة الروتينية استنفرت وسائل إعلامية بحالها، وأقلام تغيب دهرا عن المشهد السياسي والإعلامي وتصحو "بوخزة عقال" يجمع طيف واسع منها الدرهم الإماراتي الذي أعاد إحياء بعضها؛ وهي التي ظلت ميتة في الصحافة لسنوات ،ولم تكتفي بذلك، حين بدلت حبرها وطمست تاريخها "اللي كان ابن ناس قبل أن يتحول لابن خطيئة".
جيش من الأقلام، مختلفٌ ألوانه ومنبته، من يسار ويمين السياسة وشرق وغرب الجغرافيا وكل المتضادات التي يجمعها ضابط استخبارات، اجتمعت كلها عند نقطة واحدة تحاول الدفع للصدام داخل المجتمع التعزي، والتغطية على حقيقة الوضع الذي لُغمت به التربة.
يكشف الحال توجس الإمارات ومن أمامها أدواتها المختلفة، أقل احتمال لفشل مشروعها في التربة وسلسلة مناطق الحجرية، والذي بات واضحا في سعيها لعزل محافظة تعز عن ساحلها والسيطرة على الحجرية كمنطقة عازلة وخانقة لخصومها في المحافظة التي تكسرت فيها كل محاولات الإمارات طوال خمسة أعوام.
هذا الهدف له بعد آخر يضع تعز في مرمى سيطرة الحوثي ويدفعها باتجاهه عبر خنقها تماما وقد استعصت عليه لسنوات، وهي خطوة أخيرة لاستكمال تقاسم السيطرة مع الإمارات وقطع الطريق أمام أي محاولات مستقبلية لاستعادة تعز لساحلها ووصول الشرعية لطرف البحر عبر أهم منفذ بحري في المنطقة وهو ما يعني قلب معادلة القوة وتحويل الخناق بصورة عكسية.
وبالنظر للمعطيات المصاحبة لأحداث التربة، يمكن القول أن المنطقة دخلت مرحلة فاصلة ومصيرية تستوجب استنفار سلطات الدولة في المحافظة قبل أن تجد نفسها داخل دائرة مغلقة تماما، حال تركها لمدينة التربة تواجه مصيرها وحيدة، بينما في الواقع أنها مصير تعز ومركز مستقبلها.