لا داعي للكلب!
الثلاثاء, 10 سبتمبر, 2024 - 07:37 مساءً

في أواخر التسعينات دفعنا نحن المعلمون ثمن الصراعات الحزبية فتم تفريقي عن زملائي بعد أن كنا نعمل في مدرسة واحدة.!
 
فوجئت بإدارة المركز التعليمي تنقلني من تلك المدرسة إلى مدرسة أخرى في منطقة نائية، وفي مديرية أخرى.!
 
سلموني أوراقي جاهزة كقرار نهائي لا استئناف فيه فحزمت حقيبتي وغادرت إلى المنفى الجديد وفي حلقي غصة تتكور وتكاد تدفعني للبكاء.!
 
بقيت لساعات في العدين حتى جاءت سيارة ستذهب إلى منطقة بني محمود ، ركبت فيها وسرنا لساعات في طريق وعرة حتى وصلنا تلك المنطقة ليلاً.
 
سألت على بيت الشيخ فدلوني عليه، وقد استضافني تلك الليلة، وظل يحكي لي عن دوره في حروب المناطق الوسطى، ومواجهة الجبهة الوطنية حتى غرقت في النوم.!
 
يوجد خمسة من المدرسين من أبناء المنطقة استقبلوني بترحاب، باشرت عملي، وسلموني مفتاح السكن الذي كان عبارة عن غرفة ومطبخ وحمام بحالة جيدة.
 
قرية نائية في أعماق الريف ، أهلها بين الفطرة والبساطة، الأيام تمضي كئيبة مملة ، في الصباح أجلس بجوار السكن أستمع للراديو وأراقب البيوت وخيوط الدخان ترتفع منها ، ثم يخرج الفلاحون بمواشيهم إلى الحقول ، وفي المساء يعم الظلام الا من أضواء الفوانيس التي تتسلل من النوافذ ، باستثناء بيت الشيخ المضاء بالكهرباء.
 
 بعد شهر من وصولي فوجئت ذات صباح على ضجة وصراخ في قرية ظهرة الوادي المقابلة للمدرسة وتجمهر الناس بشكل ملفت، فدفعني الفضول إلى الذهاب إلى القرية واستطلاع الأمر.
 
حين وصلت كان عبده مرزوق صاحب أكبر بقالة في المنطقة يصرخ ويصيح ، لقد سطا لصوص على نقوده، كما سرقوا بعض المواد الغذائية.
 
اقتربت منه وهدأت من روعه وأكدت له أنني سأكشف اللص، تجمع الناس حولي واتجهت الأنظار إلي وليس لديهم إلا سؤال واحد:
ــ كيف ستكشف السارق يا أستاذ؟
 
ــ سأذهب غدا إلى مدينة إب، وهناك لدي ضباط أصدقاء في البحث الجنائي، وسأطرح عليهم الأمر ، ونعود بلجنة من الضباط، وكلب بوليسي محترف، قاطعوني:
 
ــ كيف يعني محترف؟
ــ يعني مدرب، يشم السارق من بعيد.
وشرحت الأمر أكثر:
 
ــ هذا الكلب تم تدريبه لسنوات طويلة، يشم اللص من بين ألف واحد، وهناك جهاز مطور يرسل ضوء على راس أي إنسان فيكشف من ذاكرته أي سرقة قام بها.
 
فغروا أفواههم دهشة فشرحت أكثر:
 
ــ هذا الجهاز مربوط بتلفزيون كبير سنأتي به معنا ونضعه في الساحة امام الكل، لو الواحد سرق شيء حتى قبل 50 سنة فهذا الجهاز سيحلل صور الذاكرة ، ويظهره وهو يسرق وسيتفرج عليه كل الناس.
صرخ أحد المسنين:
 
ــ يا فضيحتاه، فضائح آخر الزمان، قامت القيامة.!
 
وأضاف ذلك المسن:
 
ــ أنا سأعترف لكم من الآن.. زمان نفسي اشتهت اللحمة فسرقت كبش من ديمة غالب ردمان وهذه قيمته.!
 وأخرج من جيبه نقودا قيمة الكبش قائلا:
 
ــ سأذهب وأناوله قيمة الكبش حقه قبل ما الجهاز هذا يفضحنا أمام خلق الله.
بعد أن أخبرتهم بالخطة التي طرأت في ذهني تركتهم وغادرت إلى المدرسة.
أثناء فترة الراحة جاء عبده مرزوق وهو يتصبب عرقاً وأخبرني بأنه قد وجد نقوده ولا داعي لأن آتي بالكلب.!
نظرت إليه نظرات شك فنكس رأسه وقال سآتيك بعد الغداء وأوضح لك.
بعد الغداء جاء عبده مرزوق بحزم القات الفاخر، كان مرتبكا يغشاه العرق، وفي وجهه قلق وهم:
ــ ما لك يا عم عبده صلي على النبي؟
ــ ما فيش داعي للكلب يا أستاذ
ــ لماذا؟
ــ فلوسي رجعت لي ، وأنا سامحت اللصوص وأنتهى الأمر .
أخبرته أنني مصمم على أن آتي بالكلب والأجهزة إلا إذا أخبرني بسبب مقنع.
 
هب واقفا ونظر من كافة النوافذ ولما تأكد من خلو المكان جلس وبدأ يعترف:
 
ــ أصلا أنا زمان لما أسست الدكان سرقت ذهب زوجتي وبدلته بذهب مزيف، وسرقت ثور جارنا، وحوالي 20 رأس غنم، وخمسة من خلايا النحل من حوش نعمان ناصر، هذه التي أذكرها.!
ــ يعني تاريخك أسود ؟!
ــ بس أنا تبت لما فتح الله علي.
ــ تبت وإلا خفت من الفضيحة؟!
 
أجهش بالبكاء كأنه طفل أضاع أمه، وفوجئت به يقفز من مجلسه ويهجم علي يقبل رأسي وركبتي وأقدامي وهو يرجوني ألا أفضحه قدام الناس.
أكدت له أنني لن آتي بالكلب والأجهزة حتى لا أفضحه، وحينها اطمئن وانزاح عنه الهم.
بعد العصر غادر عبده ومرزوق وجاء ثلاثة من المدرسين، جلسوا وقد اعتراهم الخجل والارتباك وسألوني:
ــ يا أستاذ محمد أنت مصمم تجيب الكلب والجهاز هذا الذي قلت عليه؟
ــ طبعا لا بد أن نكشف اللصوص ونرجع لعبده مرزوق فلوسه.
ــ طيب حتى نحن سيوجهون ضوء الجهاز على رؤوسنا؟
ــ طبعا الكل سيتعرض للاختبار، أنا لا أجامل، أنتم زملاء على العين والراس لكني الحق حق.
تطلع بعضهم إلى بعض ثم قالوا:
ـ نحن قدوة للتلاميذ ولم نسلم أثناء الطفولة والمراهقة من القيام ببعض الحركات الطائشة.. قاطعتهم:
ــ مثل ماذا ؟
ــ يعني سرقة دجاج ، سرقة فواكه من مزرعة ؟
 
ــ بسيطة.. خلاص أنتم سأجعلكم من اللجنة التنظيمية، ولن يقرب منكم الكلب والأجهزة.
 
وقفوا يشكروني والفرحة بادية على وجوههم وغادروا السكن وهم يضحكون ويتساءلون عن حال غيرهم عندما يأتي الكلب والأجهزة؟!
لقد انطلت عليهم الحيلة.!
 
وتدفق الناس علي وكلهم يرجوني ألا آتي بالكلب والأجهزة، وكلهم اعترفوا بسرقات مضحكة وغريبة ولا تكاد تصدق.!
 
قبيل منتصف الليل وأنا استعد للنوم طرق الباب بشدة فهرعت أفتح بملابسي الداخلية، وقد قررت أن اشتبك مع هذا الوقح الذي أطار نومي، فتحت الباب فإذا بالشيخ يدخل ويغلق الباب خلفه.
 
أربكني قدومه تماما فقمت ألبس ملابسي الكاملة وأرحب بقدومه.
 
قال:
 
رمى لي بكيس من القات الفاخر قائلاً:
ــ خزن يا أستاذ
ــ بس الوقت متأخر؟
ــ خزن معي ساعة وبعدها نام.
 
خزنت معه فإذا به يسألني عن قصة الكلب والأجهزة؛ فأكدت له أنني مصمم على الأمر لأكشف اللصوص.
وفوجئت به يقول وقد تجهم وجهه:
 
ــ ستأتي بالكلب المدرب والأجهزة والضباط هكذا كأن هذه البلاد ملك  لك؟!
 
وأضاف:
 
ــ من وكلك على الناس؟ أنت مدرس وإلا قد عينت نفسك شيخ للمنطقة أو مدير أمن؟!
فوجئت بحديثه فارتبكت لكنني تماسكت قائلاً:
 
ــ يا شيخ أنا لن آتي بالكلب ولا بالأجهزة والضباط، فقط هي كذبة لأجل نكشف اللصوص، ولأجل يأمن الناس على ممتلكاتهم.
وأوضحت:
 
ــ السارق الآن في خوف، وسيعيد ما سرقه حتى لا يفتضح أمام الناس.
هدأ الشيخ من غضبه وبدأ يبتسم ثم ضحك قائلاً:
ــ الله أكبر عليك، أنت خطير، عقلك مش بسيط.
 
وبدأت أروي له القصص والنكات وأجرجره في الكلام فبدأ يعترف:
 
ــ تعرف حتى أنا خفت.
ــ كيف يا شيخ؟
ــ الواحد ما يسلمش من الخطأ وكلنا بشر.
واعترف الشيخ بالكثير، بعد أن أكدت له أن سره في بير.!
في صباح اليوم التالي حدث ما لم أكن أتوقعه .!
 
لم ينكشف اللصوص ، بل غادر معظم أهالي المنطقة إلى جهات مجهولة ، ولم يعودوا إلا بعد أيام ، بعد أن تأكدوا من عدم مجيء الكلب والأجهزة.!
 

التعليقات