لطالما كانت اليمن ساحةً للرهانات الكبرى وطموحات القوى الإقليمية والدولية، التي ما لبثت تُعيد تشكيل خرائط نفوذها تحت شعارات متناقضة ووعودٍ لا تعكس سوى مآربها الضيقة. في تصريحات وزير الدفاع الأميركي الأخيرة، تكشف الحقائق بأوضح صورها: الضربات الأميركية ضد الحوثيين لا تأتي بدافع مناصرة الحق أو استعادة الدولة اليمنية وإنهاء الانقلاب الحوثي، بل هي انعكاسٌ مباشرٌ للمصالح الاستراتيجية التي تخدم الولايات المتحدة فقط. الملاحة البحرية في البحر الأحمر واستقرار حركة التجارة الدولية هما الأولوية العظمى، أما معاناة اليمنيين وصراعهم لأجل البقاء فلا تكاد تحضر في هذه المعادلة.
تاريخ التدخلات الدولية في اليمن يعيدنا إلى إرثٍ ثقيلٍ صنعته ذات المؤسسات الأميركية، التي كانت يومًا ترى في جماعة الحوثي أداةً للتخلص من الدولة ومؤسساتها. كان ذلك فصلًا من لعبةٍ كبرى، تُدار بعقلية المصالح الآنية والاصطفافات البراغماتية، دون اكتراثٍ بحجم الخراب الذي سيؤول إليه الوطن. فما كان يومًا "حاجةً ملحةً" في عهد الرئيس أوباما، ها هو اليوم يتحول إلى عبءٍ استراتيجي تسعى الولايات المتحدة للتخلص منه بشراسة. لكن المثير للسخرية، أن المصالح الأميركية هي وحدها ما يُحرك هذا التوجه، لا المأساة التي يعيشها الشعب اليمني على مدار سنوات طويلة.
الحوثيون، مهما بدوا كشوكةٍ في خاصرة الإقليم، لم يشكلوا يومًا تهديدًا حقيقيًا للمصالح الأميركية. إنهم، قبل كل شيء، تهديدٌ وجوديٌ لمصالح اليمنيين وحدهم. هذا الشعب الذي يعيش مأساة الحرب والانقسام لم يكن يومًا في عداءٍ مع الولايات المتحدة، بل إن الكثير من أبنائه يحلمون بفرصة حياةٍ أفضل، حتى لو كانت في المهجر، ويطمحون للهجرة إليها. ومع ذلك، تتعامل القوى الدولية مع اليمن لا كأرضٍ للإنسان والبشر، بل كرقعة شطرنج تُدار فيها حسابات النفوذ والممرات الاستراتيجية.
لقد قلناها مرارًا: معركة تحرير اليمن من مليشيا الحوثي، واستعادة سيادته ووحدته، لن تكون إلا بيد اليمنيين أنفسهم. المراهنة على الضربات الأميركية أو الدعم الخارجي هي رهانٌ خاسرٌ لا محالة، لأن هؤلاء لا تهمهم سوى مصالحهم الخاصة. سيضربون حين تمس مصالحهم الحيوية، وسينسحبون حين لا يجدون ما يعزز وجودهم. اليمن، بما تحمله من تاريخٍ وجغرافيا وإنسانية، ليست في أجنداتهم إلا وسيلةً لتحقيق أهدافهم، وليست غايةً تستحق التضحية من أجلها.
اليمن ليست قضيةً هامشية في حسابات القوى الدولية، لكنها ليست أولويةً حين يتعلق الأمر بالإنسانية والمصالح البراغماتية. هذه هي الحقيقة القاسية التي يجب أن تُدركها الأجيال اليمنية. العالم الذي يزعم أنه يُدافع عن الحقوق ويُناصر العدالة يمارس حيادًا انتهازيًا حين يستدعي الموقف وقفةً أخلاقية، ويُحرك أساطيله فقط حين تتعرض مصالحه المباشرة للخطر. هذه الحسابات هي التي جعلت اليمن رهينةً لقراراتٍ لا تصب إلا في مصلحة الآخرين، وتركته يكابد المعاناة بلا أفقٍ واضح.
إن معركة اليمنيين هي معركة وجود، لا تُخاض بالوكالة عن الآخرين، ولا تُختزل في انتظار غاراتٍ أو قراراتٍ من قوى عظمى. إن معركتنا ضد هذه المليشيا الإرهابية اختبارٌ حقيقيٌ للقدرة على النهوض من تحت الرماد، وعلى بناء دولةٍ تستعيد إرادتها المسلوبة. إنها معركة لإعادة بناء الذات، ولملمة الجراح، والوقوف في وجه المليشيات التي كانت ولا تزال أداةً للدمار.
الانتظار على أبواب القوى العظمى لن يجلب سوى مزيدٍ من الوهن والانقسام، فيما يتطلب التحرير شجاعةً ذاتية وإيمانًا عميقًا بأن الحرية تُنتزع ولا تُمنح. هذه ليست مجرد دعوة لتحرير الأرض من مليشيا الحوثي، بل دعوة لتحرير الروح من وهم الاتكال على الدعم الخارجي الذي لا يأتي إلا بشروطٍ تستنزف القرار الوطني.
في هذا العالم الذي يتحرك على إيقاع المصالح المتبادلة، يبقى اليمنيون وحدهم قادرين على إعادة صياغة مصيرهم، وإثبات أن الانتصار لا يحتاج إلى وساطةٍ أو تدخل، بل إلى إيمانٍ بأن الحرب هي حربهم، والوطن هو وطنهم، وأن الغد يحمل وعدًا لأولئك الذين يقاتلون لأجل حريتهم، لا أولئك الذين ينتظرون خلاصًا يأتي من الخارج. هذه هي الحقيقة التي يجب أن تُرسخ في وجدان كل يمني، لأن المعركة لم تنتهِ، ولن تنتهي إلا بأيدي أبنائها.
العالم الذي يزعم أنه يدعم اليمن في محنتها، يمارس الحياد حين تستدعي القضايا الأخلاقية موقفًا حاسمًا، وينحاز حين تهدد مصالحه المباشرة. هذه هي حقيقة المشهد. لن يصنع أحد عدالة اليمن أو يعيد إليها الحياة ما لم يصنعها اليمنيون أنفسهم. على اليمنيين أن يدركوا أن المراهنة على الخارج هي أقصر طريق لفقدان القرار، وأن استعادة البلاد تبدأ من الداخل، من وعي الشعب بأنه وحده المسؤول عن تقرير مصيره.
اليمن ليست مجرد معركة عابرة في ملفات القوى الكبرى، بل هي قصة نضالٍ طويلٍ لشعبٍ يريد الحياة، ويستحق الحياة. وإذا كان العالم يمارس انتهازية المصالح، فإن على اليمنيين أن يمارسوا شجاعة المصير. لقد أثبت التاريخ أن الأمم تنهض حين تتحرك بإرادتها، وأن انتظار الإنقاذ من الخارج لا يجلب سوى الوهن والانقسام. اليوم، نحن أمام لحظة فارقة: إما أن ننهض بأيدينا، أو نبقى رهينةً لحساباتٍ لا نملك فيها سوى دور الضحية.