شكّلت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر قاعدة انطلاق كبيرة في ميدان الجمهورية والحرية والديمقراطية، فكانت اللبنة الأساسية للثورات اليمنية التي مثّلت امتدادًا لهذه الثورة المباركة، ولم يدر الزمن بعدها إلا دورة واحدة ثم بدأت محطة جديدة من النضال.
سنة كاملة و18 يومًا هو الفارق الزمني بين ثورة السادس والعشرين من سبتمبر وثورة الرابع عشر من أكتوبر، التي جاءت امتدادًا لنضالات الشعب اليمني في الشمال، فكانت ثورة الرابع عشر من أكتوبر كابوسًا مرعبًا أرّق مضاجع الاستعمار البريطاني في الجنوب، بعد أن اكتسب مناضلوها خبرات كثيرة من ثورة سبتمبر التي شارك بها الكثير من مناضلي ثورة الرابع عشر من أكتوبر، حتى غربت شمس الإمبراطورية الكبرى من جنوب اليمن في فجر الثلاثين من نوفمبر لعام 1967م، لتتخلص اليمن من أسوأ نظامين في تاريخها.
استمر النضال عبر كثير من الرؤساء شمالًا وجنوبًا، حتى أشرق فجر الثاني والعشرين من مايو العظيم ليعلن للأمة ميلاد فجر جديد من تاريخ اليمن وفصل جديد من فصول الوحدة اليمنية، التي لم تصمد كثيرًا نتيجة اختلاف مصالح القائمين على الوحدة، فانفجرت حرب صيف 1994، وما تبعها من أحداث عاشت اليمن خلالها فترة وعي ونضوج فكري وسياسي كبير، رأى الشعب من خلاله أهداف ثورة سبتمبر تذهب سُدى، والإماميون يتوغّلون في الدولة بشكل كبير وبمسميات جمهورية مختلفة، حتى تمكنوا من الدولة من خلال تصديرهم كمؤرخين وأدباء ومؤلفين، وهم في حقيقة الأمر كانوا يهيّئون أنفسهم للسيطرة على اليمن ولكنهم ينتظرون الفرصة المناسبة.
مرورًا بحركة "الشباب المؤمن" ووصولًا إلى عام 2004، عندما وجد الحوثيون أنفسهم قوة تستطيع أن تبرز على أرض المعركة، بدأوا بشن هجماتهم على معسكرات الجيش وتمكنوا من السيطرة على صعدة بالكامل بغطاء قبلي وطائفي واسع. وبغض النظر عما يُقال بأن الرئيس صالح كان يدعمهم ليستخدمهم ورقة ضغط على السعودية، وأيضًا لأجل أن يتخلص من علي محسن الأحمر والفرقة الأولى مدرع، إلا أنه خاض معهم ست حروب انتهت بمقتل الهالك حسين بدر الدين الحوثي على يد بطل الجمهورية الكبير الشهيد اللواء ثابت مثنّى جواس.
بعدها توسع الخلاف بين الرئيس صالح وعلي محسن، وأعلن صالح عن أحقية أحمد ابنه في الترشح لرئاسة الجمهورية، في تلميح وصفه المعارضون له بأنه توريث للحكم، وبأن أهداف سبتمبر التي لم تتحقق بحاجة لثورة أخرى لتصحيح المسار. فانتفضت ثورة جديدة من شباب اليمن لتصحيح الثورة وتحقيق أهداف سبتمبر في 11 فبراير من العام 2011، وهي ما تحولت فيما بعد إلى كابوس عند البعض، حتى ممن شاركوا فيها، بسبب الأخطاء التي حدثت بإتاحة المجال للحوثيين أن يكونوا طرفًا في الثورة وتوضع مظلوميتهم ضمن أهدافها. وفي عام 2012 تنحى صالح عن الحكم بحصانة دولية من خلال المبادرة الخليجية وتبني مسودة الحوار الوطني الشامل في صنعاء برعاية أممية وخليجية. وخلال هذه الفترة، وأثناء هشاشة الوضع، كانت الميليشيات تعدّ نفسها وتمكّن وجودها للانقلاب، وهو ما قامت به في اليوم الأسود بتاريخ اليمن يوم 21 سبتمبر من العام 2014، وهو التاريخ الذي اختارته الميليشيات بعناية لأجل أن تطمس معالم الثورة الأم 26 سبتمبر التي حررت اليمن من وطأة الإمامة، والتسويق لنكبتهم المزعومة. حيث قام الحوثيون باقتحام العاصمة صنعاء بذريعة محاربة بيت الأحمر وحزب الإصلاح، فسيطروا على آخر معاقل الجمهورية في عمران، لواء الشهيد حميد القشيبي، الذي قاومها مقاومة شرسة وانتهت المعركة باستشهاده ودخول الحوثيين عمران، ومباركة رئاسية لهم بذلك. ولم تكتفِ أداة الموت الحوثو-إمامية بهذا القدر، بل ادّعت مظلوميتها من جديد جراء جرعة 200 ريال اعتمدها رئيس الحكومة محمد سالم باسندوة بشكل مؤقت لأجل النهوض الاقتصادي، فكسبت تأييد الشعب من أبناء القبائل لها. وعندما رأت أن الجيش بدأ يتهيكل والدولة في مرحلة ضعف، استغلت الفرصة، وكعادتها الميليشيات الشيعية منذ خلافة الإمام علي إلى يومنا، تستغل أي فراغ وأي ضعف في الدولة لتنقلب عليها، وهكذا فعل الحوثيون بعد أن دخلوا إلى صنعاء بتواطؤ من الرئيس السابق صالح، الذي كان يهدف للانتقام من خصوم فبراير، فقرر أن يجعل من خصومه السابقين أصدقاء، وسهّل عملية دخولهم صنعاء واجتياحها من خلال تسليم معسكرات الدولة التي كانت ما تزال تدين له بالولاء المطلق. وأعلن الحوثيون، وبمساندة ودعم الحرس الجمهوري وقوات الجيش السابق، فرض الإقامة الجبرية على الرئيس هادي وحكومته، واختطاف بن مبارك مع مسودة الدستور اليمني ومخرجات الحوار الوطني الشامل. ليتحول فجأة خصوم الأمس الذين باركت لهم الدولة السيطرة على عمران، إلى خصوم يحاصرون الرئيس. وبأعجوبة فر الرئيس هادي إلى عدن، وأعلن الحرب ضد الحوثيين من هناك، بعد أن سيطروا على العاصمة وتوغلوا في بقية المحافظات. فقامت "عاصفة الحزم" لمحاربة الحوثيين، وتحركت معها جبهات كثيرة لمواجهتهم. ولكي لا ننسى، فقد ارتكب الحوثيون أبشع الجرائم في حق الشعب اليمني في المحافظات، أبرزها تعز، حيث قصص القصف والحصار والنزوح والتشريد والحرب الشعواء التي قاموا بها انتقامًا من الشعب. ركزوا ضرباتهم وجرائمهم على تعز وحاصروها حصارًا أشد من حصار الكيان لغزة. فلماذا تعز إذن؟
لأن تعز كانت دائمًا حجر عثرة أمام مشاريع الطائفية والقبلية، وكانت حاجزًا منيعًا في التصدي لمشروعهم الخبيث أثناء حربهم في عدن التي خرجوا منها مذعورين خلال أقل من عام من سيطرتهم عليها، بعملية عسكرية خاطفة. ليستمروا بعدها بحصار وقتل تعز، التي لم يبقَ لها من منفذ سوى طريق الشقب الجبلية الخطرة. ولكن الميليشيات التي لا تعرف الإنسانية قامت باقتحام منطقة الشقب أواخر العام 2015م لتضييق الخناق على المدينة كليًا، والتعامل مع من يدخل الدقيق إليها بأنه "مهرّب"، وإجباره على توقيع ورقة التزام بعدم تهريب الدقيق للمدينة. وما زالت تلك الالتزامات موجودة شاهدة على جرم أقبح عصابة دموية في تاريخ اليمن. وبفضل سواعد الأبطال من أبناء تعز المقاومين ونسائها الحرائر، استطاعت المدينة أن تجد منفذًا جديدًا لها وكسر حصارها جزئيًا وفتح شريان حياة جديد عبر طريق الأقروض الجبلية، لتتحول رحلة الخمس الدقائق إلى خمس ساعات انتقاماً من هذه المدينة التي سجلت أروع محطات النضال ضد الإمامة القديمة والجديدة.
أما صالح، فقد كان مكابرًا بوقوفه بجانب الحوثي، ومنتقمًا من الثوار الذين أطاحوا به. لكنه لم يستمر على مكابرته، فأدرك أن الحوثيين أشد خطرًا عليه من الثوار، ولكن إدراكه كان متأخرًا جدًا، حيث إن الحوثيين أصبحوا يتحكمون بكل شيء خاص به. فأعلن صالح في الثاني من ديسمبر من العام 2017 ثورة ضد الحوثي وقاتلهم في صنعاء، فانتهت المعركة بمقتله يوم 4 ديسمبر 2017م، لينفرد الحوثيون بالحكم وحدهم والبدء بفرض العقوبات على أنصار صالح ممن كانوا معهم في نفس الخندق.
وهكذا يظل السادس والعشرون من سبتمبر ثورة مستمرة وشعلةً لا تنطفئ، ومعركةً مفتوحة بين شعبٍ اختار الجمهورية والحرية، وفلول إمامةٍ تحاول عبثًا إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.