المؤتمر… نصف قرن من الخيانة
الجمعة, 19 ديسمبر, 2025 - 04:01 مساءً

منذ ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، التي دشّنت ميلاد الجمهورية اليمنية على أنقاض الحكم الإمامي، ظلّ اليمنيون يحلمون بدولة وطنية حديثة، قائمة على المواطنة المتساوية، والتداول السلمي للسلطة، وسيادة القانون. غير أنّ هذا الحلم تعرّض، على مدى عقود، لسلسلة من الانتكاسات العميقة، كان حزب المؤتمر الشعبي العام في قلبها، لاعبًا رئيسيًا، ومرتكزًا بنيويًا لمعظم الاختلالات التي أصابت الدولة اليمنية.
 
حزب المؤتمر الشعبي العام، الذي تحوّل من إطار سياسي جامع إلى بنية سلطوية مغلقة، صادرت الدولة، وجرّدت الجمهورية من قيمها، وحوّلت السلطة إلى غنيمة، والوطن إلى مجال استثمار خاص. لم تكن نكبات اليمن المتلاحقة، ولا أزماته السياسية، ولا خيباته الوطنية، أحداثًا معزولة أو طارئة، بل جاءت في سياق مسار طويل كان المؤتمر الشعبي العام في مركزه ومحوره ورافعة استمراره.
 
لقد أُفرغت الجمهورية، على يد هذا الحزب، من مضمونها الأخلاقي والسياسي، ولم تعد مشروعًا وطنيًا قائمًا على المواطنة والمؤسسات، بل تحوّلت إلى واجهة شكلية تُدار بعقلية التوريث والاحتكار. باسم الجمهورية، جرى وأد الديمقراطية، وباسم الاستقرار، تم تعطيل التداول السلمي للسلطة، وباسم الدولة، أُضعفت مؤسساتها لصالح شبكات النفوذ والولاءات الشخصية. هكذا تشكّل نظام حكم لا يؤمن بالجمهورية كقيمة، بل يستخدمها كشعار مؤقت لإدامة السيطرة.
 
والأخطر من ذلك أن المؤتمر الشعبي العام لم يكتفِ بتشويه الجمهورية، بل لعب دور الأداة الضاربة في هدمها من الداخل. فحين حانت لحظة الاختبار التاريخي، لم يتردد هذا الحزب – أو البنية العميقة التي تشكّل باسمه – في بيع الجمهورية للإمامة، وتجريدها من كل مقوماتها: الجيش، والمؤسسات، والشرعية المعنوية، والرمزية الوطنية. لم يكن تسليم الدولة لقوى مناهضة للجمهورية فعلَ عجز، بل نتيجة طبيعية لمسار طويل من تفكيك الدولة وتجفيف روح سبتمبر، حتى بات الانقلاب على الجمهورية ممكنًا، بل سهلًا، بفضل ما أُنجز مسبقًا من تدمير منظم لقيمها.
 
وفي موازاة هذا المسار، سيطر المؤتمر الشعبي العام على مفاصل السلطة، ولم يعتبرها مسؤولية وطنية، بل اعتبرها مشروعًا استثماريًا خاصًا. حيث تحوّلت المناصب ، المدنية والعسكرية، إلى أدوات تراكم ثروة ونفوذ، تُدار لصالح العائلة والدائرة الضيقة، لا لخدمة الشعب. لم تُمارس السلطة بوصفها تكليفًا، بل بوصفها امتيازًا دائمًا، يُورَّث ويُحمى ويُحتكر، حتى أصبحت الدولة نفسها جزءًا من ملكية غير معلنة.
 
أما السلك الدبلوماسي اليمني، فقد كان أحد أكثر القطاعات التي يهيمن عليها المؤتمر إلى اليوم . وبلا من  أن تكون صوت اليمن في الخارج، ومنبر الدفاع عن قضاياه، تحوّل في ظل هيمنة المؤتمر إلى ملحق استثماري، تُدار سفاراته كإقطاعات عائلية، تُوزَّع المناصب فيها كمكافآت ولاءات، وتُستثمر مواردها لخدمة أشخاص لا وطن. لم يحمل كثير من الدبلوماسيين قضية اليمن، ولم يعكسوا معاناة شعبه، ولم يدافعوا عن الجمهورية ولا عن الدولة، بل انشغلوا بتأمين الإقامات، وحماية المصالح، وبناء شبكات منفعة خاصة، بينما كان اليمن ينزف ويُغيب عن المنابر الدولية.
 
ولم تكن علاقة المؤتمر بالقوى الخارجية علاقة دولة بدولة، بل علاقة وظيفية نفعية. فما من قوة إقليمية أو دولية امتلكت أطماعًا في اليمن، إلا ووجدت داخل هذا الحزب من يؤدي دور العميل أو المرتزق السياسي، هكذا أُضعفت السيادة، وتحوّل القرار الوطني إلى سلعة تفاوض، وصار اليمن ملفًا يُدار من الخارج، بأدوات داخلية نشأت وتربّت في كنف هذا النظام.
 
لم يكتفِ المؤتمر الشعبي العام بإضعاف الدولة وإفراغ الوحدة من مضمونها، بل تورّط بشكل مباشر في العمالة السياسية لتفكيك اليمن، حين وقف، عبر رموزه وشبكاته وقواه ، إلى جانب مشاريع الانفصال والتشظي، خدمة لمصالحه وتحالفاته، استخدم الوحدة شعارًا حين خدمته، ثم خانها حين كانت مصلحته  ، فكان شريكًا فاعلًا في تمزيق الوطن، لا مجرد شاهد على انهياره.
 
إن أخطر ما ارتكبه المؤتمر الشعبي العام في هذا السياق هو تحويل الخيانة إلى ممارسة طبيعية، وتقديمها بوصفها “واقعية سياسية”. فالتخلي عن الوحدة لم يُقدَّم كجريمة وطنية، بل كخيار اضطراري؛ والوقوف مع قوى التفكيك لم يُوصَف كعمالة، بل كتنويع تحالفات؛ والارتهان للخارج لم يُسمَّ باسمه، بل غُلّف بخطاب المصلحة الوطنية. بهذه اللغة الملتبسة، جرى تبرير ما لا يُبرَّر، وتطبيع ما لا يمكن قبوله.
 
وهكذا، لم يكن المؤتمر مجرد حزب أخفق في حماية الوحدة، بل كان فاعلًا أساسيًا في هدمها سياسيًا وأخلاقيًا. فقد دمّر الثقة بين مكونات الوطن، وأضعف فكرة الدولة الجامعة، وفتح الباب أمام مشاريع ما دون الدولة، ثم ما دون الوطن. ومن هنا، فإن الحديث عن وحدة الصف لا يمكن أن يتم فوق أنقاض هذه الخيانات، ولا عبر الوجوه ذاتها التي ساهمت في تمزيقها.
 
إن الجمهورية لا تُستعاد بالشعارات، بل بإرادة سياسية صادقة، وبقطيعة حقيقية مع منظومات جعلت من التفكيك خيارًا، ومن الانقسام أداة، ومن الوطن ورقة تفاوض. وما لم يُحاسَب هذا الإرث، وتُفكك شبكاته، وتُستعاد السياسة بوصفها فعلًا أخلاقيًا ومسؤولية وطنية، فإن أي حديث عن وطن  أو دولة سيظل هشًّا، قابلًا للانكسار عند أول اختبار.
 

التعليقات