قراءة في رواية دفاتر الطين والدم لعبدالحليم غزالي
- حمدي البكاري الاربعاء, 22 مايو, 2019 - 10:16 مساءً
قراءة في رواية دفاتر الطين والدم لعبدالحليم غزالي

ما أن تفرغ من قراءة رواية دفاتر الطين والدم للزميل الصحفي والكاتب المبدع عبدالحليم غزالي Abdelhalim H. D. Ghazaly عن مراحل زمنية مضت من حياة صعيد مصر حتى يخال لك انك كنت في رحلة في اليمن وليس في الصعيد..الصراعات القبلية ذاتها .. فكرة الثأر التي سادت حينها هي نفسها.. الأفراح والأتراح.. السلاح والهواجس ..

 

الخوف والشجاعة ..حكاية الأرض والانتماء وتشكيلها هوية المجتمع ..محاولات صنع التحولات من خلال التعليم.. تحديات التحول وصنوف المقاومة..

 

 العادات والتقاليد..السياسة وشجونها .. انها حياة مليئه بالصدق والعنفوان والصراعات القبيلية في تلك المرحلة التاريخية والتي أجاد الزمل غزالي وضعنا في سياقها بصورة مدهشة .. انه يدهشك من قدرة التقاطه كل هذه التفاصيل حد انك تتذوق معه " الشاي الحلو المر ".. وتعيش تصاعد الخط الزماني وتبدلات الأمكنه بين ريف اسيوط ومدينته وتظل مشدودا نحو حامد بطل الرواية وماذا سيصنع في النهاية وما مصير قيمه التي حملها باكرا..

 

وفي التفاصيل كنت اخشى انهزامه وتراجعه في ظل مرواحته بين موقف تقليدي يعيده الى الوراء وآخر تحديثي يجعله صانعا للتغيير لكن تعايشه مع الموقفين جعله ينتج واقعا توفيقيا يمزج بين عدم خسرانه النهائي لقبيلته وأهله وناسه وبين تطوير مجتمعه من خلال التعليم وبناء المدرسة ثم استقراره أخيراً في المدينة بما هي رمز للتحول والانحياز لقيم التمدن والحضارة ..

 

كذلك ظهر هذا الانتصار في انخراط أولاده لاحقا في التعليم الجامعي وهو ما أسس لمرحلة قطف الثمار لنضال اجتماعي ساد حينها لسنوات طوال ..لم يك الامر سهلا بالنسبة لحامد فما ان تظهر تباشير نجاح في مواجهة الثأر حتى تظهر عمليات ثأر جديدة ومعها تصعب مهمة النضال الاجتماعي وتتعقد اكثر ليجد البطل نفسه أشبه مايكون وسط حقل الغام اجتماعية هي نفسها مرتبطة بحقول الزرع وخلافاتها وماينجم عنها من ثأرات.. في النهاية كان حامد محمود ابوسعدواي الخارج عن " الملةالطيناوية" على حد تعبير الكاتب رمزا للشخصيات المؤثرة التي تنجح وتسجل انتصارها في مسار طويل من التحولات الاجتماعية رغم العثرات والتردد أحيانا.

 

حدث ذلك ويحدث أيضا في اليمن وإن كان السير في اليمن يبدو بطيئا ومتدرجا بالنظر الى فارق بدايات حركة التطور الحديثة..

 

الرواية اتخذت من موضوع الثأر محورا اساسيا لكنها في الواقع ذهبت أبعد من ذلك في تقديم حياة مجتمع صعيد مصر ببساطته وانفعالاته وتفاعلاته وحتى تعاطيه مع السياسة ومصادر الأخبار ..تعرف ايضا عن قرب حياة اهالي اسيوط عموما وتحديدا النجوع وعرب الجبالات .. تقرأ واقع القبائل والمهمشين وجانب من الاضطهاد لفئات اجتماعية القائم آنذاك .. تكون انطباعا عن ناس المنيا وضمنها ملوي حيث استقر حامد لسنوات.. وتعرف قليلا عن قنا.. فتعرج على بعض التباينات بين المناطق في اطار الصعيد نفسه لكن الثأر يظل عاملا مشتركا غالبا ماكان يؤجل عملية التغيير ..تذهب مع دفاتر الطين والدم الى تفاصيل تختزل عقودا من الزمن ..ملامح الاربعينيات وربما قبلها وارهاصات الخمسينات وملامح الستينات وحتى تصل السبعينيات..تمر على هذه العقود بما فيها من انتصارات وانتكاسات.. من ارتفاع سقف الطموحات وانخفاضه..الاماني والخيبات.. انها حياة متدفقة يجعلك تتفق مع الكاتب من ان الحياة بدون العنفوان لاتحمل معنى.

 

يكشف غزالي بالاضافة إلى مهارته الصحفية عن قدرات سرد أدبية لافتة تجعلك تعيش أجواء تلك الحقبة كما لو انك جزءٌ منها...صحيح في النهاية لاتعرف كيف اختفى البطل لكن هذا الرحيل الغامض هو ايضا لأجل ان تبقى قيم الرجل المدنية حيّة ومستمرة فلاتنتكس ولاتغيب بل ينبغي أن تنتصر وتسود ..وأغلب الظن ان غزالي هو بصورة أو بأخرى ابن بيئة هذه الرواية فوثق بحس ابداعي مجرياتها وأمسك بخيوطها رغم انه من مواليد 1964م ولقد بلغ بنا نهاية بديعة تفتح لنا خيارات التحليل وخيالات التوقع..يقول غزالي في نهاية الرواية عن البطل حامد وقد اختفى فجأة:

 

"هناك من تحدث عن الثأر والتربص، وهناك من تكلم عن حوادث سير، وهناك من أحكم تغليف الاختفاء بخيالات سخية.. هناك من جعل منه مسيحًا آخر رفع إلى السماء، وهناك من أمطر صوره الراحلة في الذاكرة بأنهار من الدموع، ومن زرع حقولًا من الآلام والشكايات والأحزان، وهناك من طارد غيابه باللعنات، بل ونبتت أساطير في جروح الطين ودروب التشتت، لكن الثابت أنه أصبح مثل نجم بعيد، لا يغادر براح الذكريات الفسيح في النجوع الغربية وما حولها، تحوم حول سيرته الحاضرة دومًا جيوش الأسئلة، تمامًا مثل ما كان في حياته! "

 

انتهى الاقتباس.

 

هل كان هذا والدك ياغزالي؟! لانعرف لكنك تعرفه تماما .. تماما تعرفه كما تعرف نفسك ومخيالك.

تحياتنا لك ياغزالي ولإبداعك


التعليقات