لغة الضاد بلا تأشيرة.. كتّاب غير عرب حولوها للغة أم وأبدعوا بها
- الجزيرة نت الاربعاء, 18 ديسمبر, 2019 - 11:39 مساءً
لغة الضاد بلا تأشيرة.. كتّاب غير عرب حولوها للغة أم وأبدعوا بها

[ العربية لم تصبح خصما لمن حُرموا من تعلم لغتهم الأصلية بل صارت أما (الجزيرة) ]

 

كثير من الكتاب دونوا إبداعاتهم بالعربية، دون أن تكون لغتهم الأم، ولكنها تحولت، بطريقة ما، إلى لغة أم وأم مرضعة في كثير من الأحوال.

 

في هذا الموضوع، وبمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، يتحدث كتاب من أصول غير عربية حول علاقتهم بلغة الضاد ومفرداتها والكتابة بها وما يميزها عن اللغات الأخرى.

 

اللغة لمن يخدمها

 

ولد الروائي الجزائري المقيم بنيويورك عمارة لخوص في كنف أسرة أمازيغية بالجزائر العاصمة ونشأ في وسط لغوي متنوع، متنقلا بين الأمازيغية والعامية الجزائرية والعربية والفرنسية بحرية وبهجة "كنحلة سعيدة" على حد تعبيره.

 

ويستطرد للجزيرة نت "صحيح أن لغة أمي هي الأمازيغية، وهي أول لغة نطقت بها، ولا تزال لغة البيت والعواطف، ولكن جرت العادة في بلادنا أن نطلق اسم الأم على زوجة العم أيضا، لذلك أعتبر العربية أما ثانية والإيطالية أما ثالثة".

 

وكتب عمارة العديد من الروايات بالعربية والإيطالية، لكنه يتقن الأمازيغية شفاهة فقط. وحول ذلك قال "للأسف الشديد، كانت لغة أمي إلى زمن قريب ممنوعة في المدارس بذريعة حماية الدولة الوطنية الفتية. وتأسيسا على ذلك تم إشهار سيف التعريب المتسرع والمؤدلج من أجل محو التنوع والثراء الثقافي".

 

ويستطرد حول تلك المرحلة في الجزائر، بأن رموز النظام آنذاك كانوا "يتشدقون بشعار التعريب، بينما كانوا يرسلون أبناءهم إلى المدارس الأجنبية".

 

واعتبر عمارة أن "التعريب القسري" لم يدفعه للكراهية لأن اللغة في قرارة نفسه "تحمل قداسة الأمومة".

 

ويجد صاحب رواية "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك" -والتي ترجمت لثماني لغات وتحولت لفيلم سينمائي إيطالي- أن ما تعلمه في نصف قرن وهو يعيش سعيدا متنقلا بين لغاته الخمس (الأمازيغية والعربية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية) أن "اللغة لا تعترف بأمرين أساسيين: الملكية الخاصة والحدود".

 

ويفسر ذلك بأن من أراد أن يزور بلدا أجنبيا "يجب أن يولي اهتماما خاصا بمسألة التأشيرة وشروط الدخول. في حين يستطيع أي شخص أن يدخل في أي لغة يشاء، بل ويقيم فيها، دون طلب إذن من أحد". بذلك، تزداد قناعة عمارة، يوما بعد يوم، بأنه من الخطأ ربط اللغة بجنسية أو عرق أو بلد.

 

ويرى أنه من السذاجة القول مثلا إن الفرنسية ملك للفرنسيين، واليابانية لليابانيين والعربية للعرب وهكذا دواليك. ويضيف "يحضرني شعار ذائع الصيت، رُفع خلال الثورة الزراعية بالجزائر في السبعينيات: الأرض لمن يخدمها. على هذا المنوال يصح القول إن اللغة ملك لمن يتعلمها ويستعملها ويبدع فيها".

 

لغتي التوأم

 

الكاتب الكردي السوري إبراهيم اليوسف، المقيم في ألمانيا، تنوعت كتبه والأجناس التي يكتب فيها، فقد أصدر تسع مجموعات شعرية وروايتين وأربع كتب نقدية وكتابين في السيرة، وكلها بالعربية. 

 

وعن ذلك يقول للجزيرة نت إنه من هؤلاء الذين "اختلط في تكوينهم حليبان، حليب أمي الكردية، بالإضافة إلى حليب جارتنا، أمي العربية، إذ كان يفصل بين بيتينا جدار غير مرتفع في قرية تل أفندي" التي ولد فيها، والتي كانت محور كتابه السيروي "ممحاة المسافة".

 

وقال اليوسف مستطردا "حليب الطفولة لم يسقني وحده ما هو عربي، فما أن فتحت عيني على الحياة، وأذني على ترددات خفقاتها، حتى بدأت أسمع إيقاع اللغة العربية -موازيا لكردية الانتماء- ليس في الصلوات اليومية الخمس، لأمي وحدها، بل صرت أسمع تلاوات أبي للقرآن الكريم على امتداد اليوم".

 

ويحكي يوسف عن والده الشيخ العالم الذي كان "متولعا بشعر المتصوفة، العربي منه والكردي". بالإضافة إلى ذاكرته المليئة من الشعر الكردي.

 

هذا الافتنان بالحرف والشعر العربي نقله والد اليوسف إليه، من خلال تعليمه "قراءة وكتابة الحرف العربي، وقراءة واستظهار جزء عم (الأخير من القرآن الكريم) قبل ذهابي إلى المدرسة، وهو ما جعلني أستسيغ العربية وأتذوقها وأحبها، ولا أتلكأ في الكتابة والقراءة والتفوق بها على بقية أقراني".

 

حب اليوسف للعربية جعله يحاكي نماذج الشعر في مكتبة أبيه، فقد ألف "أسجاعا ساخرة" في بعض أبناء قريته و"كان بعض أبناء القرية يطلبونها مني، وأنا طفل بعد، وأجدها سلاحا في يدي، يميزني عن سواي".

 

يجد صاحب رواية "شنكالنامه" أن وجود مكتبة أبيه، ووجود "صديق لي وهو سميي (المربي الراحل إبراهيم مللي) شريكي في حليب والدته" جعلا العربية لغة ثانية له.

 

ويختتم اليوسف حديثه حول وصفه النهائي للعربية، بقوله "إذا كان الشاعر (الكردي) جان دوست قد سبقني وقال: العربية لغتي الأم الثانية. فهي بالنسبة إلي اللغة التوأم، أقولها متباهيا أنا الكردي الإنسان".

 

المناطق المجهولة

 

من جهتها تجد الشاعرة الكردية السورية هيفين تمو، المقيمة في ألمانيا، أن ما تمثله العربية هو الصورة المختلفة التي تحملها بالنسبة لأي كردي يكتب بغير لغته، والتي هي "صورة تزاوج بين ثقافتين، أو صورة تقاسم الوعي بين الوعي المعرفي والأدبي وبين الوعي الذاتي والحياة اليومية".

 

لذلك تجدها هيفين معادلة إبداعية يضيف خلالها الكاتب خصائص لغوية قريبة من بيئته الوجدانية.

 

وتستطرد صاحبة ديوان "حين أضاعت الحربُ طريقها" أن الكتابة والقراءة بالعربية بشكل محترف، حتى لو لم تكن هي اللغة الأم، تُظهر المناطق المجهولة في أي مفردة لغوية، وتكون أكثر ملامسة لطريقة تفاعل الكاتب مع العالم المحيط به.

 

من جهة أخرى تجد هيفين علاقة وثيقة بين العربية وأنماط حياة الناطقين بها وتنوعهم، الذي يخضع لعوامل سياسية وثقافية وبيئية وحتى اجتماعية "حيث تخلق هذه العلاقة جسور تبادل المفردات والثقافات، وبالتالي تحسين التواصل وتطويره، وهذا الاحتكاك الثقافي يجعل الكاتب الكردي قادرا على خلق نص لا يُقرأ بوصفه خطابا مستقلا عن بنية الواقع المعاش".

 

واختتمت الشاعرة حديثها للجزيرة نت بأنها تعتقد -بالإضافة إلى ما سبق- أن ما يميز العربية هو ذاك الخصب اللامتناهي الذي تولده معانيها ودلالاتها المرتكزة على جملة من الأدوات كالكناية والاستعارة والمجاز وغيرها، وبأن "هذا الخصب يعطي الناطق والمشتغل بها قدرة إبداعية وجمالية خاصة".

 

وعاء عربي لمخيلة أمازيغية

 

وجد الشاعر الأمازيغي المغربي حسن بولهويشات ضالته التعبيرية في العربية، مثلما وجد آخرون من كتاب العالم ضالتهم في الكتابة بلغات أخرى غير لغتهم الأم فـ "أن أكون أمازيغيا وأنتسب للعرب بالشعر واللغة، فهو اختيار شخصي. قدري أنني موزع بين الأمازيغية التي أتكلمها، وبين العربية التي أكتب بها باعتبارها ملاذا لغويا".

 

يؤمن بولهويشات -الذي يُدرس الأمازيغية لتلاميذ المرحلة الابتدائية- بهذا التفاعل المذهل بين اللغات. وقال للجزيرة نت إنه بهذا المعنى مؤمن بالتفاعل بين العربية التي فتحت أمامه آفاقا رحبة للتعبير، من خلال الترادف والتضاد والتنوع الدلالي، وبين الأمازيغية التي تُشكل رافدا أساسيا لقصيدته، من خلال الشعر الشفوي الأمازيغي والحكايات الشعبية.

 

واستطرد بأنه واع لأفضال الأمازيغية على قصيدته بخصوص الصورة الشعرية والتشبيهات والاستعارات "بل إن ثمة إيقاعا داخليا تسرب إلى نصوصي الشعرية من خلال الأمازيغية. وما ذنبي إن كانت مخيلتي أمازيغية صرفة وكانت العربية وعاء لهذه المخيلة؟".

 

ويعتبر صاحب ديوان "قبل القيامة بقليل" اللغة الأمازيغية "أمي التي لم أهجرها إلا للضرورة الشعرية والسردية، واعتبر العربية مرضعتي التي استأنستُ بروائحها الجميلة باكرا، فصارت مشاعري موزعة بالتساوي بينهما".

 

وقال إنه لا يريد بعد كل هذه السنوات أن يتحول إلى "جرافة" البلدية "فأقتلع أمي الشجرة بهذه السهولة، ولا أن أكون جاحدا، فأتصرف كأي جلف مع من احتضنت عثراتي الأولى، وصبرت علي، حتى استويتُ وتخلصتُ من أحجار كانت في فمي".

 

وعن ثراء العربية قال بولهويشات للجزيرة نت إن العربية ثرية "بهذا التراث الشعري" الذي لا يخلو من صعوبة في إيجاد مسارب صحيحة لفهمه، و"بهذا التنوع السردي" الذي يمتد إلى القرن الأول الهجري، والذي لا يخلو هو الآخر من التنوع التركيبي والصرفي، فضلا عن فخاخ التقديم والتأخير.

 

على هذا الأساس كانت علاقة بولهويشات بالعربية متوترة في البداية "من خلال تمارين قاسية في التركيب، وحيرة طويلة أمام الكلمات قبل اختيار المناسب منها. إنها القسوة الأولى التي لا بد منها كي نتعلم مما نكتب، ومما يكتب الآخرون".

 

ويجد الشاعر المغربي أن من المهم جدا أن نشير إلى أن "الذين أخلصوا للعربية وأبدعوا فيها هم من أصل غير عربي، وليس بشار بن برد أولهم ولا أبو نواس آخرهم. لكن تاريخ الأدب العربي يتذكر هؤلاء بقصائدهم وأعمالهم وليس بأصولهم".


التعليقات