القاص المغربي سعيد منتسب: كتبتُ عن “القبو” واستدعيت تلك الأشباح حتى أنهي عزلتي والجرح الذي اعترى كينونتي
- الجزيرة نت الإثنين, 20 سبتمبر, 2021 - 12:05 صباحاً
القاص المغربي سعيد منتسب: كتبتُ عن “القبو” واستدعيت تلك الأشباح حتى أنهي عزلتي والجرح الذي اعترى كينونتي

لم أتخيل أنْ تكون المجموعة القصصية الجديدة "قبو إدغار آلان بو" (2021) -للكاتب والقاص المغربي سعيد منتسب- بتلك الحرارة السردية التي تجعل النص القصصي امتدادا عميقا لجرح الكائن البشري.

 

فالقاص الشاب يعمل في المجموعة على جعل فكرة "القبو" مناخا أدبيا لاستلهام القصص والحكاية وإعادة تخييلها في قالب قصصي محكم. وإن كان منتسب يتماهى جماليا في كتابته مع نماذج قصصية غربية كبيرة عن طريق أسماء الشخصيات وفضاءاتها وعوالمها المخيفة في عتمة الجنون البشري، فإن ذلك بدا اختيارا تجريبيا ناجعا، حتى يفتح الكاتب لنفسه فضاءات جديدة للتخييل.

 

على هذا الأساس، نجد سعيد منتسب، يعوض مفاهيم الإدراك والعقل والوعي بالسوريالية والسخرية والغرائبية. ورغم أن القصص مألوفة من حيث وقائعها وواقعية شخصياتها، إلا أن أسلوب صياغتها التخييلية وما تنحته من آفاق أنطولوجية، تجعل النصوص القصصية متميزة بحسها التشويقي الساخر.

 

ينتمي منتسب إلى جيل التسعينيات في المشهد الأدبي المغربي، هذا الجيل، الذي بدأ في الآونة الأخيرة، يرسم لنفسه مساحات مغايرة شعريا وقصصيا وروائيا، بما فيه من التجريب الأدبي، مما يجعله مميزا وقادرا بملامحه ووسائل ومكوناته ومخيلته على اختراق واقع الثقافة المغربية من الداخل وضخ دماء جديدة في شرايينها وفي كافة جسدها المنخور، بحكم تبعية الثقافي للسياسي، التي وسمت جيل السبعينيات وبعض من معالم جيل الثمانينيات.

 

وسعيد منتسب حاصل على الدكتوراه من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وقد صدر له عدّة مؤلفات أدبية نذكر منها "ضد الجميع"، "قبلة التنين"، "طائر أبيض بأجنحة مؤقتة".

 

بمناسبة صدور مجموعته القصصية الجديد "قبو إدغار آلان بو" (2021) ضمن منشورات دار أروقة بالقاهرة، كان للجزيرة نت هذا اللقاء معه:

 

مجموعة قصصية جديدة

 

صدر لك قبل أيام مجموعة قصصية جديدة بعنوان "قبو إدغار آلان بو" (2021). سعيد منتسب، لماذا يشعر القارئ لهذا العمل القصصي أنك تحاول استمالته إلى عوالم "بو" المخيفة؟

 

هل حاولتُ أن أفعل ذلك؟ لم يكن في نيتي إطلاقا أن أضع القارئ لـ "قبو إدغار ألان بو" تحت أي سقف بالغ البرودة والحرارة. صحيح أن قصص المجموعة تحشرنا في منطقة ممغنطة، وأن مستوى الالتواء فيها مرعب وبالغ التعقيد، لكنني أزعم مع ذلك أن الضوء هو مادة "القبو" وطاقته. نعم الضوء هو القوة غير المرئية التي تجعل من "برنامج السبر" شأنا غير مؤقت.

 

الرعب في المجموعة ليس شيئا إضافيا أو خارجيا أو "تزيينيا"، كما أن غايته ليست سيكولوجية قطعا، لأن رهان "القبو" بدرجة كبيرة هو ألا ينسى القارئ موعده مع القراءة متعددة الاتجاه.

 

ومعنى ذلك، أن القبو يمكنه أن يكون على نحو جيد مكانا رائعا للعب مع القارئ، ومع إدغار ألان بو، ومع ذلك الحمض النووي للكتابة الذي نحرص على إضماره وحجبه وطمسه، ومع سعيد منتسب نفسه.

 

إنني لا أسعى، تبعا لذلك، إلى استمالة القارئ نحو عوالم إدغار ألان بو "المخيفة" (هل هي مخيفة فعلا؟)، لأن الكاتب لا يتحكم -أولا- في ردود أفعال القارئ ومشاعره، ولا يمكنه أن يتوقع بدرجة كبيرة أن هذا القارئ سيجد في ما يكتبه مفاجآت سارة أو مرغبة.

 

القارئ، في رأيي، ما زال قارة غير مستكشفة، ولا يمكن التورط معه في قياس درجة انفعاله أو المبالغة في محاولة إبهاره. القارئ بطريقة أو بأخرى يشبه "الهويات المتقاتلة"، كما أنه ليس شيئا موضوعيا يمكننا أن نحصره في عينة تكوينية محددة. إنه أشبه بـ "الماتريكس" أو المصفوفة المعقدة التي لا حصر لأعدادها.

 

وثانيا، من الممكن أن تنتج قصص المجموعة بعض الرعب، لكنني أعتبره أثرا جانبيا. وبهذا المعنى لم أكن معنيا داخل هذه المجموعة القصصية بـ "رعب" إدغار ألن بو، ولا بذلك الالتباس اللذيذ الذي قد تخلفه نصوصه في نفس قارئه. نعم، لهذا الكاتب غير المجهول جاذبية كبيرة لا يمكن التغاضي عنها. لكنني "استعملته" من أجل تدعيم شرط القراءة بأثر رجعي.

 

وهنا أستطيع القول إننا نتوهم أن هذا الشرط يأتي من الخارج، أي من نصوص (بو)، ومن التبعية المعبّر عنها في العنوان. الأمر ليس بذاك اليُسر، ولا بهذا التبسيط الذي يمكن أن تفضي به "مواجهة النص بأصله". كشف المرجعية خادع، وغرضه تضليلي.

 

الواقعي والتخييلي

 

لكن كيف يستطيع الكاتب تحقيق نوع من الخلاص الجمالي بين ما يكتبه على مستوى اللغة والخيال وبين ما يعيشه هو داخل واقعه؟ أو بعبارة أخرى، ما حدود الواقعي والتخييلي في مجموعتك الجديدة؟

 

دعني أذكرك، أولا، بأن كل كاتب يحتفظ بـ "تقليد الإله" ليكتب باستمرار. هذا هو أقصى حدود الأمان الذي لا يمكن أن يمنع نفسه عن الاقتناع بضرورته ليحافظ على رأسه. وبهذا المعنى، فالخيال ضرورة، وليس ترفا. بل بوسعنا عبر الخيال أن ننتزع الواقع ونتملَّكه ونحوّله. وجود الخيال في الكتابة ليس محل جدل بأي شكل من الأشكال، لأنها ما زالت تؤسس وجودها عليه، ولا أرى أي سبب وجيه لنرغمها الآن على التخلي عن عمقها السحيق والقديم.

 

أنت تتحدث عن "الخلاص الجمالي"؟! هذا شيء مختلف، ويحمل قدرا لا بأس به من الالتباس عندما نضعه في غرفة واحدة مع "التمييز بين الواقع والخيال".

 

وتبعا لذلك، أستطيع أن أقول إنني لا أمارس أي نوع من عبادة الشكل. صحيح أنني ألعب، لكني أضع لكل نص كتبته قاعدة بيانات ضمنية غير مقيدة للمثال الأخلاقي للتأويل. وبهذا المعنى، أنا متحيز لـ "الورطة الجمالية" بدل الخلاص. الغرق هو حقيقة الكتابة، ومن يطمح إلى تجفيف أوعية الكتابة من مياهها الخطرة فإنه كمن يسعى إلى استعادة المهمل والزائف والعابر وإعادة ترتيبه.

 

قبو "إدغار آلان بو"

 

في نفس الطرح، كيف يمكن لـ"قبو" أن يلهمك، حتى تكتب حوالي 27 قصّة تتشابك مع عوالم القبو ودلالاته النفسية والاجتماعية والفكرية؟

 

لا بد أن أوضح شيئا بالغ الأهمية. "القبو" في هذه المجموعة مجرد حافز (موتيف) سردي. إنه تمظهر موضوعي متكرر في جميع النصوص، يحضر فيها كاختيار جمالي، نظرا لتوفره على طاقة تخييل قوية لتوليد المواقف السردية المتعددة واختبارها وتوسيعها وتجديدها. كما أنه -بمعنى من المعاني- حافز بنائي يخدم التدرج المتنوع للمادة الحكائية التي يستدعيها عنصر "القبو".

 

إن عملية الكتابة حول هذا الموضوع لم تكن شبيهة بإخراج ثوب تلو آخر من الدولاب. كما أن "القبو" لم يكن رفيقا ماتعا، ولم أكن واثقا تماما من قدرتي على توقع ما سيحدث أو تصحيحه على الأقل. لقد جعلت من "القبو" موقعا أركيولوجيا غامضا ومغلقا ويتطلب الكثير من الخبرة والحنكة والدراية للدخول إليه. ثمة لُقى نصية قديمة، وثمة جرار سردية تعود إلى ما قبل "إدغار ألان بو".

 

وثمة أشباح كتّاب وكتب، وثمة ترسبات حكائية لا بد من فحص أثري دقيق لمعرفة عناصرها المورفولوجية. ولذلك، فإن "القبو" -كما أدعي- ليس مجرد حافز سردي تكراري لاستحضار الأرواح، كما يمكن أن يلاحظ "القارئ اللئيم"، بل ورشة مفتوحة لترميم المتلاشيات خارج أي تفسير مجازي.

 

الكتابة وعزلة الكائن

 

هل للأمر أية علاقة بالحجر الصحي الذي شهده العالم منذ أكثر من سنة ونصف، لا سيما أن عزلة الكائن في هذه المرحلة الحرجة تكون في سراديب قبو مهجور؟

 

قطعا لدابر الشك، وبالتأكيد الشامل، لا تبعية ولا خضوع لـ"القبو" لإكراه الحجر الصحي وما استتبعه من حبس وتصفيد وتباعد. صحيح أن قصص المجموعة كتبت بتقتير كبير وبصبر رواقي، لكنها لم تكتب كلها في زمن الفيروس، بل قبله وفي أثنائه. والآن، أنت تجعلني أعيد التفكير في الأمر؛ ما علاقة " القبو" كإستراتيجة سردية بالحجر الصحي؟ لماذا القبو، وليس أي شيء آخر؟ هل هناك تبعية متبادلة غير مفكر فيها (لا واعية)؟ ما هو الشرط الداخلي الذي جعلني أختار القبو وليس غيره، ما دام الاختيار ليس خارجا عنا؟

 

أتذكر أنني لم أكن مضطرا، أثناء فترة الحجر الصحي الرهيبة، لتجاوز جدلية مائدة الطعام ودورة المياه، والكل كما أعتقد يضع حاجزا بينه وبين الآخرين. قد يكون حاجزا من الشك، أو من الشوق، أو من الاحتدام. أنا جالس على الأريكة، أغمض عيني التي تؤلمني قليلا، فأرى جذوع أشجار سوداء، ودبابات، وبنايات مهجورة، ولا أحد يسأل أحدا عن الطريق. أفتح عيني، لألتقط خبزا قديما، أتناوله وأتذكر وجه كاترين زيتا جونز الخالي من أي تعبير.

 

من النافذة ألمح جنودا ورجال شرطة وقوات مساعدة، لا يحملون البنادق. يكتفون باحتلال الرصيف الذي تحيط به مبان رمادية، ويشرعون في إفراغ الشارع من المارة. لم أسمع أي طلقة. يتنقلون ببطء. لا يضعون كمامات. أرى بعضهم يدخن، فأعود إلى الأريكة وأنغمس في ملاحقة أخبار الفيروس الذي يلمع في كل مكان بلون أخضر سائل ولزج.

 

نعم، في هذا الظرف، كل الشوارع كانت تتقاطع. بدأنا نسير حول حقيقتنا ببطء. كل واحد يعيش يقظته الخاصة. نسمع أصواتا قادمة من الضفة الأخرى للحياة. الجميع يبسط كفه، يقرأ خطوطها ويتهيأ على مضض للاقتراب من المخرج. الكل يسأل هل هو الآن في المكان الصحيح، وهل هناك صديق أو قريب أو حبيب يريد أن يتكلم معه؟ أما أنا فأقول "إن الجدران تقصر دونها العُصْم". طيب، ما علاقة كل هذا بالقبو؟ هل القبو مكان اختباء؟ دعني أخبرك بأن الكتابة مثل القبو احتماء ممنهج من الحرب بكل أشكالها، وأظن بأن البشرية ما زالت تعيش هذه الحرب.

 

صحيح جدا، ربما كتبت عن "القبو" واستدعيت إليه تلك الأشباح المفضلة لديّ، لأنهي عزلتي والجرح الذي اعترى كينونتي.

 

من الغرائبية إلى السريالية

 

في المجموعة تطالعنا ثيمات الموت والسخرية والغرائبية والسريالية، وهي موضوعات أضحت تنطبع بها أعمالك القصصية. لماذا الاتجاه صوب هذا المنزع السريالي والعجائبي في صياغة عالم قصصي متخيل؟

 

معنى كلامك هذا -في العمق- أنه ينبغي علينا أن نغادر "الأدب" والخيال والعجائبية، وأن نكتفي بالواقع بدعوى أنه "ليس في الإمكان أبدع مما نعيشه". دعني أسألك بدوري هل التمسك بالواقع ضرورة؟ ولماذا هذه الشهوة غير الواقعية للواقع؟

 

الواقعية السحرية أو الفانتازيا أو العجائبية -أو ما شئت من ألقاب- مخلوق جيد للأدب. الواقع يكتفي بذاته عكس الخيال الذي لا يكف عن صنع مكانه المطلق. وتبعا لذلك، لا ينبغي أن نتآمر على الخيال بدعوى أنه منافس أقل "غرابة" من الواقع. هذا ليس صحيحا البتة. الواقع هو ما نندمج فيه، ونخضع له، ونحدد وجودنا على مقاسه. أما الخيال، فدوره حاسم في العملية الإبداعية، أي في دينامية التحويل والتحطيم، وأيضا في الخلق والبناء.

 

وبهذا المعنى، أدرك أن التحيز لـ "مضادات الواقع " احتفال حيوي بتصعيد التعارض بين البعدين (الواقعي والخيالي)، أو إزاحته وخلخلته، ليكمّلا بعضهما بعضا. فالواقع -في الكثير من النماذج الروائية والقصصية- لا يكتمل بذاته، ولا ينهض إلا على تلك التشكيلات السحرية والأسطورية التي تجعل الوجود ممكنا، ما دامت توجد بقوة -على المستوى الاستعاري- في الخطابين المنطوق والمكتوب.

 

لا أدري لماذا جعلني سؤالك أفكر في موت الأدب، ولماذا تخيّلت أن "الدعوة" إلى محاكاة الواقع مجرد إشهار سلاح زائف في وجه "التجاوز الأدبي المضطرد". أعتقد أنه ينبغي الخروج على وجه السرعة من هذا المأزق.

 

تراث الآخر الأدبي

 

قصص "قبو إدغار آلان بو" تتماهى بشكل كبير مع نصوص غربية، يشعر بها المرء لحظة القراءة وكأنّها أطياف مرعبة تقف في وجه الكاتب لحظة التفكير ثم الكتابة. كيف أمكن لك التعايش مع هذه العوالم المقلقة والمخيفة لدى بعض كتاب العالم؟

 

ليس سرا أن الكتابة لحظة انعزال من الحياة. هذا شرطها وضرورتها. إن السيئ، في نظري، هو أن ننسحب من هذه اللحظة، بحثا عن تناسق متعمد، أي أن نضع قانونا للاندماج مع نصوص لا تقول شيئا، أو مع نصوص ضعيفة أو متجاوزة، بدعوى أنها نصوص "عربية". لا يعني هذا الكلام أنني غير مبال تماما أمام نصوص عربية ومغربية فارقة. كما لا يغيب عن بالي أن هناك نصوصا غير فانية ورائعة لكتاب مغاربة وعرب طالما استمتعت برفقتهم، وأطلت النظر إلى منجزهم. لكن ما الذي يحدد مصير لحظة الانعزال؟ هل هي إرادة التقيد بالهوية القاتلة أم الذهاب إلى "النصوص العالمية الكبرى" دون أي إحساس بالجرم؟

 

هل تتفق معي أن ما من شيء يحدث صدفة؟ وأن شكل التأسيس لأي شيء جديد يقتضي الوعي بأن الأدب غير منفصل، وبأن ما يحدد جدواه، إن كانت له جدوى بالطبع، هو "إبداعيته" وطبيعته الكونية. الأدب هنا هو الكون نفسه، ولا يضمحل إلا إذا حشرناه في مواجهة صراعية مع "مسقط رأسه" أو "مكان سكناه".

 

هذا في نظري هو ما يفسر الحضور المكثف للنصوص الغربية. ليس في الأمر أي استعراض للقوة، وليس هناك أي مسعى "تغريبي" في كل ما أكتب. نحن ننتمي إلى العالم، ولا ينبغي لنا أن "نذنب" بالعالم الذي قدم لنا -على مر التاريخ- نصوصا أنصت إليها أسلافنا جيدا وأقاموا عليها صروح حضارتهم.

 

هناك شيء آخر لا بد أن أشير إليه. إنني أكتب بوعي تام بأن الأمر الوحيد القادر على إنهاء تقلبنا الأدبي هو امتلاك المعرفة بالنصوص الجوهرية، والحرص على التمكن منها، ومزجها بـ"الذخيرة المحلية المشرقة"، بغاية التأسيس لأدب ينتمي إلى لحظته التاريخية. ولذلك، لا أعتبر أن استدعاء النصوص الغربية عملا مميتا، كما أن الكتابة في جوهرها تشبه جلسات استحضار الأرواح. أضف إلى ذلك كله أن نصوص المجموعة، تحفل بنصوص عربية وأمازيغية ورومانية وأميركية لاتينية.

 

تراجيديا الكتابة

 

ثمّة استعمال غربي مبالغ فيه أحيانا لأسماء شخصياتك القصصية ومساراتها التراجيدية. ألا يمكن ذلك في نظرك أن يعيق مسألة الخصوصيات الأدبية، التي قد تميز قاصا مغربيا عن كاتب من بلد آخر وجغرافية محدّدة؟

 

أظن أن القصص "لا تقف وحدها في الفراغ" كما يقول رايموند كارفر، كيف يستطيع الكاتب أن يخرجها من الفراغ؟ وما الوسائل التي ينبغي عليه أن يحوزها من أجل أن يكسوها باللحم والمعنى؟ هذا السؤال مهم جدا بالنظر إلى حساسية سؤالك. وتبعا لذلك أسأل مرة أخرى؛ هل التميز يكون في الدال أم في المدلول؟ وما معنى الخصوصية الأدبية؟ إنك تجعلني أفكر في "الأفلام الصامتة" لشارلي شابلن، وتجعلني أفكر في مقولة "الكتابة بصوت منخفض".

 

إنك تتحدث عن التراجيديا، وأنت تعلم أن "بنية العقل العربي" أبعد ما تكون عن التراجيديا. ليس لدينا أي إحساس بالعجز أمام مشكلات الوجود. نحن مطمئنون تماما. ولهذا أزعم أن ليس هناك أي خطوط "مغلقة" يسير عليها القاص لإنجاز قصته "التراجيدية".

 

كما أزعم أنه لكتابة قصة قصيرة، ينبغي أن "تغض الطرف عن كل ما ليس له صلة وثيقة بلوحتك الخاصة"، كما يقول روبير هنري؛ أي لا بد من نبذ الاهتمام بأي شيء لا يتعلق بالقصَّة، مثلا أسماء وكلمات لا قيمة لها، شخصيات فائضة وغير ذات أهميَّة، ملاحظات جانبية، تفسيرات هامشية، مصائر لا جدوى منها.

 

إنني أتعامل مع النص القصصي ليس كبطاقة هوية، ولا كالتفات إلى "دفتر الحالة المدنية"، ولا كاستظلال بشجرة الأنساب. النص القصصي كيان لغوي رمزي حي، وأي تعامل معه يحتاج إلى إصغاء لما يجري في شوارعه وأزقته الخلفية.

 

إن أي نص قصصي مدرك لخصوصيته يخضع إلى إستراتيجية كتابية سابقة على تحققه، وهذا يعني أن تنشيط مختلف مفاصله وبنياته تحتاج إلى خطط وأساليب وتقنيات و"استعمالات" و"توظيفات" و"استدعاءات".

 

كما يعني أن القول بـ"الاستعمال المبالغ فيه للأسماء الغربية" شيء مردود عليه. الأمر ليس بهذا التبسيط. وتبعا لذلك، فالخصوصية ليست بعيدة عن النص، كما أنها لا تعني "اقتراض" الأسماء والفضاءات من خارجه. لكل نص حاجياته.

 

وأزعم أن "الحوارية" التي تفشيها نصوص المجموعة تفترض هذا الاستعمال، كما أن أي اتجاه معاكس سيضعف حركية القراءة، بل سيفشلها، ويجعلها رهينة لنموذج ثقافي واحد.


التعليقات