الدكتور محمد شداد يكتب عن البردوني: البحر الذي سبق النهر
- خاص الاربعاء, 31 أغسطس, 2016 - 05:27 مساءً
الدكتور محمد شداد يكتب عن البردوني: البحر الذي سبق النهر

[ الكاتب محمد شداد ]

الشاعر والأديب عبدالله صالح عبدالله البردوني من قرية بردون الحداء محافظة ذمار، ولد في عام 1929م ولفظ أنفاسه الأخيرة  30 أغسطس 1999،  أصيب بالجدري في طفولته الذي اختطف عيناه وهو في الخامسة من العمر،  ذلك الضرير الذي ولد في الزمن الأعمى فقد البصر ولكنه لم يفقد البصيرة، البردوني عاش اليمن وعاشه سكن قلبه وكل جوارحه تضاريسه تقاسيم وجهه وجباله أنفته واعتزازه بالانتماء له وبحار ابداعه  اللامتناهي، تحمل همومه الوطن في حله وترحاله ممثلاً له في مؤتمراته الأدبية والشعرية، فكان في مؤتمر أبو تمام العملاق الذي وقف عمالقة الشعر أمامة بعد سماعه صاغرين، وبعد أن ناجاهم وناجى (حبيب) المكنى بأبي تمام.
 
حبيب وافيت من صنعاء يحملني*** نسر وخلف ضلوعي يلهث العرب 
حبيب اتسأل عن حالي وكيف أنا *** شبابة في شفاه الريح تنحب 
كانت بلادك رحلاً ضهر ناجية ***  أما بلادي فلا ضهر ولا غبب

امتزج الفرح عنده بالموجعات ونعيمه بجوعه،  وسهاده بصحوه تجرع الكؤوس المريرة كان يجتمع باقرانه لكنه يذهب بعيداً عنهم، ويهم في فضاءات ابداعية أخرى وهو بينهم كما ذكر الشاعر هاشم الكبسي كان يعيش الغربة في الوطن.

تسلياتي كموجعاتي ، وزادي مثل *** جوعي ، وهجعتي كسهادي 
وكؤوسي مريرة مثل صحوي*** واجتماعي بإخوتي كانفرادي 

 كان البحر الذي سبق النهر والجبل الذي تسامى فوق السحاب كما قال عنه رفيقه المقالح وأحبه متنبي العصر وعراب القصيدة الكلاسيكية في العصر الحديث أبو فرات محمد مهدي الجواهري قبل أن يراه ومدحة بقصيدة عندما زار اليمن فقال " أعبد الله حبوتك بالقرابة من بعيد وها أنا ذا قريب منك دارا" قصيدة من السماء إلى البحر ومن القلب إلى القلب تأسر اللب وتسكن في الذاكرة ، كان شاعرا القصيد العمودية ورضع لبن المدرسة الكلاسيكية، تحالفا ألا يعبثا بمقام الشعر العربي كما يفعل شعراء القصيدة الحرة والخالية من جماليات الشعر الأصيل وضوح ووزنا وقافية ووحدة موضوعية، فعده عمالقة القرن العشرين البحر الزاخر اليمن كله شعره ونثره، تاريخه وفنه تراثه أدباً قصة ورواية تحسس أوجاعه جسد هويته الوطنية في قصائدة تغزلاً وعشقاً   طوافاً بالوطن كل الأماكن والمآثر .

من ذلك الوجه  يبدو أنه جندي لا  بل (يريمي) سأدعو  جدّ مبتعد
أظنّه (مكرد القاضي) كقامته لا .. بل (مثنى الرادعي) (مرشد الصّيّدي
لعلّه (دبعيّ ) أصل والده من (يافع) أمّه من سورة المسد
رأيت نخل (المكلا) في ملامحه شمّيت عنب (الحشا) في جيده الغيد 
من أين يا بني ؟ ولا يرنو وأسأله أدنو قليلا : صباح الخير يا والدي
ضمّيته ملء صدري … أنّه وطني يبقى اشتياقي وذوب الأن يا كبدي 

كان البرد العاطفي والحماس الثوري والصبر اللامتناهي قارع الإمامة دخل السجن حتى هد حيلته وحباله  وقيد بالقيود حتى أدمت ساقه رافقته المصائب كلها العمى والقيد والجراح وهم الوطن الجريح المتهالك .

هدّني السجن و أدمى القيد ساقي*** فتعاييت بجرحي ووثاقي
و أضعت الخطو في شوك الدجى*** و العمى و القيد و الجرح رفاقي
و مللت الجرح حتّى ملّني*** جرحي الدامي و مكثي وانطلاقي
و تلاشيت فلم يبق سوى*** ذكريات الدمع في وهم المآقي

شرح الوضع عقب ثورة 26 من سبتمبر بمشرطه الشعري اللاذع ومكواه المحرق وعاف ممارسة ساسة تلك الحقبة ومن تلاهم واتَّجارهم بقوت الشعب والعبث بممتلكاته في قصيدة بشرى من الغيب، التي كانت من أروع مدائح الرسول ص في العصر الحديث على الاطلاق، كما قال الدكتور عائض القرني فبعد أن مدح الرسول ص ناداه مستجيراً به كقائد حارب الظلم وقهر الباطل وانتصف للمساكين قائلاً: 

 يــا قـاتـل الـظـلم صـالـت هـاهنا وهـنا فـظايـع أيـــن مـنـها زنــدك الــواري
أرض الـجـنوب ديــاري وهــي مـهد أبـي  تــئـن مـــا بــيـن سـفـاح وسـمـسار
يــشـدهـا قــيــد ســجـان ويـنـهـشها *** ســـوط ويـحـدو خـطاها صــوت خـمـار
تـعـطـي الـقـيادة وزيــرا وهــو مـتـجر *** بـجـوعـها فـهـو فـيـها الـبـايع الـشـاري 
فـكـيـف لانــت لـجـلاد الـحـمى *** عــدن وكــيـف ســاس حـمـاها غــدر فـجـار
أشــبـاه نــاس وخـيـرات الـبـلاد لـهـم *** ووزنــهـم لا يــسـاوي ربـــع ديــنـار 
أكـــاد أســخـر مـنـهم ثــم تـضـحكني *** دعــواهــم أنــهـم أصــحـاب أفــكـار 

الحديث عن البردوني لا ينتهي والكتابة عنه نار مجنحة يحترق بها من قاربها لان الوفاء بحقه من ضروب المستحيل وما نحن إلا كفراشات نحترق بنار قصائدة وفنه كلما جن علينا الليل وأشرق بعد الصباح الضلام رحمة الله وأدخله فسيح جناته.





 


التعليقات