انتكاسة المشروع القومي العربي بعد حزيران 67 19 خلق متغيرين رئيسيين في اليمن، التي ظلت قبل هذا الموعد، وعلى مدى أعوام خمسة، جغرافية ملتهبة لتصفية حسابات مؤجلة، بين مشروعين متناحرين، عكسا حالة الاستقطاب الحاد، في ذروة الحرب الباردة.
ففي شمال البلاد، وصل التيار المحافظ إلى الحكم، مطلع نوفمبر 1967، عبر انقلاب ناعم في ظاهره، خشن في مآلاته، وفي جنوبها استطاع تيار اليسار فرض نفسه كسلطة قوية منذ لحظة الاستقلال عن بريطانيا في نهاية ذات الشهر، وفي طريقه الشاق هذا، تخلص من كل منافسيه.
تعارُض النظامين السياسيين، عكس نفسه على علاقات الشطرين، التي شهدت توترات مستدامة أفضت إلى حربين بينهما في سنوات السبعينيات (1972) و(1979).
في وضع مثل هذا، أراد بعض مثقفي البلاد وأدبائها شمالاً وجنوباً، التعبير عن رفضهم لهذا الانقسام، بوجود حكومتين في بلاد واحدة، (كما عبرت بياناتهم الباكرة) فشكلوا لجنة تأسيسية في أكتوبر 1970 "المؤتمر التمهيدي للاتحاد" بقوام 28 شخصا يمثلون اتجاهات ثقافية وجغرافية وسياسية متعددة، للإعداد لتشكيل كيان نقابي موحد يعبر عن مشروعهم الوطني الرافض للتشطير، ومن هؤلاء انبثقت لجنة تحضيرية مكونة من 12 أديبا وكاتبا للإعداد والتحضير للمؤتمر العام.
المولود الحلم
هذه اللجنة تولت الاتصال والتواصل بسبعين أديبا/أديبة وكاتبا/كاتبة يمنيا/يمنية، من صعدة (في اقصى الشمال) إلى المهرة (في أقصى شرق الجنوب)، لتشكيل هذا الكيان الحلم، الذي أبصر النور بعد مخاض عسير في مدينة عدن، التي احتضنت مؤتمرهم الاأول في فبراير 1974، لكن قبلها بأعوام ثلاثة، وتحديدا في 15 أبريل 1971، أعادوا إصدار مجلة "الحكمة" باسم الاتحاد، بعد أكثر من ثلاثة عقود من إصدارها الأول في صنعاء في ديسمبر 1938، ورأس تحرير إصدارها الجديد -ولقرابة عشرين عاما- الأستاذ عمر الجاوي.
على مدى سنوات السبعينيات، بين المؤتمر الأول والمؤتمر الثاني الذي انعقد في صنعاء في نوفمبر 1980، تبلور الشعار الرئيس للاتحاد "تحقيق الوحدة اليمنية في الصدارة من مهام أجيالنا المعاصرة"، والذي ظل صامدا حتى المؤتمر الخامس للاتحاد الذي انعقد في عام الوحدة 1990، حيث بدأت التحولات العميقة في بنيته وخطابه وحضوره في الحياة العامة، كما سنستبين لاحقاً. لكن قبل ذلك، لا بد من الوقوف على متعينات عديدة، جعلت من هذه المؤسسة (أيقونة) للعمل الوحدوي والنضال السياسي السلمي، ينظر إلى تاريخها بتبجيل وتوقير.
تنازعات النقابي والسياسي والثقافي
بالرغم من أن تنافسات الحكام في الشطرين لعبت دورا مسهلاً لولادة الاتحاد، لرغبة من كليهما التعبير عن نفسه كراع للعمل الثقافي الموحد، والهروب من وصمة التشطير والانعزال، لكن ما ينبغي إضافته إلى ذلك هو الظرف التاريخي، الذي جاد بعقلية الحاكم المثقف في الحالتين.
ففي الشمال كان الشاعر والأديب القاضي عبد الرحمن الإرياني رئيساً للجمهورية حينها، وفي الجنوب تواجدت نخبة من المثقفين اليساريين في هرم السلطة، وعلى رأسهم الشاعر والمثقف عبد الفتاح إسماعيل، الرجل الأقوى والمؤثر في السلطة.
الإذابة الواضحة للتناقضات المناطقية والأيديولوجية والسياسية لمنتسبي الاتحاد، خلقت شرطا حيويا مهما لاستمرار الاتحاد قويا ومستقلا في قراراته، وحاضرا في المعترك الوطني، والذي عزز ذلك وجود شخصيات من الطراز الرفيع في قيادته، وعلى رأسهم مبصر اليمن وحكيمها الشاعر عبد الله البردوني، الذي كان أول رئيس للاتحاد، وإلى جانبه ثلة من المثقفين السياسيين والكتاب، الذين سعوا بمواقفهم وكتاباتهم إلى بلورة خطاب تنويري مهموم بوطن يحاول النهوض من ركام التخلف والعنف، على أساس المواطنة وحرية التنقل والقول في الجغرافية الواحدة.
وفي الوقت الذي كان نظاما الشطرين يزيحان خصومهم بالاعتقال والتغييب والمطاردة، كان يجلس في اجتماعات الاتحاد المثقف الليبرالي إلى جوار المثقف الديني، ليتدارسوا أوضاع البلاد وأحوال مثقفيها، ومتابعة قضاياهم وشؤونهم، لهذا كان الشاعر والكاتب والمؤرخ والروائي والمنظر السياسي، الذين لا تجمعهم الانتماءات السياسية الواحدة، يجمع بينهم الاتحاد ومشروعه الوطني.
ولأن النظامين، شمالا وجنوباً، كانا يجرمان العمل السياسي كلا بطريقته، الأول يحرمها تحريماً بائناً على قاعدة مقولة "الحزبية تبدأ بالتأثر وتنتهي بالعمالة "، والثاني بحصره ممارسة العمل في آطار التنظيم السياسي الموحد أو الحزب القائد، فقد كان اتحاد الأدباء والكتاب أشبه بالملاذ الآمن للمطاردين والمشردين، الذين يعانون من عسف الأجهزة التي كانت تراهم في الشمال معارضين يساريين مدعومين من نظام الجنوب، في الوقت الذي ترى أجهزة الجنوب في الصوت المرتفع الناقد، الذي يطلقه الاتحاد حيال التجاوزات، يمثل تشويشاً على التجربة الاشتراكية الرائدة في المنطقة.
طيلة عقدين كاملين، غلب على نشاط الاتحاد، وحضوره في الحياة العامة، العمل الوطني بطابعه السياسي بغلاف نقابي وحقوقي، خصوصاً فيما يتعلق بأوضاع المعتقلين والمطاردين من أعضائه وغير أعضائه، ولم يكن المشروع الثقافي بخصوصيته الأدبية والفكرية يمثل التحدي الواضح في حضوره آنذاك، رغم أن أهم أهداف التأسيس هو "نشر الإنتاج الأدبي والفني لأعضاء الاتحاد وتشجيعهم بتقديم كافة التسهيلات الممكنة"، فلم تتعد على سبيل المثال إصدارات الاتحاد في الأعوام العشرة الأولى من مسيرته أصابع اليدين، حتى وهي تمثل في بعض حالاتها أعمالا ريادية بمقاييس الحداثة وقتها مثل رواية "يموتون غرباء" لمحمد عبد الولي، ومجموعة "غريب على الطريق" للشاعر محمد أنعم غالب.
لكن بالمقابل كان يُنظر للصدور المنتظم لمجلة الحكمة بوصفه فعلا ثقافيا متكاملاً، لما كانت تمثله المجلة من منبر غير مكبل، استوعب الكثير من نتاجات الأدباء، بما فيها السجالات والنقاشات الحادة حول موضوع الوحدة اليمنية، التي صدرت هي الأخرى في كتاب حمل عنوان "الوحدة اليمنية"، تأسيساً لما جاء في افتتاحية العدد الثاني في منتصف مايو1971، و"حكمة اليوم ستغطي النقص في مجال الأدب والفنون والتاريخ، لأنها يجب ان تضطلع بهذا الدور"، وقد مثلت افتتاحيات المجلة على مدى عقدين مادة مهمة لدارسي تمظهرات خطاب الاتحاد، ومواقفه من القضايا السياسية والوطنية شمالا وجنوباً.
التسعينيات وتبدلات الخطاب والحضور
حين وصل الاتحاديون إلى مؤتمرهم الخامس الذي انعقد في عدن عام الوحدة (أكتوبر 1990)، كان لابد أن يصيغوا شعارا جديدا يواكب المرحلة، فاختاروا شعار "بالديموقراطية والوحدة تزدهر الثقافة"، لكن هل كانوا يدركون ان هذا المؤتمر سيكون المدشن الفعلي للتحول في تركيبة الاتحاد وخطابه وحضوره في المشهد العاصف الجديد الذي وسم البلاد والمنطقة والعالم بجملة من التبدلات، مثل سقوط اليقينيات الكبرى، وتسيد القطبية الواحدة، ورواج مقولات نهاية التاريخ والأيديولوجيا؟
فأولى هذه التحولات، كانت إزاحة الرموز التاريخية في الاتحاد من المواقع القيادية، على نحو إزاحة الجاوي من الأمانة العامة ورئاسة تحرير الحكمة، وإزاحة أحمد دماج من رئاسة الاتحاد وشهد الاتحاد، وتولي الشاعر سلطان الصريمي موقع الأمين العام، والأستاذ محمد الربادي موقع الرئيس.
ولم يمض عاما واحدا، إلا وكانت الانقسامات قد بدأت تبرز، وأفضت إلى تقديم الأمانة العامة استقالتها، وأعيد تشكيلها مرة أخرى من شخصيات الصف الثاني في قيادة الاتحاد، التي وبعد عناء أوصلت الاتحاد إلى المؤتمر العام السادس، الذي انعقد في صنعاء في نوفمبر 1993 عشية حرب صيف 1994.
وبعد أقل من عام على عقد المؤتمر، الذى انعقد تحت شعار جديد "حرية الإبداع تأصيل للديموقراطية والتحديث"، وتولى فيه رئاسة الاتحاد الشاعر والبرلماني المعروف يوسف الشحاري، وشغر موقع الأمين العام الشاعر إسماعيل الوريث، كان الاتحاد قد فقد العديد من مقراته في مدينة عدن، بفعل تداعيات الحرب، و تم ربطه ماليا بوزارة الشؤون الاجتماعية، مثله مثل مؤسسات الرعاية الاجتماعية، يتحصل منها على فتات المال، الذي لم يكن يكفي لنفقات تشغيل واحد من مقراته، وبوضوح ستتجلى معاناة الاتحاد الذي صار لا يستطيع إصدار مجلته ولا الوفاء بالتزاماته تجاه الأعضاء وحقوقهم، حتى أولئك السياسيين الذين كبروا تحت مظلته، بدأوا يبحثون عن حضور مغاير في إطار الأحزاب والجمعيات، قاطعين جذر المودة به، لهذا بدأت نبرة خطاب الاتحاد في الشأن العام تذوي، وحضوره في المعترك يبهت، وعنايته بقضايا أعضائه تتلاشى.
في المؤتمر السابع، الذي انعقد في صنعاء (مارس 1997)، كُرس الوضع ذاته ببقاء موقع رئاسة الاتحاد وأمانته العامة بدون تغيير، مع عودة لبعض رموزه إلى مواقع قيادية فيه، مثل عودة رئيسه السابق أحمد دماج إلى موقع نائب الأمين العام، وعودة الأمين السابق سلطان الصريمي إلى الأمانة المالية، وشهدت هذه الفترة نقل مقر مجلة الحكمة إلى صنعاء ليرأس تحريرها الشاعر محمد حسين هيثم، حيث بدأت بالتعافي ومعاودة الصدور، تزامنا مع دورة عجلات الإصدارات من جديد، حيث شهدت هذه الفترة صدور قرابة عشرة عناوين لكتاب شبان من الشعراء وكتاب القصة. لكن مع ذلك استمرت متلازمة الغياب لصورة الاتحاد المكرسة في أذهان العامة تحفر في كل مدونة باحثة عن دور للاتحاد دون فائدة.
الألفية ومشروع الكتاب وتهافت الساسة
في المؤتمر العام الثامن، الذي انعقد مرة اخرى في صنعاء في أبريل 2001، صعد إلى قيادته مجموعة من الأعضاء الشبان (شعراء وقصاصون)، وسُجل فيه حضور لافت للمرأة لأول مرة في القيادة الفوقية للاتحاد بتواجد أديبتين في عضوية الأمانة العامة لأول مرة في تاريخ الاتحاد، وتولى الأمانة العامة فيه الشاعر محمد حسين هيثم، وعاد أحمد قاسم دماج إلى موقع الرئاسة. في هذا المؤتمر صوت المؤتمرون على تعديلات على النظام الأساس للاتحاد، باستحداث أمانة جديدة للحقوق والحريات، واشتراطات العضوية وعلاقة الفروع بالمركز، وتعيين هيئة مستشارين، كمحاولة لمواكبة التغيرات التي أحاطت به.
في هذا المؤتمر سيسجل أول اختراق لتقاليد الاتحاد العتيقة، بالمساومة على اقتسام المواقع القيادية بين منتسبي الحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي العام) وبقية المحسوبين على الأطراف السياسية والمستقلين، دون انتخابات مباشرة فعلية، وأراد الحاكم من ذلك إتمام تدجين آخر القلاع المستعصية، وهو ما سيتمه بعد أربع سنوات في المؤتمر التاسع المنعقد في مارس 2005، حين استخدم المال السياسي وبشكل فاضح، لفرض المحسوبين عليه في قيادة الاتحاد، وإقصاء كل المناوئين من الشخصيات النقابية بطريقة خشنة تماماً مما جعل عضو المجلس التنفيذي بشرى المقطري تقول لاحقاً "الاتحاد انهار مشروعه الوطني منذ 2005 وصعود قيادات في الأمانة لا علاقة لها بالأدب ولكن بسبب فرض المؤتمر الشعبي لأسماء بعينها".
في هذا المؤتمر، ولأول مرة ستصعد سيدة إلى موقع الأمين العام، وهي الشاعرة هدى أبلان، وتولى الناقد والأكاديمي عبد الله البار رئاسة الاتحاد، وهو ذات الأمر الذي سيتكرر في المؤتمر العاشر، الذي انعقد في مدينة عدن في مايو 2010، وبذات الطرائق تقريباً.
وما يمكن قوله عن هذه المرحلة أو ما سنعرفه بـ"سنوات الألفية" بروز مشروع الإصدار الذي أُطلق في منتصف العام 2002 تحت شعار "كتاب في كل أسبوع"، وغطى هذا المشروع سبع سلاسل إصدار، استوعبت على مدى عامين ونصف مائة وعشرين عنوانا تقريباً، ووصل الى ذروته مع عام "صنعاء عاصمة للثقافة 2004"، والذي ساعد على ذلك هو الاستقرار المالي، وتعدد موارد الاتحاد، وقبل هذا وذاك وجود أمين عام مهجوس بمثل هكذا موضوع، وأعني هنا الراحل محمد هيثم.
لكن هذا المشروع سيتراجع بعد المؤتمر التاسع بشكل ملحوظ حتى توقف في العام 2008، ليحل محله مشروع الرعاية الاجتماعية، الذي شهد تحسنا ملحوظاً، في دعم الأعضاء في مجالات الرعاية الصحية، ودعم الطباعة والإعانات على حساب الموقف الوطني، والموقف من الحريات، التي بدأت تسجل تراجعات مخيفة على مستوى البلاد كلها.
شتاء الاتحاد وربيع الانقسام
في المؤتمر العام العاشر بدأت تنعكس حالة "اللاتوازن" التي تمر بها البلاد على اصطفافات الأدباء، فبرزت وبشكل واضح الانقسامات على أساس مناطقي (شمالي/ جنوبي)، وانعكست بشكل مباشر على تركيبة المجلس التنفيذي للاتحاد، وتاليا على انتخابات الأمانة العامة، التي تأجل انتخابها لشهرين كاملين، في سابقة هي الأولى في تاريخ الاتحاد، بسبب هذا الانقسام.
وبعد ستة أشهر من المؤتمر، دخلت البلاد في ربيعها الشعبي لإسقاط النظام، فلم يُسمع صوتا للاتحاد، وسُمع، بدلاً عن ذلك، صوتا انفراديا لبعض اعضائه الذين عرفوا بـ"أدباء مع التغيير"، كساند للثورة الشبابية الشعبية السلمية (ثورة 11 فبراير)، ومنذ ذلك الحين والاتحاد يعيش حالة موات حقيقي، فأنشطته متوقفة، ومقراته مغلقة، وموظفيه بلا إعاشات، ولم يستطع عقد مؤتمره الاستثنائي لتحديد مستقبله وهويته الكلية، بعد أن بدأت تبرز إلى السطح دعوات لإنشاء اتحاد أدباء الجنوب، واتحاد أدباء وكتاب حضرموت، ويعزز من هذا التوجه الآن، الانقسام الحاد الذي تشهده البلاد، وحالة الفوضى والاحتراب التي تلفها شبراً شبراً.
أما السؤال الذي يكبر عند أعضاء الاتحاد يقول: بعد كل هذا التوعك المميت، بأي صورة يمكن أن يظهر بها اتحادهم، بعد أن تضع الحرب أوزارها؟
المراجع
استفاد الكاتب في تناوله للموضوع من:
ـ اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.. عشر سنوات من النضال، ط(1) 1981
ـ افتتاحيات الحكمة، مختارات 1971ـ 1989، إصدارات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ط (1) 1989
ـ الوحدة اليمنية، مختارات من كتابات مجلة الحكمة، اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ط (1) 1988
ـ من الخطاب العام إلى الهوية المهنية، محمد عبد الوهاب الشيباني، صحيفة الثقافية، تعز، العدد 323 /2006
ـ نكسة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، بشرى المقطري، موقع شهارة الإلكتروني، 9/5/2012.
(*) شاعر وكاتب، عضو المجلس التنفيذي لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.
* نقلا عن صفحة الكاتب بالفيسبوك