قراءة في أبعاد ودلالات الاشتباكات في عدن
- الجزيرة نت - أيمن نبيل الأحد, 04 فبراير, 2018 - 09:27 صباحاً
قراءة في أبعاد ودلالات الاشتباكات في عدن

[ أرشيفية ]

شهدت العاصمة اليمنية المؤقتة عدن توترًا سياسيًا شديدًا، أعقبته اشتباكات مسلحة بين قوات حكوميّة وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي في الأسبوع الأخير من يناير/كانون الثاني الماضي.
 
وتشكل هذه الأحداث وتفاعل كل من السعودية والإمارات معها مدخلًا جيدًا لمناقشة طبيعة الوضع الذي وصلت إليه المناطق الخاضعة رسميًا لسلطة الحكومة الشرعية، وطبيعة المشاكل والاتجاهات الموجودة داخل قيادة التحالف العربي بخصوص اليمن.
 
سياق الأحداث
 
تتعاور عدن أزماتٌ اقتصادية وأمنية منذ اجتياحها من قبل قوات الحوثيين وصالح عام 2015، وطرد المقاومة الجنوبية والقوات السعودية والإماراتيّة لها في يوليو/تموز من نفس العام.
 
أما الأزمة السياسية في جنوب اليمن فهي جزء من السياق اليمني العام المتأزم والمرتبط بإشكالات مزمنة، تتعلق في الأصل بفشل نظام صالح في إعطاء طابع ديمقراطي وعادل للوحدة اليمنية بين الشطرين.
 
بعد طرد قوات صالح والحوثيين؛ أصبحت عدن مليئة بالمليشيات التي تتوزع اتجاهاتها بين السلفيّة والانفصاليّة، إضافة إلى القوات العسكرية التابعة لحكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، ونتج عن هذا تردٍّ في الحالة الأمنية لعدن خاصة وجنوب اليمن عامة.
 
"بعد طرد قوات صالح والحوثيين؛ أصبحت عدن مليئة بالمليشيات التي تتوزع اتجاهاتها بين السلفيّة والانفصاليّة، إضافة إلى القوات العسكرية التابعة لحكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، ونتج عن هذا تردٍّ في الحالة الأمنية لعدن خاصة وجنوب اليمن عامة"
 
 ولكن أزمتها السياسية الحالية بدأت منذ إقالة الرئيس هادي لعيدروس الزبيدي من منصب محافظ عدن في نيسان/أبريل 2017. وكرد فعل على هذه الإقالة؛ أسّس الزبيدي ومن معه "المجلس الانتقالي الجنوبي" في مايو/أيار الماضي بدعم إماراتي قوي وعلني.
 
ومنذ ذلك الحين، أخذت الأزمة السياسيّة في عدن والجنوب تأخذ شكلًا واضحًا؛ فالإمارات أعلنت عمليا -بدعمها لتشكيل المجلس الانتقالي- مشروعَها الخاص بالجنوب، والذي يرى ضرورة فصله عن الشمال بالمعنى الإداري والعملي على الأقل.
 
كما أنها استطاعت بهذا المجلس دمج تيارين رئيسيّين موالين لها في كيان واحد: تيار انفصالي بقيادة عيدروس الزبيدي، وتيار سلفي له سياسات وأفكار غير معهودة في الحركات السلفية اليمنية السابقة، بقيادة هاني بن بريك، وهو قائد قوات الحزام الأمني المدارة مباشرة من الإمارات.
 
على الطرف الآخر من المعادلة؛ هناك الرئيس هادي وحكومته والقوات العسكرية التابعة لها، والتي تمتلك وجودًا وازنًا داخل مدينة عدن، وعلى رأس تلك القوات ألوية الحماية الرئاسيّة التي تقود بعضَها شخصياتٌ ذات توجه سلفي، وهي موالية للسعودية وذات أيديولوجيا تقليديّة تعترف بـ"طاعة ولي الأمر".
 
وبخلاف الإمارات، فإن السعوديّة لا تُظهر توجهًا إستراتيجيًا واضحًا في عدن، ولا تبدو مندفعة في دعم حليفها اليمني وهو الرئيس هادي وحكومته، وتبدو مرتبكة في الموازنة بين دعم حليفها اليمني واسترضاء حليفها الإقليمي القوي وهو الإمارات.
 
ويظهر من سياق الأحداث -منذ العام الماضي وحتى توقف الاشتباكات الأخيرة في عدن- أن الإمارات تُدرك الارتباك السعودي، وتستفيد منه بدون مواربة أو اختباء وراء لياقة في الممارسة السياسية، ونتذكر جميعًا منع القوات الموالية للإمارات الطائرةَ الرئاسية من الهبوط في مطار عدن العام الماضي.
 
أزمة الشعبوية

للاشتباكات الأخيرة والتصعيد السياسي -الذي سبقها بقيادة المجلس الانتقالي الجنوبي- أهداف مختلفة، ولكن الباعث الرئيسي وراء التصعيد هو أزمة المجلس عند القواعد الاجتماعية التي تؤيده، وأمام القوة الإقليمية التي تدعمه وهي الإمارات.
 
المجلس الانتقالي الجنوبي تكوين سياسي ذو خطاب شعبوي متطرّف، والتشكيلات الشعبوية عمومًا تحتاج ضجة متصلة حتى لا تفقد زخمها الشعبي، لأنها تحدد علاقتها بجماهيرها عبر الوعود الكبيرة والخطابات العالية النبرة، والتركيز على فشل الأطراف الأخرى مقارنة بالنجاحات التي يجب أن تكون "ساحقة".
 
هذا بالإضافة إلى أن المجلس الانتقالي بدا هشًا في مرحلة التأسيس، واختار التحرك في مساحة سياسية تلعب فيها الحزازات الجهوية دورًا رئيسيا.
 
"اكتملت حلقة الأزمة -التي يعاني منها المجلس الانتقالي- بالتقدم المتعثّر لحكومة هادي، ومحاولة رئيس الحكومة التقارب مع الإمارات للوصول إلى حلول وسط، وإعلان الحكومة أول موازنة حكومية منذ اندلاع الحرب، والأخبار التي ترد عن استكمال تحرير محافظة تعز، وإن كانت حتى الآن مجرد أخبار لا تسندها حقائق على الأرض"
 
 وهذا علاوة على تبعية المجلس الواضحة للإمارات وسياساتها في جنوب اليمن، حيث استطاع بدعمها المالي والعسكري والإعلامي أن يفرض نفسه على الساحة السياسية، وبدون ذلك الدعم كان المجلس سيكون مكونًا يضيع صوته في خضم ضجة وخطابات مكونات سياسية انفصالية جنوبية عديدة أخرى.
 
وجد المجلس الانتقالي نفسه -بعد ثمانية أشهر من تأسيسه- في وضع حرج؛ فلم يستطع تحقيق أي تقدم ملموس في وعده لجماهيره بفصل الجنوب عن الشمال، رغم صوته العالي بخصوص هذه المسألة، ورغم أن الظروف السياسية حاليًا توفر مساحة لجذب قواعد اجتماعية للمشاريع الانفصالية على أنواعها.
 
وهربًا من هذا الفشل راح المجلس الانتقالي يمارس سياسات متهورة، أضرت بصورته الدولية وحفّزت نزعات جهوية تقترب من العنصرية داخل المجتمع، مثل إشراف قوات تابعة لقيادات فيه على مراكز تعذيب (بإشراف إماراتي)، ومنع الحزام الأمني لمواطنين من الشمال اليمني من دخول مدينة عدن.
 
بالإضافة إلى ذلك، يعرف المجلس الانتقالي أن أهمية خطابه في الفضاء السياسي الجنوبي لا تنبع من قيادات محنكة أو سياسات ذكية، بل بسبب تجريف المجال السياسي وضعف البدائل السياسية أمام المجتمع.
 
ولهذا أقلق التقاربُ الإماراتي مع حزب التجمع اليمني للإصلاح -بعد مقتل صالح في ديسمبر/كانون الأول الماضي- قياداتِ المجلس الانتقالي، لأنه يحمل إمكانية -لا تزال بعيدة- عودة منافس ذي قواعد اجتماعية قد ينازعه ليس على الفضاء السياسي فحسب، بل وعلى الدعم الإماراتي "السخي" أيضًا.  
 
واكتملت حلقة الأزمة -التي يعاني منها المجلس الانتقالي- بالتقدم المتعثّر لحكومة هادي، ومحاولة رئيس الحكومة التقارب مع الإمارات للوصول إلى حلول وسط، وإعلان الحكومة أول موازنة حكومية منذ اندلاع الحرب، والأخبار التي ترد عن استكمال تحرير محافظة تعز، وإن كانت حتى الآن مجرد أخبار لا تسندها حقائق على الأرض.
 
في هذا السياق المركب؛ احتاج المجلس الانتقالي إلى تحقيق أي "انتصار" يضمن موقعه كممثل رئيسي لفكرة الانفصال، وكمحتكر لتنفيذ المشروع الإماراتي في جنوب اليمن.
 
وكان الميدان الأسهل للوصول إلى بعض هذه الأهداف هو ضرب البديل الضعيف (والوحيد) أمام المجتمع حاليًا وهو حكومة هادي، خاصة مع وجود قوات عسكرية ذات وزن تابعة للحكومة في عدن، وقد استعصت على التطويع طوال الفترة الماضية.
 
دلالات الاشتباكات

في هذا السياق؛ جاءت المطالبة بإقالة حكومة بن دغر وإعطاء "المهلة" للرئيس هادي كخطوة شعبوية يمكن الاستفادة منها، ولكنها تحمل بالتأكيد احتمالات انزلاق البلاد نحو الفوضى العارمة، وهذه الاحتمالات تعطي إشارة على طابع المراهقة السياسية الذي يميز سياسات المجلس الانتقالي.
 
تلاقت هذه الأزمة عند هذا المجلس مع التوجهات الإماراتية الواضحة التي تبحث عن بديل للرئيس هادي منذ يوليو/تموز 2015، ويفيد توجهَها هذا بطبيعة الحال ضربُ حكومة هادي سياسيًا وعسكريًا، خاصة أن ألوية الحماية الرئاسية أظهرت ولاءً واضحًا للحكومة، وبعض قادتها عبّر سابقا عن امتعاضه من الدور الإماراتي المقوِّض لسلطة الدولة في عدن، ومنهم قائد اللواء الرابع مهران القباطي.
 
أظهر أول يوم من الاشتباكات أن القوات التابعة لهادي بإمكانها الصمود -وحتى التفوق- على قوات المجلس الانتقالي، في حين أن اليوم الثاني أثبت أن هذا "التكافؤ" يختل لمصلحة المجلس الانتقالي بسبب اختلال التوازن بين الإمارات والسعودية.
 
فبعد يومين فقط من الاشتباكات، سقط اللواء الرابع التابع لهادي والذي كان يمثل إزعاجًا للسياسة الإماراتية، خاصة أن قائده ينتمي إلى التيار السلفي الذي تعتمد الإمارات على قطاعات منه في إدارة الشأن الأمني داخل عدن.
 
"بات من الواضح للجميع الآن -وقد كان واضحا لكثيرين من قبل- أن "شرعية" التدخل السعودي والإماراتي في اليمن قد انتهت، منذ أن بدأت تظهر أولى الممارسات الإماراتية الرافضة لهادي والمعرقلة لعودته مع الحكومة إلى عدن، والتجاوب السعودي المتفهم لتلك الممارسات والمتعاون معها"
 
 وهذا السقوط المفاجئ للواء الرابع واقتراب قوات المجلس من قصر المعاشيق -رغم صمود القوات التابعة لهادي في اليوم الأول- يُفهم سياسيًا بالدرجة الأولى؛ فإذا كانت الإمارات تقف خلف المجلس الانتقالي بنزعة هجومية حادة، فإن السعودية تحاول فقط التحكّم في أضرار الهجوم على حكومة هادي. وثمّة فرق واضح بين السياستين.
 
ويظهِر هذا الفارقَ بيانُ "التحالف العربي" بخصوص الاشتباكات في عدن، وعدم وقوف السعودية بوضوح خلف الرئيس هادي بما هو رمز للدولة في مواجهة مليشيات. وهذه النتيجة تطرح أسئلة كثيرة عن الخطوة القادمة للإمارات في عدن، وعن مستقبل هادي وعلاقة هذا بـ"التحالف العربي".
 
بات من الواضح للجميع الآن -وقد كان واضحا لكثيرين من قبل- أن "شرعية" التدخل السعودي والإماراتي في اليمن قد انتهت، منذ أن بدأت تظهر أولى الممارسات الإماراتية الرافضة لهادي والمعرقلة لعودته مع الحكومة إلى عدن، والتجاوب السعودي المتفهم لتلك الممارسات والمتعاون معها.
 
ويبدو كذلك أن المجلس الانتقالي قد اقترب من آخر مراحل التصعيد، فلم يتبقَ شيءٌ يمكن أن تفعله قواته ولا قوات الإمارات من ورائه إلا الدخول في حرب مفتوحة مع القوات الحكومية وإسقاط حكومة هادي، وهذه خطوة مستبعَدة في الوقت الراهن لأنها ستؤدي إلى تغيُّر نوعي في صورة الصراع.
 
وهي لهذا محكومة بعوامل كثيرة لا تخص السياق اليمني أو المجلس الانتقالي أو الإمارات وحدها، ولكن بقاءها كآخر شكل من أشكال التصعيد يُظهر ضيق المساحة السياسية التي تبقّت للمجلس الانتقالي أمام التيارات الاجتماعية، التي تؤيده بسبب خطابه الشعبوي وتبعيته العمياء للسياسة الإماراتيّة.
 
ومن المتوقع -لكي يحافظ المجلس الانتقالي على بقايا شعبيّته ويُثبت النجاعة والنجاح أمام داعمه- أن يستمر في افتعال مناوشات واشتباكات محدودة مع قوات هادي تشكّل مادة للخطاب الشعبوي، بحيث يتم تقويض قواته العسكرية تدريجيًا بغير الحاجة لدخول حرب شاملة.
 
خاصة أن الرئيس هادي أثبت أنه غير مستعدّ للمجازفة حتى في حدودها الدنيا، وأنه يتكل تماما على السياسة السعودية التي قد تسمح للإمارات بإلحاق الخسائر بحليفها الرئيس هادي، ولكنها لا تسمح بسحقه تماما.  
 
كما أن الأداء الفاشل للحكومة على صعيد الخدمات، وتهم الفساد المروعة التي تلاحقها كل يوم تقريبًا؛ ظلت تأكل من شرعية هادي وحكومته بشكل دائم.
 
وما فعلته الاشتباكات الأخيرة أنها أكدت -مرة أخرى- أن تفاعل السياسة السعودية المرتبكة، التي تكتفي بإدارة الأضرار مع المشروع الإماراتي الهجومي، متقاطعًا مع الفشل والإفشال لحكومة هادي؛ سيقضي تمامًا على إمكانية بناء دولة باليمن قريبا، وذلك في مقابل انتعاش مشاريع الإمارات وارتباك السعودية، وتفريخ وتمكين المليشيات الطائفية والجهوية من إدارة شؤون اليمنيين شمالًا وجنوبًا.


التعليقات