[ عبده محمد المخلافي ]
في 2013 جلست مع والدي لنتحدث عن مسيرة حياته مع الشهيد عبده محمد المخلافي مؤسس الحركة الاسلامية في اليمن ، كان يتحدث بأسلوبه البلدي وأنا أسجل كاست واعدت صياغتها، وأسميتها مسيرة حياة مع الشهيد عبده محمد المخلافي يرويها الوالد عبدالله على سرحان.
تمهيد
عندما أكتب أو أتحدث عن الأخ الشهيد عبده محمد المخلافي ، وأحاول عصر ذاكرتي - وأنا الآن قد تجاوزت السبعين من العمر - لم أقابل إنسان أثر فيّ وترك بصماته في وجداني وحياتي مثل الشهيد عبد محمد المخلافي ، بل كانت تأسيس لحياة مختلفة وحقيقية وصحيحة لما كانت عليه حياة الناس في ذلك الزمن ، ولازالت ذكراه لها صدى في نفسي ونفوس من عرفه وإلى اليوم.
وبعد ما يقارب 39 عاماً على وفاة الشهيد ما زلت التقي ببعض ممن عاش معه أو عرفه فنتذكر صاحبنا وأيامه ومواقفه، الدمع في عيونهم وأحس بروحه تحلق بيننا .
وعندما أتذكره اليوم إنما أتذكر نفسي فعمره – آنذاك - كان بعمري أو أقل بعام أو عامين، وقـد نشأنا وترعرعنا في مكان واحد فقرانا متقاربة، تنسمنا نفس الهواء ومشينا عـلى تلك الجبال والوديان.
الشهيد / عبده محمد المخلافي ، لم يكن مجرد إنسان قضى من الأيام ما كتبه الله له فحسب ، ولكنه كان ميلاد أمة وحياة جيل مسلم معتز بهويته الإسلامية ، نرى ثمار غراسه إلى اليوم.
ليس العبرة بالسنين وطول العمر ، فكم من أناس عُمِروا ، وخرجوا من هذه الحياة كما دخولها ، لم يتركوا فيها بصماتهم ، ولم يؤثروا في حياة الناس ، ولم يكن لهم هدف فيها.
ولكن الشهيد / عبده محمد ، رغم قصر عمره ، كان مجدد أمة ، فقد جاء كما هو شأن المجددين و الناس قد تجاذبتهم الشعارات والقوميات ، فانبهروا بها ، وغفلوا عن مبادئ الإسلام والعمل له ، فصحح لهم الأفكار والمفاهيم ، وغرس فيهم حب العلم والعمل لله والدعوة في سبيله .
* الرحيل إلى البيت الحرام :
وعندما طَـرَقنا الشباب وداعبت مخيلتنا أحلام المستقبل ، يممنا وجوهنا نحو البلد الحرام ( مكة المكرمة ) وغادرنا مع الركب المتوجه من قرى المخلاف نحو البلد الحرام وكان عددنا في حدود الستين ، وكنت آنذاك أبلغ من العمر الثامنة عشر و الشهيد أقل قليلاً ، ومن ضمن الركب مجموعة لا بأس بها في مثل أعمارنا ، يحلمون بتوفير المال لبناء البيت والزواج عند العودة ، ولكن الشهيد كانت له نفس طموحه وهمة وثابة وهدف كبير وكان حلمه أعظم من ذلك.
غادرنا في عام 1375هـ قبل ثمانية أشهر من بدء موسم الحج , وكان عاقل الركب وفي مقدمته الوالد/ محمد علي نعمان ( والد الشهيد ) ومشينا سيراً على الأقدام من المخلاف عبر سائلة نخله التي تفصل المخلاف عن العدين ، فوصلنا إلى منطقة الوزيرة وعبرنا سائلة زبيد ثم منطقة التُريبة فالمراوعة فباجل ثم منطقة الضحى فالقناوص ، وكنا نسير من بعد صلاة الفجر حتى صلاة الظهر ثم تبد فترة الراحة حيث نتناول الغداء ثم نخزن بالقات المدقوق - الذي أحضرناه معنا - حتى صلاة العصر وبعد الصلاة نواصل السير إلى الليل قرابة الساعة الثامنة أو التاسعة .
وأتذكر ونحن في منطقة القناوص بعد أن تناولنا الغداء ( كبش اشتريناه ) ثم أخذ كلاً منا قاته المدقوق وكذلك فعل الشهيد / عبده محمد – فدخل منه في حلقه فسده ونقطع نفسه وأغميّ عليه وسقط على الأرض ، فصاح والده فزعاً وخوفاً على حياة ولده وهو يقول ( يا ولدي) فأسرعت إلى قهوة مصبوبة في الحيسي ( كوب حجري) وكانت ساخنة جداً وفتحت فمه وصببتها دفعه واحده فانفرج ما ألم به , وكانت تلك الحادثة الأولى التي عرضت حياته للخطر وكنت – بقدر الله سبحانه وتعالى - سبباً في نجاته .
وواصلنا السير نحو منطقة حرض وعندما وصلنا لم نرى إلا عشش وأكواخ ولا يوجد فيها بناء سوى القلعة التي بناها الإمام وكانت هي المقر الحكومي ، وصلناها بعد ثمانية أيام من السير المضني والتعب الشديد ، ولكنا لم نبالي بكل ذلك فنحن على موعد مع مستقبل جديد كما حلمنا ، وأذكر أن أحلام اليقظة داعبتنا حينها بأمنيات الغد الجميل ونحن نتمتم أخيراً ستبتسم لنا الدنيا .
وعندما تقدمنا للعبور ودخول الحدود السعودية ، فوجئنا بمنعنا بحجة عدم وجود ( فيزا السفر ) وكانت تسمى في ذلك الوقت (الكرنتينا ) ، وصدمنا بهذه الحادثة التي أحزنت الجميع ، وتبددت عندها أحلامنا وأمنياتنا وضاع هباءً ما قاسيناه من تعب ومشقة السفر ، ولازالت هذه الذكرى تحز في نفسي وذلك أننا اليمنيين منذ ما قبل ذلك اليوم من عام 1375هـ وحتى هذا اليوم من 1428هـ ( أي ما يزيد عن 53عاماً ) مازلنا نبحث عن مستقبلنا لدى الغير ، و بلادنا لازالت تطرد أبناءها ، ولازلنا نُدفع من الأبواب ، ولازال منتهى أحلام أولادنا وأحفادنا هي الحصول على الفيزا ومغادرة البلاد كما كنا نحن , وكأن العقلية التي كانت تحكمنا في ذلك الحين ، هي نفسها التي تحكمنا اليوم وما أشبه اليوم بالبارحة.
عاد الركب مكسور الخاطر بعد منعه من اجتياز الحدود ، و رافقتهم حتى وصلنا بيت الفقيه ليلاً ، وهناك فارقتهم.
واصل الشهيد مسيره مع الركب, أما أنا فيممت نحو زبيد مدينة العلم والعلماء ، ووصلت إلى الحسينية ونمت فيها حتى قبيل الفجر ، واستأجرت ركوب (حمار) حتى زبيد ، ودخلتها صباحاً ، وتوجهت إلى ( رباط على يوسف ) ومكثت هناك ستة أشهر أقرأ القرآن على يد الشيخ خالد بن محسن المخلافي ، وهو من منطقة الأشموس في المخلاف ، واستقر في زبيد ، وكان من علمائها وكان هو شيخ القادمين من الجبال ، ولازال الشيخ سليمان الأهدل يذكره إلى الآن ، وبعدها عدت إلى المخلاف ومكثت فيها شهرين , حتى بدأ موسم الحج
* الرحيل الى البلد الحرام مرة أخرى :
عزمت على السفر والحج ( وكانت اول مره أحج فيه وكذلك الشهيد ) بعد ان منعنا من قبل وكذلك عزم الشهيد دون اتفاق مسبق ولم يخبر أحدنا الأخر ,ولكنها (الأرواح ) كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم ,الأروح جنودُ مجنده ما تعارف منها إئتلف , و ما تناكر منها اختلف ) ىسلك كلٌ منا طريق مختلف ، فسلكت الطريق البحري حيث سرت من قريتي حتى تعز وركبت من هناك السيارة الى الحديدة ،ثم غادرنا بالباخرة من ميناء الحديدة ، و بعد ثلاثة أيام وصلت إلى جدة ، وبعدها توجهت إلى مهوى القلوب مكة المكرمة ،وسكنت عند أصدقائي في الحرم في(رباط باب إبراهيم).
أما الشهيد فسلك الطريق البري التي سبق أن سلكناها في سفرنا الأول ، والتقيت به في الحرم المكي على مرأى من الكعبة ، ونحن نؤدي مناسك الحج ففرح كلٌ منا بالآخر ، وسكن الشهيد مع والده في جبل عمر فترة بسيطة ، ثم انتقل إلى السكن عند الشيخ / غالب أحمد (مازال حياً يرزق) الذي كان له فضل كبير على الشهيد فهو معلمه الذي دَرَسَه القرآن الكريم في كُتَاب القرية , وقد هاجر إلى البلد الحرام منذ سنين ، وتم تمكينه من غرفة مستقلة من غرف الحرم المكي في نفس الرباط الذي اسكن فيه رباط باب إبراهيم ، ورحب المعلم بتلميذه النجيب .
* طلب العلم والدراسة :
إجتهد الشهيد في تلك الفترة اجتهاداً عظيماً ، فالتحق صباحاً بمدرسة الفلاح وحُدد مستواه في الصف الخامس ، والتحق عصراً بدار الحديث ، وكان يقتنص وقت الفراغ لطلب الرزق وتوفير المصاريف .
وكانت هذه الفترة هي بداياته في الخطابة فكان يلقي المواعظ والكلمات في دار الحديث وفي بعض المساجد ، فظهر فصيحاً بليغاً جريئاً لا يخاف ولا يرتجف ، يختار الألفاظ والعبارات بدقة ويسندها بالأدلة من الكتاب والسنة فاُعجب به مشايخه في دار الحديث ، فعينه شيخ ( رباط باب إبراهيم ) الذي اذكر انه كان يدعى بالشيخ خالد خطيباً في أحد مساجد العتيبية .
وخلال دراسته في دار الحديث ربطته علاقات قوية مع كثيرين ومنهم الأستاذ /على سعيد الغيلي (مازال حي يرزق) ، الذي كان يعمل مدرساً في دار الحديث ، ثم غادر بعد ذلك الأستاذ علي سعيد ، متوجهاً إلى القاهرة للدراسة في الأزهر الشريف .
* السفر للدراسة في القاهرة :
ورغم سفر الأستاذ / علي سعيد الغيلي إلى القاهرة ، إلا أنه ظل يتواصل مع الشهيد/ عبده محمد ، وما هو إلا عام تقريباً حتى لحق به إلى القاهرة .
وكان الشهيد حينها قد أكمل الصف السادس في مدرسة الفلاح بمكة ، بعد أن قضى فيها عامين من الدراسة .
وفي مصر التحق الشهيد بالأزهر الشريف ابتداءً من الصف الأول الإعدادي ولم يكمل دراسته في الأزهر بسبب نشاطه السياسي وارتباطه بجماعة الإخوان المسلمين مما أدى الى ترحيله الى اليمن . وفي الأزهر صُقِلَت شخصية الشهيد بعد تعرفه على جماعة الإخوان المسلمين وكان شعلة نشاط وحيوية حتى لقب ( بالبنا الصغير) ، وقد أخبرني عن ذلك عندما رافقته بعد عودته إلى اليمن ، ومن جملة ما قال لي أنه كان نهماً جداً في طلب العلم ومتابعة النشاطات الإسلامية هناك وأنه لم يترك ندوة أو محاضرة إلا وحضرها في القاهرة خلال تلك الفترة ، وأنه قرأ كل ما وصل إليه أو استطاع الحصول عليه من كتب وكتيبات وصحف ومجلات ، وأنه قابل معظم - إن لم نقل كل - الشخصيات الإسلامية التي زارت القاهرة في تلك الفترة من أنحاء العالم مثل الندوي والمودودي وغيرهم ، فضلاً عن الشخصيات المصرية ، وأنه كان يزور جميع الشخصيات التي تقدم من اليمن فيحاول تقديم خدماته لهم وتعريفهم بالقاهرة ويوطد علاقته معهم استعداداً لمرحله قادمة .
وأذكر هنا قصة حصلت بعد أن افترقت عن الشهيد بما يقارب 3 أعوام حيث مكثت عام في مكة بعد مغادرة الشهيد ثم عدت إلى المخلاف ومكثت فيها عامين وفي إحدى المرات عاد والدي إلى القرية وهو يحمل صورة للشهيد وهو بلباس الأزهري أعطاه إياها الأستاذ / قاسم غالب ، وزير التربية آنذاك ، وقد تعرف عليه الوالد في سجن نافع بحجة ، حيث أن الوالد في ثورة 48 هـ الدستورية كان من ضمن الوفد الذي رافق عامل تعز إلى الحديدة لاستقبال عزام باشا ، أمين الجامعة العربية ، الذي قدم للتهنئة بالثورة(ثورة 48) ، ولكن الإمام أحمد ، انتصر على الثوار ، وأُلقى القبض على الوفد ، ورحلوا إلى سجن نافع في حجة ، و سجنوا لمدة ستة أشهر ، وهناك تعرف الوالد على الأستاذ/ قاسم غالب . الذي اصبح وزير للتربية في العهد الجمهوري، وعندما سافر الأستاذ / قاسم غالب ، إلى القاهرة ، زاره فيها الشهيد وتعرف عليه ، فأعجب به الوزير.
وعندما عاد أ / قاسم غالب ، إلى اليمن ، وقابل الوالد في تعز سأله عن شخص يدرس في القاهرة اسمه عبده محمد علي . فقال الوالد : هذا بن محمد على نعمان ، هو منا وعلينا اعرفه واعرف والده ، فقال له الأستاذ / قاسم غالب : لم أرى من قبل مثل هذا الشاب نشاطا ونجاحاَ ، وهمة ، وخدمةً للناس ، وقد جمع الله تعالى له الخَلْق والأخلاق ، والفصاحة والذكاء ، ثم أعطى للوالد تلك الصورة .
وعندما سمعت ذلك من والدي، فرحت بهذا النجاح الذي حققه صديقي ، ولم أستغرب ذلك لما أعرفه عنه من الذكاء والهمة والطموح.
وكان للشهيد زملاء وأصدقاء كثر في مصر ، عرفتهم فيما بعد ، عندما رافقت الشهيد ، وأذكر منهم الأستاذ / ياسين عبد العزيز ، والأستاذ / عبد المجيد الزنداني ، والأستاذ / عبد السلام كرمان ، والأستاذ / سعيد فرحان ، والأستاذ / حسن جابر ، والأستاذ / حسن الذاري ، والأستاذ / صالح البيضاني.
وعلمت فيما بعد أن الشهيد كان على رأس تجمع للطلاب اليمنيين من أصحاب التوجه الإسلامي في القاهرة ، ولاحظ النظام المصري نشاط الشهيد ، وفي تلك الفترة كانت قد توترت علاقة النظام المصري آنذاك بحركة الإخوان المسلمين المصرية ، فتم اعتقاله وترحيله إلى اليمن ووصل إلى صنعاء لا يملك إلا الملابس التي عليه ، فقام بعض معارفه من زملائه في القاهرة الذين عادوا من قبل واستقروا في صنعاء ومنهم الأستاذ /حسن الذاري - الذي أخبرني عن ذلك بنفسه - بتدبير بعض الملابس والنقود له التي ساعدته في الوصول إلى مدينة تعز ، التي لم يكن له فيها مأوى ، فنزل في المركز الإسلامي الذي كان يرأسه في تلك الفترة الشيخ / إبراهيم عقيل - مفتي تعز .
ولم أعلم أن الشهيد قد عاد من القاهرة إلا عندما كنت في المخلاف ، وكنا معنا مشاكل مع الدولة ، وكنت مسلحاً ببندقية يقال لها (بندق خشبي انجليزي ) نراقب الطريق أنا وبعض من أصدقائي، مـتوقعين خروج حملة عسكرية .
وإذ نحن كذلك ، رأيت في الطريق رجلين يمشيان على الأقدام ، فبقيت أراقبهما حتى اقتربا أكثر ، وعرفت أنه أ/ عبده محمد ، ومعه عم زوجته الأخ / غالب مهيوب ، فنزلت إلى الطريق وسلمت عليه وعانقته ، وسألته عن أحواله ، ورأى السلاح في يدي ، فلم ينساني من نصيحته - كما هي عادة الدعاة والمصلحين - وكان لكلامه تأثير بالغ عليَّ ، وظلت كلماته تدوي في أذني.
كان وصوله إلى المخلاف يوم ألأربعاء ، وفي صباح الجمعة ، وصلت إلينا الأخبار ، أنه سوف يخطب الجمعة في مسجد الرحبة ، وكان والدي قد سمع بالشهيد من الأستاذ / قاسم غالب – كما ذكرت آنفاً - فحرص على سماعه ، كما أن الوالد كان محباً للعلم والعلماء ، فقد درس على يد الشيخ / سعيد غالب ، وأكمل عدد من المتون والكتب أذكر منها (متن أبي شجاع - الزبد – والقاسمي – الباجوري – وسبل السلام ، وغيرها ) وكان الشيخ / سعيد غالب ، يقول : أنجب تلاميذي في المخلاف ، علي سرحان، وعبد العزيز الصوفي .
وصلت مع الوالد وأخي الأكبر عبد السلام ، والشهيد يخطب الجمعة ، وكان شيء عجيب وجديد على الناس أن يروا شاباً في الثلاثين من العمر يعتلي المنبر يخطب بهذه الطلاقة والفصاحة دون كتاب أو ورقة ، وكان الشهيد في خطبته تلك يحاول أن يغرس فيهم المفاهيم ويصحح لهم الأفكار ، وهم منصتون ومعجبون بفصاحته وطلاقته .
وبعد سنين من تلك الخطبة ، عندما رافقت الشهيد ، أخبرني أنه في تلك الخطبة كان يشعر أن الجميع مستمعون ومنصتون ، ولكنهم لا يدركون ما أقول ، عدا الوالد علي سرحان ، الذي كنت أرى هزة رأسه ونظرات عينيه ، في كل كلام ذا دلالة أو إشارة هامة.
* زواجه :
ظل الشهيد في المركز الإسلامي فترة بدون أي عمل يوفر من خلاله مصاريفه ، حتى عُين مدرساً في المدرسة الكويتية بتعز ، وكان يزوره عدد من أصدقائه وزملائه إلى المركز الإسلامي وقد أخبرني ان من ضمن من زاروه ألأستاذ /عبد المجيد الزنداني لإقامة دروس في المركز ، وكان الشهيد يكن له الكثير من التقدير ، وفي هذه الزيارة سأله أ/ عبد المجيد لماذا لا تتزوج يأخ عبده محمد ، فقال له الشهيد : على يدك، ودار بينهم نقاش فهم منه أ /عبد المجيد الزنداني ، أن المشكلة هي في المال ، فغادر المركز وقام بتدبير بعض المال ، وتم الزواج بواسطة الأستاذ / علي سعيد الغيلي، حيث تزوج الشهيد بنت الحاج / قاسم مهيوب المخلافي ، وسكن في بيت عمه في حارة الظاهرية .
* عمله مديراً للتربية والتعليم 1964 – 1968م ثم السجن والابتلاء :
عين الشهيد في عام 1964 مديراً عاماً للتربية والتعليم في تعز ، وبعد اشهر من تعينه جاء أمر من السلال رئيس الجمهورية باعتقال الشهيد وكان ذلك بإيعاز من المصريين المتواجدين في اليمن الذين شعروا أن الشهيد بدء ببناء تنظيم إسلامي في اليمن ، إلا أنه تم الإفراج عنه بعد فترة بسيطة بتدخل من بعض معارفه ، وعاد مدرساَ في مدرسة الثورة الثانوية بعد ان كان مدير عام التربية والتعليم في مدينة تعز وكان القصد من ذلك إهانته والحط من شأنه ولكن ذلك لم يهن من عزمه ولم يصرفه عن هدفه .بل زاده التصاقاً بالناس وقربا من الطلاب والشباب . إلا أنه وبعد حركة عبد الرحمن الإرياني في 1967 ، كانت هناك مطالبات جماهيرية بإعادة مديراً للتربية والتعليم وقام وفد من وجهاء تعز بالذهاب الى صنعاء دون علم الشهيد وطالبو بإعادة تعينه مديراً عاماً للتربية والتعليم في تعز ، وتم ذلك وصرفت له سيارة لاند روفر , وكان راتبه 130 ريال ولازلت اذكر التنظيم الشديد في صرف راتبه فكان يقوم بدفع60 ريال منه مساهمته مصاريف البيت حيث أن المنزل مشترك بينه وبين عمه لزوجته وشقيق عمه ويتبقى 70 ريال كانت مصاريف دعوته وحركته وكذلك احتياجات عائلته إلى نهاية الشهر.
كان نجم الشهيد في تلك الفترة قد لمع وبرزت شخصيته واختلطت المشاعر تجاهه بين محب ممن التقاه واقتنع بأفكاره أو استمع إليه ممن لا يحملون أي توجهات ، وبين مبغض من أصحاب التوجهات الأخرى الذين يرون فيه خطراً على توجهاتهم , وقد شعر الشهيد أن توليه منصب مدير عام التربية والتعليم ، سيغضب بعض التوجهات المناوئة ، وكنت كثيراً ما أزوره في بيت عمه في الظاهرية ، وفي إحدى زيارتي طلب مني أن أرافقه بشكل دائم وكان قبلها يتحرك دون حماية بل كان يسير ماشياً على قدميه , فأبديت استعدادي وتوجهت من فوري وأحضرت سلاحي وهي (بندق خشبي انجليزي ) وبعض القنابل وعندما رأي الشهيد البندقية وكانت طويلة أعطاني بندقية أخرى تسمى (نصف آلي وفيها تسع طلقات ) . وكان شرف لي ان احمي الشخص والفكرة.
استمرت فترة تولي الشهيد إدارة التربية اقل من أربع سنوات قليلاً ، وكانت هذه المدة رغم قصرها إلى أنها كانت ثرية ومباركة ، سواءً بالنسبة لي كشخص رافق الشهيد أو للحركة الإسلامية ففي هذه الفترة صيغت حياتي وتوجهاتي من جديد ، ومازلت أحدث عنها أولادي وأحفادي وقبلهم إخواني ، وفي كل يوم أتذكر شيء جديد ، ولازلت استلهم منها العبر إلى اليوم , عرفتُ خلالها بلدان وأشخاص ومعلومات ومهارات مدتني بالطاقة إلى اليوم ، وكأنها لم تكن اربع سنوات بل كأنها أربعين عاماً .
كما أن هذه الفترة قفزت بالحركة الإسلامية خطوات إلى الأمام وأثرت في مسيرتها تأثيراً عظيماً , فقد كان مدير عام التربية والتعليم في تعز هو مؤسس الحركة الإسلامية وأول مراقب عام للإخوان المسلمين في اليمن ، ورئيس المركز الإسلامي ، مما أعطاه صفه رسمية فزار المدارس والتقى بالطلاب والمعلمين وحاضرهم ، وكان يزور بعض القرى بدعوة من الطلاب ويغرس أفكاره في كل مكان ، وقابل الشخصيات الاجتماعية والدينية ، وقام ببناء أول صرح إسلامي علمي في اليمن في هذه الفترة وهي مدرسة دار القرآن ، التي أخرجت رجال الحركة الإسلامية إلى عهد قريب ، ونظم الزيارات التفقدية للمدارس في الأرياف ووصل إلى قرى لم يصلها غيره من المسئولين ، كان يؤدي واجبه المهني ولا ينسى دعوته وفكرته ، فأثمرت أعماله خير وبركة إلى اليوم ، وكان بعد الدوام يجتمع بالناس في بيته ، وكان ينظم الشباب ويكتب لهم المواعظ والخطب ويوزعهم على مجموعة من المساجد ، وكان يقوم بالخطابة في مساجد متفرقة بعد أن يستأذن من خطيب المسجد ، وتنظم له المحاضرات مابين المغرب والعشاء . لقد غرس الشجرة وسقاها بدمه ، وجاء بعده من تعهدها ورعاها ولازالت تؤتي ثمارها إلى اليوم.
* تنظيم حياته وجدول عمله اليومي :
خلال فترة عمله مديراً للتربية والتعليم ، وكنا نرافقه أنا والإخوة / عبد القادر القيري الذي كان يعتبر سكرتير الشهيد ومقرباً منه - والأخ / أحمد القيري ، وكنا ملازمين له ، فيبدأ يومنا معه من الساعة السابعة صباحاً بتناول الإفطار ، ثم نتوجه إلى مكتب التربية في المـجمع الحكـومي سابقاً ( حالياً مكتب المالية) ، وبعد انتهاء الدوام يعود الشهيد إلى المنزل للغداء ، وبعده يبدأ المقيل ، ويتوافد الناس على مقيل الشهيد ، وأغلبهم من مدراء الإدارات في التربية و مدراء مدارس ، ويكون أغلب حديثهم عن التعليم وكيفية وضع الخطط لتطويره ، كما يزوره أيضا في المقيل بعض الزملاء والطلاب والمحبين.
وكان في بعض المرات يصطحبنا خارج تعز ، ونجلس تحت الأشجار ، وكان يقول هذا تجديد النشاط ليوم عمل قادم ، وفي فترة مابين المغرب والعشاء ، في الغالب تكون له محاضرة أو ندوة في أحد المساجد ، أو في المركز الإسلامي الذي يرأسه , ومساء الخميس يقوم الشهيد بإعداد خطب الجمعة لمجموعة من الطلاب الموزعين على المساجد ، كما يقوم بإعداد المواعظ والكلمات للطلاب لمدة أسبوع وكان يستمر في الكتابة حتى صلاة الفجر.
* صفاته :
صفاته الخَلقية: أبيض إلى حمرة، حليق الوجه، جميل الصورة، متوسط القامة, أنيق في هندامه.
صفاته الخُلقية : هي كثيرة ، وهي ما جعلت منه شخصية مؤثرة في الناس ، وأهم صفاته : أنه كان ثاقب الذكاء ، سرعة البديهة ، ثابت وشجاع في أوقات الشدة ، متواضع وسهل مع الناس ، ذو عزة وإباء على المستكبرين ، نزيهٌ أمين.
وهذا غيض من فيض ، ووالله أن هذا ما لمسته ورأيته فيه خلال صحبتي له .ولا أزكي على الله أحدا .
بعض من المواقف التي تدل على صفاته :
لا تسعفني الذاكرة بعد هذه المدة الطويلة لتذكر الكثير من المواقف التي حصلت للشهيد وكنت شاهد عليها. . ومنها :
أ : نزاهته :
كان الشهيد لا يمتلك سوى بذله واحدة للعمل يلبسها يومياً، وقد قام أحد المراجعين بالحضور إلى المكتب، ومعه قماش جميل تركه عندي، وطلب مني تسليمها للشهيد، وسيعود هو في وقت لاحق.
و عندما أعطيته للشهيد، رفض حتى أن يلمسه بيده، وقال اتركه عندك حتى يحضر صاحبه، وعندما حضر ذلك المراجع وجلس مع الشهيد، حيث كان له مطلب عادي ضمن الروتين عرضه على الشهيد: فوقع على طلبه، وقال له بابتسامة : خذ ما أحضرت. فغادر والحرج بادي عليه . . مع أنني كنت أريده أن يقبل ذلك القماش حتى تكن له بذلتين.
ب : حرصه على الحقوق العامة وغضبه من أجلها :
في إحدى الأيام جاء ضابط إلى مكتب الشهيد بالتربية ، وطلب منه أن يملكه الساحة التي بجوار مدرسة الثورة ( هي الآن محلات تابعة للتربية ) ولكن الشهيد رفض ، وتردد هذا الضابط على الشهيد عدة مرات ، وكان الشهيد يقول له : هذه أملاك عامة لا يجوز لك الاستحواذ عليها ، ولا يجوز لي التصرف فيها ، وكان يصرفه بلطف.
وفي إحدى المرات حضر ذلك الضابط وكرر طلبه بإلحاح ، وشتم الشهيد ، وحاول إجباره على التوقيع ، فنهض الشهيد وصفع الضابط على وجهه صفعةً قويةً ، سمعتها للغرفة المجاورة التي كنت فيها ، فأتيت من خلف الضابط وكتفته وسحبته إلى الخارج ، ولم يعد بعدها مطلقاً.
ج : شجاعته :
أذكر أيضاً أن مجموعة من الضباط حضروا إلى منزل الشهيد ، لافتعال مشكلة الهدف منها القضاء عليه ، حيث كانت بعض القوى من التوجهات الأخرى في تلك الفترة قد أحست بخطره عليهم ، فخرج إليهم أمام باب المنزل وتحدث معهم بهدوء ، إلا أنهم أساءوا الحديث معه ، فظهر الغضب على وجهه ، ثم عاد إلى الخلف يبحث عن شيء يقذفهم به ، فأسرعت إليه ودفعته إلى المنزل ، وعدت إليهم ، وأخرجت جنبيتي وهويت بها نحو أحدهم ولكن أحد الجيران أمسك يدي , وأنسحب الضباط وهم يهددون أنهم سيعودون بعدد كبير , فاستعدينا بإمكانياتنا المتواضعة ، وحاول الشهيد الاتصال بالمحافظ ولكن الهاتف قطع بفعل فاعل ، وكان الجو متوتراً ، إلا أن الشهيد ظل هادئاً ومبتسماً وكأنه لم يحدث شيء، - هناك شهود أحياء على كل ماذكرت مثل الأستاذ عبدالقادر القيري
* تحين الفرص لتوعية الشباب :
كان في كثير من المرات قبل أن يتوجه إلى مكتبه بالتربية ، يعرج على مدرسة الثورة المدرسة الثانوية الوحيدة في تعز آنذاك (حالياَ مكتب التربية) ويدخل إلى الصفوف العليا ، الأول والثاني والثالث الثانوي ، ويلقي فيهم محاضرة ، وبعدها يتوجه إلى مكتبه .
وتكررت زيارة الشهيد لمدرسة الثورة الثانوية ، فشعر أصحاب التوجهات الأخرى بخطورة ذلك على توجهاتهم - حيث أعجب عدد من الطلاب بكلامه وأفكاره – فقام بعض الطلاب من ذوي التوجه الناصري يتقدمهم عيسى محمد سيف (رحمه الله) بإعداد بعض المطالب التعجيزية لتقديمها له في الزيارة المقبلة ، وفعلاً قدموها له وتحدث معهم وناقشهم ، إلا أنهم اعترضوا على كلامه ، ومنهم من أساء الأدب ، فغادر الشهيد المدرسة .
وفي زيارة أخرى كان قد علم الطلاب بها مسبقاً فتم تحريضهم ، فتجمعوا في الحوش مايقارب 150 إلى 200 طالب ، ووصل الشهيد إلى المدرسة ، وعندما رآهم توجه إلى الإدارة خلاف لمعتاد حيث كان يتوجه إلى الصفوف العليا ، فلم تكن للأستاذ رغبة في مواجهة من يعتبرهم طلابه ومحط آماله , وكان مدير المدرسة آنذاك هو الأستاذ /عبدالرؤوف نجم الدين الفلسطيني ، و عندما تقدمت جموع الطلاب نحو الإدارة حاول الشهيد الاتصال بالمحافظ ، فقام الطلاب بقطع أسلاك الهاتف ثم هجموا على الإدارة بأعداد كبيرة ، فعدت إلى خلف المكاتب وفتحت بندقيتي ووجهتها إليهم ، وأخرجت قنبلة التي كانت بحوزتي ، وهددتهم بأنهم إن تقدموا فسوف أطلق النار عليهم ، وكنت جاداً في ذلك ، فلن أسمح لهم بإهانة الشهيد ، وكنت انظر إليه ، فأره ثابتاً ولا يهتز له جفن ، ومستعداً للدفاع عن نفسه إذا اقتضى الأمر ذلك .
وعندما رأى مدير المدرسة الوضع صاح في الطلاب ودفعهم بقوة إلى خارج الغرفة - ومازلت إلى اليوم أشعر بالجميل من صنع المدير / عبدالرؤوف - الذي منع الطلاب من الوصول إلى الشهيد ، لأني بالتأكيد لن أسمح لهم بذلك ، ولولاه لكانت الكارثة .
• تأثيره في الناس وحبهم له :
في إحدى الأيام انتشرت أخبار عن نية بعض القوى تنظيم مظاهره طلابية إلى مكتب الشهيد بالتربية والاعتداء عليه ، إلا أنهم عدلوا توجههم وقرروا التوجه إلى بيته في حارة الظاهرية , وفعلاً تجمع الطلاب ، ووصل الخبر إلى الناس فتجمع أهل المنطقة و أصحاب المحلات المطلة على السائلة ، خصوصاً أصحاب الأفران ، وكان يوجد عدد كبير من هذه الأفران هناك ، وبدءوا بإشعال النيران وهددوا بإحراق المتظاهرين إن هم تقدموا إلى بيت الشهيد .
كل ذلك والشهيد في هذا الوقت يجلس بهدوء، يعد خطب ومواعظ ليلقيها الطلاب في المساجد وكأن الأمر لا يعنيه.
وهنا لابد من التطرق إلى أن حب الناس لللأستاذ عبده محمد، وجاء هذا الحب والمناصرة من علاقته اليومية معهم سواء من خلال الخطب والمواعظ أو زيارتهم إلى محلاتهم والسلام عليهم، والجلوس معهم، وقضاء حوائجهم، وكذلك ما يعلمونه من نزاهته واستقامته وأخلاقه.
• نشر الفكر الإسلامي :
وكان خلال هذه الفترة كثير التواصل بزملائه في مصر ، الذين يحملون نفس الفكر والتوجه ، فكان يتصل بالأستاذ / ياسين عبد العزيز ، والأستاذ / حسن جابر ، والأستاذ / صالح البيضاني ، وآخرون , ويقول لهم اليمن بحاجة إليكم ، عودوا بأسرع ما تستطيعون ، وكانوا في السنة الأخيرة من دراستهم , وعندما عاد هؤلاء الثلاثة، وصلوا إلى بيت الشهيد، وبأيدهم حقائب السفر قبل أن يصلوا إلى بيوتهم.
وكانت علاقة الشهيد بالأستاذ / ياسين عبد العزيز ، مميزة ، وكان الشهيد يشعر ببعض المرارة لعدم تمكنه من إكمال دراسته الجامعية بسبب ترحيله من مصر ، ولكنه كان يستدرك ويقول سيأتي قريباً الأستاذ / ياسين عبد العزيز ، وسأدرس على يديه ، وقبل فترة وجيزة أخبرت الأستاذ / ياسين عبد العزيز بذلك ، فقال : ذلك تواضع من الشهيد / عبده محمد ، فهو المعلم والمربي .
فلم أدري لمن أعجب فكل واحد منهم يشهد بالفضل للآخر ، ووالله إن هذه هي الأخــــوة في الله .
* بعض من الزيارات والرحلات :
كانت للأستاذ في تلك الفترة ( فترة إدارته لمكتب التربية بتعز ) مجموعة من الرحلات والزيارات التفقدية ، وكان يركز فيها على مناطق الحجرية ، حيث فيها عدد كبير من المدارس مقارنةً بغيرها ، ولتوجه أهل هذه المناطق للتعليم وبالتالي سيكونون هم عماد الحركة الإسلامية ، لذلك كان مهتماً بأبناء هذه المناطق ، وكانت بعض الزيارات تظهر كتلبيةً لدعوات بعض الطلاب بالتنسيق معهم.
وفي جميع هذه الزيارات لم ينسى الشهيد هدفه وهو الدعوة والكسب، إلى جانب تفقد المدارس وسير التعليم فيها، وتلك الفترة كانت فترة تعريف بالحركة حيث أنها كانت جديدة على الناس.
أ – زيارة شرق الحجرية (الأعبوس مركز حيفان وما جاورها ) :
على متن سيارة الشهيد ، غادرنا تعز صباحاً ، حتى وصلنا حيفان ، رغم وصول أخبار إلينا ، أن أحد المتنفذين يهدد بتفجير السيارة ، وكان يشغل نائباً لقائد أحد الألوية وهو من حيفان ، وتركنا السيارة في ساحة إحدى المدارس هناك ، وسرنا على أقدمنا حتى مدرسة الغالبية هي مدرسة ابتدائية إعدادية وألقى فيها كلمة قصيرة وتفقد المدرسة . ثم انتقلنا إلى مدرسة بني علي الابتدائية الإعدادية الثانوية ، وكانت هي الوحيدة الثانوية على مستوى المحافظة بعد مدرسة الثورة في تعز، وفيها ألقى الشهيد محاضرة طويلة، وكانت المدرسة بنين وبنات، بفصول منفصلة، وكانت الطلبات محتشمات ومحافظات. ، وبعدها زرنا مدرسة المراوية في قرية المراوية .
ثم سرنا إلى مدرسة المشاوز وبتنا هناك على سطح المدرسة في البرد الشديد , ثم مدرسة الإرشاد ، وأذكر أنه استقبلنا الشيخ / على عبد الجليل ، وكان صاحب شهامة ومروءة ، فأركب الشهيد على خيل له ، وجعل إبنه يسوس الخيل.
ثم واصلنا السير إلى مدرسة الرجيمة التابعة لمديرية حيفان, وكان في جميع الزيارات يتفقد أوضاع المدارس وسير التعليم فيها ، ويسأل عن الاحتياجات والنواقص التي تتطلبها ، ويعد بتوفيرها , وكانت هذه الزيارات جديدة على أهل تلك المناطق فلم يسبق لمسئول أن كلف نفسه الوصول إليهم مشياً على الأقدام ، فلم تكن الطرق معبدة حينها.
ب - زيارة مناطق غرب الحجرية :
في هذه الزيارة سرنا بالسيارة حتى مدينة التربة ، وزرنا المدرسة التي فيها , ثم توجهنا نحو الأكاحل وزرنا مدرستها ، وتركنا السيارة هناك , وسرنا على الأقدام ونزلنا جبل يقال له (نقيل بسيط ) وليس له من اسمه نصيب ، فهو جبل صعب ومتعب ، ووصلنا ظهراً الى سوق المصلى وهناك صلينا صلاة الظهر في المسجد وتفاجئنا أن بعضاً من عبارات الشهيد كانت مكتوبة على أوراق ومعلقة على الجدران المسجد ، ثم تناولنا الغداء هناك ، وواصلنا السير عبر سائلة المصلى ، وكان الشهيد راكباً على حمار ، حتى منطقة صُبن وكانت خالية من الناس عدا عمال يقومون ببناء منزل فأعطونا ماء فشربنا حتى ارتوينا ثم جلسنا تحت شجرة وكان الجو صافي ونظرنا أمامنا فمتد بصرنا دون عوائق , وهناك تمنى الشهيد لو أن له مكتبة في هذا المكان يقراء منها ويخلوا بنفسه في هذا الصفاء , ثم قام وكأنه يدفع عن نفسه هذا الهاجس وسأل العمال من أين الطريق إلى قدس فقالوا أنها خلف هذا الجبل وأشاروا إلى جبل عظيم وقالوا أن اسمه (جبل الجباجب) ومؤخراً أخبرني احد أصدقاء ولدي عبد العزيز الذي حضر إحدى جلسات كتابة هذه الذكريات وهو من نفس تلك المنطقة أن اسم الجبل هو ( جبل الحشا ) وان قمته هي التي يطلق عليها (الجباجب ) فقلت أهل مكة أدرى بشعابها .
تقدمنا نحو الجبل وكان الوقت ظهراً والشمس شديدة ، ومشينا كثيراً ، وكانت الطريق دائرية ، وكأننا في عنق طير ,ولم نكن نعرف أن الجبل بهذا البُعد والارتفاع ، وإلا لما أقدمنا على صعوده ، كان الشهيد يتصبب عرقاً ، وقد أعياه التعب، ولم يعد يقوى أو يستطع مواصلة السير ، فجلسنا نرتاح.
وأما أنا كنت معتاداً لأني عشت في الريف، أما الشهيد فلم يتعد على ذلك، فقد غادر القرية وهو في الثامنة عشرة من عمره إلى السعودية ثم الى مصر للدراسة.
وبينما نحن جلوس للراحة في منتصف الجبل ، فكرنا في العودة من حيث أتينا ، ولكن ذلك لا يقل صعوبة عن الصعود ، حيث يجب أن ننزل الجبل ثم سوق المصلى ثم صعود جبل بسيط وهي مسافة طويلة إن رجعنا ، فأصابنا الهم والغم ، وضقنا ضيقاً شديداً ، وقمة الجبل مازالت بعيدة والصعود شاق ومتعب ، وكنت أنظر إلى الشهيد ، فأراه - رغم إنهاكه الظاهر للعيان - مطمئناً وهادئاً ، وكأنه يستشعر جهاد الأولين ، فيهون علينا ما نحن فيه . وبينما نحن كذلك ، رأينا أسفل الجبل شخصاً يقود حمار ، فقلت إن شاء الله هذا ركوبك يا أستاذ ، وصعد الرجل حتى وصل إلينا، فصاح الشهيد عندما رأى الرجل: مَن ؟ عبد المجيد ! وصاح الرجل : عبده محمد ! فتعانق الرجلان، وكنت في دهشة من أمري، فمَن هذا الذي جاء إلينا في هذا المكان المقفر الذي لا يعرفنا فيه أحد،وهو على علاقة كبيرة بالشهيد؟ ! .
وظل يتحدث مع الشهيد ، وعرف سبب وجودنا هنا ، وعرفت أنه صديق للشهيد ، وأنه أحد خطباء مساجد عدن ، ويسكن فيها ، وحضر لزيارة قريته ، وهو من بيت قضاة ، وقد أعجبنا بكرمه وأخلاقه ، وقد أركب الشهيد على الحمار ، وكان الحمار قوياً وأقرب مايكون للبغل ، وكنا قبل دقائق نأمل أن يقبل صاحب الحمار أن يؤجره لنا , ووصل بنا إلى قـريته ( حلقان ) في قدس ، وكان الظلام قد أسدل ستاره ، فأنزلنا في بيته وذبح ذبيحة ، وثم أحضروا القات للسمر - ولم أكن أخزن ليلاً - وخزن الجميع وكانت من أجمل الليالي بعد الكرب الذي كنا فيه .
وبعد صلاة الفجر وتناول الفطور غادرنا منزل عبد المجيد في قرية حلقان .
وقد سكن الأخ / عبد المجيد ، فيما بعد في مدينة تعز ، وكان خطيباً لأحد المساجد في شارع 26 سبتمبر خلف البنك اليمني ، وقد انقطعت أخباره ، ولكن ذكراه مازالت في قلبي عطرة ، وأجره إن شاء الله مكتوب.
غادرنا قرية حلقان متوجهين إلى قرية الذخف ، فزرنا المدرسة التي فيها ، وأطلع الشهيد على أحوال المدرسين والطلاب ومطالبهم .
ثم توجهنا إلى منطقة بني يوسف ، واستقبلنا إلى الطريق بعض أبنائها من معارف الشهيد ، لازلت أذكر منهم الأخ / محمد على إسماعيل ، والأخ / عبد الواحد اليوسفي ، والأخ / أحمد محمد غالب ، وذهبنا إلى القرية وزرنا المدرسة ، وكانت عبارة عن أشجار يستظل بها الطلاب والمعلمين ، فاعتمدها الشهيد كمدرسة.
تناولنا هناك طعام الغداء ، وجلسنا للمقيل حتى صلاة العصر ، وبعد الصلاة توجهنا نحو قرى بني حماد ، فوصلنا في حدود الساعة الثامنة ليلاً ، وكان في استقبالنا أحد زملاء الشهيد في القاهرة ، واسمه / عبد الحكيم شرف ، واستضافنا في قريته واسمها ( البهمة ).
وفي الصباح قام الشهيد بجولة على القرى المجاورة ثم زار المدرسة التي تبنى هناك على حساب اليمن الجنوبي ( سابقا) ، رأى الشهيد البنائين ، ينحتون على الحجر شعار ( المطرقة والمنجل ) فقال الشهيد للمشرف على البناء بهدوء ولطف : ما هذا ؟ .. فقال له المشرف مبتسماً: هو ما تعرف !
وظل الاثنان يتحدثان بهدوء ويضحكان ، ومن يراهما يعتقد أن بينهما علاقة صداقة قوية من ذي قبل ، وفي ذلك اليوم علمنا من الشهيد أن ذلك الشعار هو رمز الأشتراكية.
وعدنا من المدرسة إلى القرية وكان أهل القرية قد جهزوا الغداء ، وجلسنا للمقيل مع أبناء القرية إلى العصر ، وبعد الصلاة استأذنا للمغادرة ، فصمم المشرف على بناء المدرسة(الاشتراكية) أن يوصل الشهيد بسيارته ، وكانت سيارة جيب ، وسقفها ممزق ، ونزل المطر بغزارة ، فنزلنا في أحد المساجد حتى صفا الجو ، وتابعنا السير بالسيارة حتى النشمة , وكنا قد أرسلنا إلى سائق سيارة الشهيد أن يأتي إلى النشمة ، فحضر وعدنا إلى تعز.
ج – زيارة إلى ذي السفال :
وكانت هذه الرحلة برفقة الأستاذ /عبد الملك الطيب - وزير التربية والتعليم – ونزلنا بيت شخص لا أذكر من إسمه سوى لقبه الجنيد ، وهناك كان الغداء ثم القات في أعلى دور في المنزل (الرابع) وكانت مناظر الوديان والسهول أمامنا ، وكان الحديث في المقيل حول التربية والتعليم , وأذكر أننا عندما غادرنا بعد المغرب كنا في السيارة صامتين من كثرة القات ، ولا يتحدث سوى الأستاذ /عبد الملك الطيب - وزير التربية والتعليم - لأنه لا يتناول القات .
أوقف الوزير السيارة في القاعدة ، ودخل أحد المطاعم وطلب لنا شاهي حليب ، ثم واصلنا السير وبدأ كلٌ منا يتحدث ، والوزير يضحك منا ، كيف يلعب بنا القات ؟
د - زيارة إلى زبيد :
دُعيَّ الشهيد من قبل مدير ناحية زبيد لزيارتها ، فتوجهنا يوم خميس نحـو زبيد ، وكان وصولنا ليلاً وكان مدير الناحية في استقبال الشهيد ، وقال : عشاكم اليوم غزال في بيتي ، وبتنا عنده.
وفي الصباح توجهنا لزيارة أربطة زبيد ، مثل رباط علي يوسف ، ورباط البطاح ، وكان في هذا الرباط مكتبة كبيرة ، فيها عدد كبير من المخطوطات اليدوية ، وكان مفتاح المكتبة في حوزة مفتي زبيد ، فتم أستدعأه فحضر ، فاستغربنا عندما رأيناه ، فقد كان أقرع الرأس ، حافي القدمين ، يلبس ثوب فقط مفتوح الصدر ، وإذا أشترى شيء من السوق لا يسمح لأحد أن يحمل مشترياته ، بل يحملها بنفسه , في حين أنه أعلم علماء زبيد ، وقد أجمع علماء زبيد على اختياره مفتياً , وقام بفتح المكتبة وإرشاد الزوار إلى الكتب والمخطوطات ثم غادر.
وكان ذلك يوم جمعة ، فتوجهنا إلى أكـبر جامـع في زبيد ، وكان يسمى ( جامع جمعة زبيد ) حيث يحضر الجميع لصلاه الجمعة في هذا الجــامع , و خطب الشهيد وبعد الصلاة قام الناس يسلمون علية ، وأصر أحد الشخصيات البارزة ، وهو من العلماء ويدعى عبد الرحمن السالمي ، بدعوة الشهيد للغداء ، وعند المقيل سألهم الشهيد لماذا لا يخطب الجمعة أحد العلماء ، مثل المفتي أو عبد الرحمن السالمي ، أو غيرهم من العلماء وهم كُثر في زبيد ؟ فقالوا له : نحن غير معتادين علي الخطابة ، ولم نتعود ذلك ولا يجيد الخطابة غير الخطيب الحالي ، فحثهم على الخطابة حتى يستفيد الناس من علمهم ، ثم غادرنا زبيد عصراً ووصلنا تعز ليلاً .
هـ : زيارة إلى الشعر :
بدعوة من بعض تلاميذ الشهيد ، توجهنا إلى منطقة الشعر ، وأذكر منهم : الأخ / حزام محمد الزنداني والأخ / أحمد مجلي – الذي سمعت عنه مؤخراً أنه من الدعاة في أمريكا ، وأنه بنى هناك العديد من المساجد والمراكز الإسلامية - والأخ / طه أبو زيد ، وهو من زملاء الشهيد في القاهرة.
توجهنا في اليوم الأول إلى قرية حزام الزنداني وتسمى ( الضُهبي ) واستقبالنا والد حزام الزنداني ، الشيخ / محمد الزنداني ، وكان المبيت عنده .
وفي اليوم الثاني دعانا الأخ / أحمد مجلي ، لزيارة قريته ، وتسمى (الصيلوله ) وجميع سكانها من بني مجلي ، وبعد المقيل توجهنا إلى قرية ذي ناصر بدعوة من / طه أبو زيد ، وبتنا في زاوية والده وعمه ، وهما من الصوفية ، تحدث معهم الشهيد دون أن ي يعترض عليهم ، أو يجرحهم ، بل كان يستفسرهم ويحاول أن يعرف منهم أكثر مما يحدثهم .لأن الحركة كانت في طورها الأول وهو التعريف.
وفي اليوم الثالث صباحاً دعينا من قبل الشيخ / محمد الزنداني ، لتناول الغداء ، فتوجهنا إلى قرية الضُهبي ، وكان يوم جمعة فخطب الشهيد الجمعة في مسجد الرضائي ، الواقع في مركز الشعر ، وبعد الخطبة تجمع الناس للسلام عليه.
وقد عمل الشهيد في هذه الزيارة، على توسيع علاقته مع الواجهات والمواطنين، وعرفوا من خلاله الحركة الإسلامية، وكان يستقطب بعض أبنائهم الذين سيشكلون نواة الدعوة في هذه القرى والمدن.
* تعينه في المجلس الوطني :
عُين الشهيد عضواً في المجلس الوطني ( حالياً يسمى مجلس النواب ) وكان وزير التربية آنذاك هو الأستاذ /عبد الملك الطيب ، وبطلب من الشهيد تم تعين الأستاذ ياسين عبدالعزيز ، مديراً عاماً للتربية والتعليم ، خلفاً له والأستاذ / خالد محمد سعيد ، مديراً لشئون الموظفين ، والأستاذ / هيال فرحان ، مديراً للشؤون المالية ، والأستاذ / عبد الله عبد الجليل الصوفي ، مديراً لمدرسة الزبيري ، وتعييني مديراً للأقسام الداخلية.
وكان المجلس الوطني قد بدأ أعماله في 1969م، وقد طُلِبَ من الشهيد قراءة القرآن في أولى جلسات افتتاح أعمال المجلس، ثم ألقى فيهم كلمة عن المسئولية وأنها أمانة يجب تأديتها، وكان من الأعضاء البارزين في المجلس ، واختير في لجنة صياغة الدستور .
وحدث في اللجنة خلاف مع بعض أعضائها ، أبرزهم الأستاذ / أحمد محمد نعمان ( الابن ) ، أثناء صياغة الدستور ، خصوصاً حول المادة المتعلقة بالإسلام مصدر القوانين جميعاً ، والإسلام المصدر الرئيسي للتشريع ، وفي المجلس طرح كلٌ منهما رأيه وحجته ، فاقتنع المجلس برأي الشهيد ، فصفق له الجميع ، واعتمدت المادة أن الإسلام مصدر القانونين جميعاً .
* استشهاده:
لم يمكث الشهيد في المجلس الوطني طويلاً ، فقد كان على موعد للقاء ربه جل وعلا ، في مايو 1969 حيث استشهد بحادث في قاع جهران . بسيارة بيجو يملكها أحد زملائه في المجلس الوطني ، وكان برفقته ابنته خديجة وعمرها آنذاك أربع سنوات وكان الشهيد يحبها حباً شديداً ، وكان يصطحبها أينما ذهب , وشقيق زوجة الشهيد وزميلاً أخر في المجلس الوطني واسمه صادق منصور بن نصر وزوجة صادق، ونجا الجميع ما عدا الشهيد وزميله / صادق منصور.
وقد سمعت الخبر من الإذاعة فكان وقوع الخبر علينا كصاعقة ومر في ذهني شريط الذكريات ومما تذكرته حينها دعا الشهيد بعد إحدى الصلوات وقال (اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك وأن لا تكون شهادتي على يد ملحد) فقلت له لماذا المهم شهادة في سبيل الله , فقال : أن لله مخزون من شهادات لا يعلمه غيره وهو قادر على أن يرزقني إحدها , فقلت لعل الله قد استجاب دعائه , فتوجهت مع بعض الإخوة إلى صنعاء ، وفي مدينة إب ، علمنا أنه قد تم دفنه ، وأن العزاء سيكون في تعز ، فعدنا.
كان الخبر صدمة على محبي الشهيد والناس، وفرحة لأصحاب القلوب المريضة، حتى أن منهم من ذبح ذبيحة في ذلك اليوم فرحاً بموته.
وهنا يجب الحديث عن ابنة الشهيد ، البنت العزيزة / خديجة عبده محمد - رحمها الله تعالى - التي كانت أشبه الناس بوالدها خَلقاً وأخلاقاً ، وتوفيت في نفس العمر الذي توفي فيه والدها 36 عاماً ، وكان هَمْ الدعوة والعمل الدعوي يسري في دمهما .
وقد انتقلت إلى رحمة الله تعالى في يوم الجمعة 1/ 10 /2004م ، وكانت تسكن جواري في الحي ، وتعمل نائبة لمديرة مدرسة نسيبة في نفس الحي ، وكانت مثال المرأة الصالحة والتقية ، وكانت من القائدات في العمل الدعوي ، و شعلة نشاط في سبيل الله تعالى ، وكانت صاحبة تأثير على النساء والطالبات.
ولم تقعدها الأمراض التي كانت تعاني منها عن العمل التربوي والدعوة في سبيل الله تعالى ، حيث كانت تعاني من أمراض التهاب الشعب الهوائية ، وأزمة في التنفس( الربو) ، والتي كانت من أسباب وفاتها ، وفي يوم الخميس ، ذهبت إلى أحد المساجد البعيدة عن الحي، وصلت مع النساء صلاة العصر ، وطلبت منهن التبرع لصالح فلسطين من خلال الجمعية الخيرية لنصرة الأقصى الشريف ، وعند عودتها إلى من المسجد هطلت عليها أمطار غزيرة ، فوصلت البيت ، وظلت على الفراش مريضة حتى صباح الجمعة ، حيث انتقلت إلى جوار ربها .
بكاها الجميع ، نساءً ورجالاً ، وحضر الدفن جمعٌ من الناس ، بعضهم من رفاق الشهيد ، فكانوا يبكوهما معاً.
* كتب المادة عبدالعزيز سرحان نقلا عن والده الذي توفي قبل أيام، وكان مرافقا لـ عبده محمد المخلافي، رحمهم الله جميعا.