عنف التوليد بمشافي اليمن.. الصرخة المكتومة
- الجزيرة نت - علياء يوسف السبت, 18 ديسمبر, 2021 - 07:46 مساءً
عنف التوليد بمشافي اليمن.. الصرخة المكتومة

[ امرأة يمنية تحمل طفلها بعد الولادة في مركز صحي (الجزيرة) ]

تختصر سامية عبد الله (33 عاما) من مدينة حرف سفيان بمحافظة عمران (شمال صنعاء) تجربتها المؤلمة أثناء ولادتها الأخيرة وحجم العنف والإساءة اللذين تعرضت لهما خلالها بقولها "إنها لا تفكر في الحمل ثانية".

 

وبالإضافة إلى الأضرار النفسية الناجمة عن الشتم والإهانة وإهدار كرامتها تسببت ملابسات الولادة العنيفة لسامية (اسم مستعار) -كدفع البطن بقوة وربطها بالسرير وتكميمها ثم توسعة مجرى الولادة بشكل خاطئ- في مضاعفات بالرحم استوجبت عمليتين جراحيتين لإغلاق ناسور ولادي بولي.

 

تغيرت حياة سامية -وهي أم لـ3 أطفال- رأسا على عقب إثر الولادة الأخيرة، فقد أصيبت باكتئاب شديد ورغبة في العزلة عن الجميع، كما كلفت مضاعفات الولادة عائلتها الكثير من الأموال، الأمر الذي استدعى بيع ممتلكاتها والاقتراض من أجل استكمال علاجها.

 

آثر زوجها الصمت، فيما يؤكد والدها أنه لم يرفع قضية ضد المركز الصحي الذي أجريت فيه الولادة خوفا من مشاكل هو في غنى عنها، وقرر أن يتحمل وضعها النفسي والصحي وتكاليف العلاج.

 

ويثبت الاستبيان الذي أعد ضمن هذا التحقيق أن سامية هي ضمن واحدة من كل 5 نساء تعرضن لشكل من أشكال عنف التوليد، وحصلت نسبة 83% من هذه الحالات في المستشفيات اليمنية الخاضعة لوزارة الصحة العامة والسكان، فيما تتجنب ذوات الحالات المرصودة رفع دعاوى استرداد حقوق.

 

بدوره، يؤكد استشاري أمراض وجراحة المسالك البولية والأمراض التناسلية الدكتور خالد السنحاني أن الحالة المرضية التي تعاني منها سامية ناتجة عن عنف غير مبرر وخطأ طبي في عملية الولادة، مما أدى إلى ضعف تروية الرحم والمثانة بسبب عملية الضغط، مما تسبب في تدلي الرحم وهبوط المثانة.

 

وحسب الدكتور السنحاني، فإن حالتها كانت تحتاج إلى عملية قيصرية لعدم انفتاح الرحم وتهيئته لعملية الولادة، مشيرا إلى أنه من الخطأ طبيا القيام بالدفع والتقييد والتكميم أثناء الولادة، أو القيام بتوسعة مجرى الولادة بالصورة التي جرت للمريضة.

 

ويضيف أن الكثير من الحالات التي استقبلها نتجت عن عنف أو إجراء طبي غير مبرر أثناء عملية الولادة، أو قصور في تشخيص احتياج الحالة للولادة القيصرية أو الطبيعية.

 

ويوثق هذا التحقيق قصص العشرات من النساء اليمنيات اللواتي تعرضن للعنف أثناء الولادة، وهي ظاهرة متفاقمة في مستشفيات حكومية وخاصة، دون حماية قانونية أو إجراءات رادعة تحفظ حياة النساء وأطفالهن، كما أنها تدخل ضمن المسكوت عنه لأسباب اجتماعية وقانونية.

 

ظاهرة شائعة

 

في استبيان إلكتروني لمعدة التحقيق شمل 18 من أصل 22 محافظة -خلال الفترة من أكتوبر/تشرين الأول 2020 وحتى أغسطس/آب 2021- تم رصد ظاهرة عنف التوليد وأشكالها والآثار الناتجة عنها وجمع بيانات نساء قمن بعملية ولادة سابقة.

 

يتضح أيضا وجود ما يسمى عنف التوليد في أغلب المستشفيات الحكومية، وأن ممرضات وقابلات وطبيبات يعملن في مجال التوليد يقمن بتصرفات يصنف البعض منها اعتداء جسديا، وشملت الإساءات أيضا اعتداءات نفسية كالشتم والتوبيخ، والتي صنفت كأخطاء طبية لإجراءات غير مبررة.

 

وتبين من خلال الاستبيان أن 79% من إجمالي النساء تعرضن على الأقل لأحد أشكال عنف التوليد اللفظية والجسدية، وأن 5% منهن أكدن تعرض أطفالهن لمضاعفات ناتجة عن عملية الولادة، كما أن 2% قمن بزيارة طبيب نفسي عدة مرات بسبب الظروف القاسية لعملية الولادة، كما أن 23% من العينات المرصودة فكّرن بعدم تكرار تجربة الولادة مرة ثانية.

 

واتضح أيضا أن 71% من العينات اعتقدن أن ما حصل طبيعي ولا يعد تعديا على حقوقهن.

 

ورصد الاستبيان أكثر من 11 شكلا من أشكال عنف التوليد اللفظي والجسدي، 83% منها حصلت في المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية و17% أثناء الولادة في المستشفيات الخاصة أو المنازل، كما أثبت الاستبيان أن نسبة التعرض لعنف التوليد تزيد في المدن مقارنة بالمناطق الريفية.

 

جسد بلا روح

 

تقول سامية إن الطبيبة قامت بقص العجان دون موافقتها أو موافقة أحد أفراد أسرتها، ولم تسبق العملية أي فحوصات طبية، كما تم تقييدها إلى طرفي سرير الولادة بشكل قوي ومؤلم وتوجيه إهانات لفظية لها من قبل الممرضات وتكميمها لكتم صراخها من الألم، وكررن مقولة "ما حد قلك تتزوجي وتيجي عندنا تصيحي".

 

ترددت سامية لاحقا على الكثير من الأطباء بسبب الألم الشديد الذي نتج عن عملية الولادة، وقد دفعها عنف التجربة إلى عدم التفكير بالحمل ثانية، إذ تقول "هؤلاء مش ملائكة رحمة، هؤلاء ملائكة عذاب".

 

حالة سامية هي واحدة من 50 امرأة قابلتهن معدة التحقيق خلال 6 أشهر، وتحدثن عن تعرضهن لعنف التوليد في مستشفيات حكومية وخاصة وأخرى تابعة لمنظمات دولية، ومن قبل طبيبات وممرضات وقابلات يمتهنّ عمليات التوليد.

 

ويعرّف عنف التوليد حسب منظمة "لامازا" الدولية (Lamaze) بأنه كل إساءة أو اعتداء جسدي أو جنسي أو لفظي أو التنمر أو الإكراه والإذلال والاعتداء الذي يحدث للنساء أثناء عملية الولادة من قبل الطاقم الطبي، بمن في ذلك الممرضات والاطباء والقابلات، ويشمل تعرض المرأة أثناء المخاض أو الولادة لسوء المعاملة وعدم احترام حقوقها، بما في ذلك إجبارها على اتخاذ إجراءات ضد إرادتها على أيدي العاملين في المجال الطبي.

 

في الحالات التي وثقها التحقيق أدى عنف التوليد إلى أضرار صحية ونفسية بالغة وصلت إلى التدخل الجراحي والإضرار بالجنين، في مخالفة للقانون رقم 28 لسنة 2000، والذي قضى بإنشاء المجلس الطبي اليمني لغرض حماية حقوق المرضى والنهوض بالمهن الطبية ومراقبة أداء مزاولي المهن الطبية.

 

وينص القانون أيضا في المادة 24 منه على أن للمجلس الطبي اليمني الحق في اتخاذ إحدى العقوبات التأديبية والتي تصل حد سحب تراخيص مزاولة المهنة أو الغرامة المالية والسجن على من ثبت ضدهم الإضرار بالمرضى جراء الإهمال وارتكاب الأخطاء الطبية غير المبررة وعدم الحفاظ على حقوق المرضى في تلقي رعاية صحية متكاملة، لكن ذلك يأتي في ظل قصور رقابي من قبل وزارة الصحة العامة والسكان والمجلس الطبي اليمني.

 

آثار نفسية

 

من جهتها، تقول استشارية أمراض النساء والولادة الدكتورة زينب الخزان إن عنف التوليد ظاهرة منتشرة بشكل كبير، وإن حالات كثيرة ناتجة عن ذلك تصلها بشكل شبه يومي.

 

وتشير الخزان إلى أن التهابات المسالك البولية والناسور الولادي بنوعيه وتدلي الرحم وسقوط المثانة تعتبر من أكثر الأمراض الناتجة عن تصرفات خاطئة أثناء الولادة، منها العنف والدفع دون مبرر طبي وإخضاع المريضة لعمليات دون الحاجة إليها أو العكس، وكذلك إتمام عملية الولادة بوسائل غير مناسبة وأماكن غير مؤهلة.

 

وأضافت أن الإساءة الجسدية كالضرب والتقييد أو اللفظية كالشتم والتوبيخ تزيد حالة تعسر الولادة على عكس المتوقع وأن الحالة النفسية مهمة لتسهيل الولادة، ويمكن أن يستمر أثرها السلبي على المدى البعيد وفي حالات قد تصاب المرأة باكتئاب ما بعد الولادة، ويمكن لهذا أن يشكل حاجزا نفسيا لدى المريضة يستمر معها لأعوام وترفض خلالها تجربة الولادة مرة أخرى.

 

وحسب الخزان، فإن عنف التوليد منتشر وله صور عدة، بعضها يرتبط بالجانب النفسي والآخر بالأخطاء الطبية التي تحصل أثناء الولادة، كما توجد أشكال عنف مرتبطة بالخصوصية والجانب الجسدي.

 

عنف مركب

 

في العاصمة صنعاء تعرضت نجلاء محمد (27 عاما) إلى عدة أشكال من عنف التوليد خلال ولادتها الأولى والثالثة.

 

تقول "في ولادتي الأولى منتصف العام 2017 بمستشفى فلسطين (زايد سابقا) كنت في غرفة العمليات بانتظار الطبيبة، قالت لي الممرضة انتظري لمّا تقوم الدكتورة من النوم علشان تولّدك".

 

ظلت نجلاء تصرخ من آلام المخاض لأكثر من ساعتين دون أي تدخل من الممرضات للتخفيف عنها، وعند حضور الطبيبة -كما تقول- "هددتني إذا لم أتوقف عن الصراخ فإنها ستستدعي طبيبا يقوم بإجراء العملية".

 

تعرضت نجلاء أيضا للضرب والتقييد والدفع بشدة على البطن، وتكرر الأمر في ولادتها الثالثة في مستشفى الأمومة الآمنة بالعاصمة صنعاء، فقد تم تقييدها وتكميمها والتلفظ تجاهها بكلمات تحط من كرامتها، على حد تعبيرها.

 

تقول نجلاء إنها أصبحت تخاف بشدة من عمليات الولادة، وظلت ترقب بخوف إمكانية حدوث الحمل مرة أخرى، ولم تستطع التحدث مع زوجها وعائلتها حول حادثة العنف التي حصلت لها خوفا من المشاكل والنظرة السلبية.

 

يعرّف علم النفس حالة الخوف من الولادة المعروفة علميا بـ"توكوفوبيا" (Tokophobia) بأنها الحالة النفسية التي تنتاب المرأة من المخاض أو الولادة، فتسعى لتجنب الحمل، وهي حالة تصيب نحو 22% من النساء، لكن هذه النسبة تزداد في حالة تعرض المرأة إلى تجربة مؤلمة خلال ولادتها، خصوصا عنف التوليد.

 

بدورها، تؤكد اختصاصية برامج الصحة الإنجابية في صندوق الأمم المتحدة للسكان الدكتورة أفراح الأديمي أن ظاهرة عنف التوليد منتشرة في المراكز الصحية اليمنية وتمارس غالبا بسبب ضعف الوعي بماهية هذه التصرفات، نظرا لعدم التطرق إلى خطورة هذه الظاهرة والتوعية بها واعتبارها من المسكوت عنه.

 

وتتعدد أشكال العنف حسب الدكتورة الأديمي، مثل عدم وجود فواصل بين الأسرّة في غرف الولادة واحترام الخصوصية وإجراء عمليات دون الحاجة والعنف الجسدي واللفظي.

 

وأضافت أن الكثير من الكوادر الطبية والنساء يعتقدن أن بعض هذه التصرفات عادية ولا تصنف عنفا جسديا أو لفظيا، كما يحصل خلط في بعض الأوقات بين الممارسات التي تهدف لحماية المرأة من فرط الحركة والحفاظ على صحة الجنين أثناء الولادة وبين عنف التوليد.

 

وحسب الدكتورة الأديمي، لا توجد أي إحصائية لدى صندوق الأمم المتحدة للسكان أو شركائه المحليين حول هذه الظاهرة، نظرا لعدم وجود دراسات أو مشاريع تسعى للتوعية بمخاطرها، إضافة إلى عدم رفع الأغلبية العظمى من النساء شكاوى إلى الجهات المختصة والمنظمات العاملة في مجال المرأة والصحة الإنجابية.

 

تجاوزات الضرورة

 

أثناء عملية البحث قابلت معدة التحقيق 7 قابلات وممرضات ممن يمتهنّ التوليد في مراكز صحية أو بالمنازل، واتضح أن 5 من أصل 7 منهن يعتبرن بعض التصرفات التي تصنف عنف توليد ضرورية لنجاح عملية الولادة، كما أنهن جميعا لا يعرفن أي معلومة سابقة عما يسمى عنف التوليد.

 

تعمل القابلة الصحية "أم محمد النجدي" (41 عاما) في مجال التوليد منذ 17 عاما في مراكز صحية بمحافظة إب (وسط اليمن)، وتقول إنها تضطر إلى تقييد النساء، وإنها في حالات كثيرة تقوم بوضع قطعة قماش لتكميم أفواههن بسبب صراخهن أثناء عملية الولادة.

 

من جهتها، لا تستبعد القابلة الصحية "أم محمد" أن تتلفظ أحيانا بكلمات خارجة، معللة ذلك بالضغط النفسي الحاصل أثناء عملية الولادة، كما أن الدفع على البطن أو التقييد أو التكميم وحتى قص العجان وغيرها تعد كلها -بحسبها- إجراءات تساعد على تسهيل إتمام عملية الولادة.

 

في الجانب الآخر، تقول الدكتورة مريم (اسم مستعار) -وهي طبيبة نساء وولادة تعمل في مركز الأمومة الآمنة بالعاصمة صنعاء ومستشفيات حكومية أخرى- إنه قد يحصل مسك مبالغ فيه أحيانا خوفا من فرط الحركة التي قد تضر بالجنين وعملية الولادة، لكن قد تحصل أيضا تجاوزات ترافق عملية الولادة، مثل شد الشعر والضرب والصفع على الوجه، والإهمال والترك المتعمد أثناء المخاض، وعدم وجود حواجز في غرف التوليد أو انتهاك الخصوصية بالتوليد في ممرات المراكز الصحية.

 

وتشير إلى أن هذه التجاوزات حصلت في مستشفيات بأمانة العاصمة ومراكز صحية في صنعاء والمحافظات الأخرى، وتم رصدها لممرضات وطبيبات يمنيات ومن جنسيات أخرى، وأن مشكلة نقص الوعي لدى المرأة الخاضعة لعملية الولادة ولدى الممرضات والطبيبات في خطورة ذلك على المرأة والطفل -والتي قد تصل إلى وفاة الأم أو الطفل- موجودة بشكل كبير.

 

إهمال قانوني ورقابي

 

بدوره، يؤكد المحامي عبد الرقيب النجار المختص في قضايا الأخطاء الطبية ورود الكثير من القضايا إلى المجلس الطبي اليمني ولها علاقة بالأخطاء الطبية غير المبررة والناتجة عن عنف التوليد.

 

وأضاف النجار أن هناك قصورا شديدا في البت في هذه القضايا ومحاسبة ومراقبة أداء ممرضات وطبيبات الولادة، إلى جانب تدني الوعي المجتمعي بضرورة حصول المرأة على الرعاية الصحية اللازمة أثناء الولادة، وأن أي تجاوز أو خطأ بحقها يستدعي محاسبة المتسبب به.

 

ويشير النجار أيضا إلى وجود إهمال رقابي وتنفيذي في ما يخص المتسببين في هذه الأخطاء من قبل المجلس الطبي، وهو جهة مخولة -حسب تعبيره- ولها صلاحية تشكيل لجان تحقيق في القضايا المرفوعة إليها وكذلك لجان رقابية على أداء المستشفيات ومزاولي المهن، بما يضمن حصول المرضى على حقوقهم.

 

وعن تصنيف عنف التوليد قانونيا، يقول إن هذا العنف إذا ارتقى إلى الخطأ الطبي فإنه يخضع للمادة 24 من القانون عدد 28 لسنة 2000 واللوائح التأديبية الداخلية للمجلس الطبي، وإذا كان غير ذلك فإنه يخضع لتقييم لجان المجلس الطبي، وعلى أثره يحدد الإجراء التأديبي المناسب.

 

تواصلت معدة التحقيق مع بعض الطبيبات ورؤساء أقسام التوليد في المستشفيات التي ذكرت ضمن عملية البحث على أنها مارست عنف التوليد، وتواصلت مع المجلس الطبي اليمني للرد حول آلية الرقابة على المستشفيات ومزاولي المهن الطبية المرتبطة بعمليات الولادة وإذا كانت هناك قضايا مرفوعة وعملية رصد لظاهرة عنف التوليد، والإجراءات التي تم اتخاذها، دون تلقي أي رد بخصوص ذلك حتى إعداد التحقيق للنشر.

 

وفي غياب القوانين الرادعة والرقابة الصارمة وطغيان ثقافة الكتمان تتجرع الكثيرات من نساء اليمن مرارة تجاربهن القاسية أثناء الولادة بصمت، فيما تنتشر ظاهرة عنف التوليد بشكل صادم -كما أثبتت الأرقام- مشكّلة واحدة من الظواهر الطبية والاجتماعية المقلقة في المجتمع اليمني.

 

تم إنتاج هذا التحقيق في إطار مشروع تطوير قدرات الصحفيات اليمنيات في الصحافة الاستقصائية الذي ينفذه المركز اليمني لدعم الإعلام بالشراكة مع صندوق دعم التحقيقات الاستقصائية "نوى".


التعليقات