التضييق على شبكات التواصل الاجتماعي: السياسات والأهداف
- الجزيرة نت الإثنين, 07 يناير, 2019 - 09:20 مساءً
التضييق على شبكات التواصل الاجتماعي: السياسات والأهداف

[ احتجاج على استدعاء مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية في لبنان للصحافيين والنشطاء (الأناضول) ]

هذه الورقة هي ملخص دراسة موسَّعة نُشرت في مجلة (لُباب) الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات، وتبحث إشكالية التضييق على منصات التواصل الاجتماعي في سياق العلاقة الارتباطية بين السلطة والإنترنت والحريات من خلال رصد سياسات الدول في محاصرة هذه المنصات وأهدافها.

 

أمام الكمِّ الهائل لاكتساح المعلومات للمجتمعات الحديثة عبر الإنترنت والشبكات الاجتماعية، يتعاظم التضييق على المحتوى الذي يُنشر عبر المنصات الاجتماعية في دول تُعرف عادة بأنظمتها السياسية المغلقة، بل إن دولًا كثيرة توصف بالديمقراطية لجأت إلى حجب هذه المنصات نفسها. ويمكن أن تتضمن القيودُ الحجبَ الصريح أو الخنق الذي يعمل على إبطاء مواقع معيَّنة والحيلولة دون تدفُّق المعلومات عبرها، وقد يصل الخنق إلى حد يجعلها غير قابلة للاستخدام. فقد أعلنت السلطات الإيرانية، مثلًا، عن خطتها لاستبدال تطبيق محلي الصنع بتطبيق "تليغرام"، بعد إيقافه بشكل نهائي لدواعي الأمن القومي، وبسبب دوره في الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في ديسمبر/كانون الأول 2017. وفي عام 2009، حجبت السلطات أيضًا موقعي "فيسبوك" و"تويتر" تزامنًا مع التظاهرات التي أعقبت الانتخابات الرئاسية. وفي عام 2014، حجبت تركيا موقع "تويتر"، كما حجبت "يوتيوب" لمدة 30 شهرًا. وفي دولة مثل باكستان يصعب على السكان دخول موقع "يوتيوب". فمنذ عام 2009، تمَّ حظره بعدما رفضت إدارة الموقع إزالة فيديو سياسي يحرض على النظام. وتذهب الصين إلى أبعد من ذلك؛ إذ شنَّت السلطات حملة حظر على مواقع التواصل عام 2009، أبرزها "فيسبوك"، بينما اتخذت دول أخرى، خلال الفترة الأخيرة، خطوات عملية لإنشاء منصات اجتماعية بديلة؛ حيث أعلن وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في مصر أن بلاده سيكون لديها قريبًا "فيسبوك" مصري.

 

ويتحقق التنظيم والتضييق على الشبكات الاجتماعية، في الآن ذاته، من خلال تجديد أغلب دول العالم، ومن بينها الدول العربية خاصة، لمنظوماتها التشريعية، وتطوير خُطَطها وسياساتها العامة في مجال المعلومات والاتصال بهدف الحد من الجريمة الإلكترونية المتفاقمة باستمرار، بدءًا بالتَّحَيُّل المالي والضرر الاقتصادي، مرورًا بنقد الأنظمة السياسية الحاكمة وتعرية المستور فيها عبر عقود طويلة وفضح فسادها بالصورة والنص، وانتهاء بالاعتداء على حُرْمَة الحياة الخاصة للأشخاص والثَّلب والافتراء والتشويه عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لاسيما بعد حالات الانسياب والتَّسيُّب التي تشهدها المجتمعات العربية بعد الثورات، وتَراجُع سيادة الدولة وسلطة القانون فوق الجميع.

 

إنه مأزق معرفي، للدول جانب مهم من المسؤولية فيه، كما للمجتمع المدني والنُّخَب دور في تناوله سلبًا أو إيجابًا. وهو يقوم على مُفارَقة عجيبة بين الشعار والتنظير والواقع، من خلال التَّعلُّق بما يُشْبِهُ السراب: أخلاق وقانون مجتمع المعلومات والاتصال الإلكتروني، وكذلك مقاومة الإرهاب السيبراني، وصَوْن هَيْبَة الدولة وحماية النظام العام بما تَكْتَنِزانه من غموض واجتهادات وتأويلات وتوظيف في الواقع وفي النصوص القانونية أيضًا. هنا، نضع رهانًا معرفيًّا آخر لا يقل صعوبة: لماذا التضييق على الإنترنت الحر، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية بشكل خاص؟ لماذا، وكيف تتمُّ محاصرة الشبكات الاجتماعية في الدول التي تمنع تدفق المعلومات؟ ما أهداف هذه الدول واستراتيجياتها وسياساتها، وتأثيرات ذلك على المجتمع والحريات وطبيعة الخدمات التي تقدمها الشبكات الاجتماعية؟ كيف نرسم حدود ما يُمكن تقنينه باعتباره يدخل في إطار المعترف به والمباح، وما يُمكن نَعْتُهُ بجريمة تُخِلُّ بقواعد التعامل المواطني المدني الذي على الدولة تأمينه وصيانته؟ ماذا نحتاج من عمل مُمَنْهَج حتى لا يَتعلَّل النظام الحاكم بِحُجَّة مقاومة الإرهاب، وفَرْض النظام العام وسيادة الدولة وهيبتها، وحماية "الأخلاق الحميدة"، ليحاصر الشبكات الاجتماعية، ويضيق عليها، ويحجب المواقع، ويسلب عامَّةَ الناس حقهم في حرية الرأي والتعبير؟

 

وفي دراستنا لهذا الحقل الاستفهامي تبين أن مسألة التضييق على شبكات التواصل الاجتماعي تندرج في سياق السلطة والإنترنت والحريات. فالمجتمع المعرفي والمعلوماتي مثلما يغيِّر الواقع الافتراضي في زمن قياسي، فهو يحيك في نفس الوقت خيوط العلاقات والروابط المجتمعية، ويهزُّ عرش أقوى الحكومات، بِفِعْلِ ما يُمكن اعتباره تجاوزًا للحقوق والواجبات. ما استوجب إعادة النظر بصفة جدية فيما يُعرَف بحرية الرأي والتعبير وإعادة تنظيمها بل وتقنينها، خاصة وأن شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية تضم مليارات المشتركين، وحَوَّلَ معها المشهد الوسائطي حياةَ الفرد إلى فضاء افتراضي رقمي حُرٍّ.

 

كما أن تَحوُّل مواقع التواصل الاجتماعي من فضاء دردشة إلى مساحة لتبادل الأفكار وإبداء الآراء السياسية بحرية لا تفسحها وسائل الإعلام المكتوبة والفضائية، قد أثار خشية الدوائر السياسية في عدد من الدول؛ وهو الدافع الرئيسي للتضييق على استخدام هذه المواقع، ولكن الذرائع كانت بالأساس أمنية وسياسية، حفاظًا على الأمن العام ومقاومة للعنف والإرهاب عبر الشبكات.

 

وقد لجأت بعض الدول إلى توظيف الفراغ القانوني للنشر الإلكتروني في التشريع العربي والعالمي، واختارت الاعتداء على الحريات الاتصالية والإعلامية، خاصة في بعض الدول العربية، والتي تَسْتَنِدُ، في سَنِّها للتشريعات الإعلامية في ظل تَطوُّر وسائل الاتصال الجديدة، إلى مصلحة النظام الضَّيِّقة قبل المبادئ القانونية الدولية والمعاهدات الدولية، وقبل ضوابط أخلاق المجتمع المحلي أيضًا.

 

وخلصت الدراسة إلى أن الخوض في مسألة التضييق على شبكات التواصل الاجتماعي يكشف إلى حد ما خيوط لعبة السياسة والحكم والمال للتَّمَكُّن من الحريات والإنترنت، في مشهد أخطبوطي مفارق محيِّر بين المنطقي واللامنطقي، طالما أن قوة هذا الوسيط الناشئ قد تتجاوز أحيانًا قوة السلطات القديمة والتقليدية عبر التاريخ. وتتواصل، بالتالي، المعركة التقنية والقانونية بين سلطة تسعى إلى أن تسلب عامة الناس حقهم في حرية الرأي والتعبير، وبين قوة مجتمعية افتراضية ناشئة عاهدت نفسها على عَدَمَ التفريط في مكاسب حرية الرأي والتعبير ونجاعة الإنترنت، مهما تطورت آليات الرقابة الإلكترونية على الإنترنت، ومهما سُنَّت التشريعات القانونية، المُنظِّمة للمجتمع والديمقراطية ظاهريًّا، والكابحة للحريات وحقوق الإنسان باطنيًّا.


التعليقات